حسن النهاية من حسن البداية

معمر حبار

[email protected]

زاره في بيته، ليقدّم له واجب العزاء، إثر وفاة والدته، رحمة الله عليها. جلس جلوس التلميذ، وهو يستمع باهتمام شديد، للابن وهو يتحدث عن أمه، بحرارة وصدق، يلمسها الزائر، بمجرد أن فتّحت له الأبواب.

كانت الزيارة سريعة خاطفة، لكن الزائر حمل معه فوائد، لم يشأ أن يحتفظ بها لنفسها، لِما لها من أثر طيب، يتجاوز السامع والقارئ معا.

قال الابن وهو يحبس دموعه أمام زائره، أن الأم نطقت بالشهادة كاملة، دون أن تستعين بأحد، وهي التي لم تقرأ طيلة عقدها التاسع، ولم تعرف شكل الكراس، ولا لون القلم، ولقيت ربها، مستقبلة القبلة، وجالسة جلوس بين السجدتين.

حينها استحضر الزائر، ماقرأه وسمعه من العلاّمة محمد سعيد رمضان البوطي، رحمة الله عليه، حين أكد أكثر من مرة ..

 أن المرء يُعرف من خلال اللحظات الأخيرة التي يُلاقي فيها العبد ربه. إن كان المال أعمى بصره وبصيرته، كان آخر كلامه، الحرص على المال. وإن كان منافقا، ظهر النفاق في آخر كلامه. وإن كان سيء الباطن، ويخدع الناس بأنه الأحسن والأفضل، برز السيئ للشهود والعيان. وإن كان حسن السيرة، صادق القول والفعل، سمع منه الأشهاد، مايؤكد صفاءه ونقاوته.

والسبب في ذلك، أن المرء حينما يتراءى له مقعده، يغيب عن دنياه، وتتحكم فيه أخراه، ويطفو على السطح، عمقه وحقيقته، التي لايستطيع ردها، ولا يمكنه أن يستبدلها.

 إن اللحظات الأخيرة، لاعلاقة لها بالمستوى العلمي، وبالخبرة في الحياة، وحسن البيان، والمال والجاه والمتاع. فهذه الميزات يملكها المرء، حين سُمح له أن يملكها ويوجّهها، أما وقد انتهت صلاحياتها، وانتُزعت من المرء، صلاحيات التحكم فيها وتوجيهها، فلن ينفعه شيء، لأنه لايملك أيّ شيء.

وفي هذه اللحظات الحاسمة، يتساوى صاحب التاج والمحتاج، والعالم والجاهل، والحاكم والمحكوم، والغني والفقير، ومن له 10 أبناء ومن لم يرزق بابن واحد، والصحيح والمريض، والمتصدّق والمتسوّل، والمالك والمعدوم. فيخرج حينئذ، الباطن الذي يتحكم فيه، من يملك السّر وأخفى. فإن كان حسنا ظهر، وإن كان سيئا عُلم.

ثم راح الابن يتحدث بافتخار، عن خدمته لأمه، وتقديم الطعام والشراب والنفقة لها، وكان في كل مرّة إلا ويكرّر على سمع زائره، أنه سعيد بكون الأم، لقيت ربها نظيفة الملبس، نقية الجسد، طاهرة المكان.

 ثم استرجع زفرات من عمق بعيد، ليقولها بكل اعتزاز.. طلبت من الله تعالى أن لايكشفني، وأن يستر أمي، والحمد لله، أن لقيت الأم ربها، مستورة غير مكشوفة، وهي التي بلغت من العمر 93 سنة.

إن الستر في الدنيا مطلوب، وفي الآخرة مرغوب، ومن طلبه عمل به، وسعى إليه. والستر فضيلة، والفضائل لاتُنتهك. ورحم الله كل من ستر، وبشرى لمن لقي ربه مستورا.