كل عام وأنتم بخير

أ.د. عبد الرحمن البر

أ.د. عبد الرحمن البر

عميد كلية أصول الدين بالمنصورة

وعضو مكتب الإرشاد بجماعة الإخوان المسلمين

وعضو الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين

مع مطلع العام الميلادي دائما يظهر الاختلاف بين من يرى أن الشرع يمنع من تهنئة المسلم للنصارى بمناسبة مولد المسيح عليه السلام وبين من يرى أن الشرع لا يمنع منه.

فالمانعون يرون أن هذا العيد من شعائر النصارى الدينية وأن تهنئتهم فيها من التشبه بهم والرضا بعقائدهم وهو حرام. وغالبا ما ينقل  المانعون في ذلك قول الشيخين الجليلين ابن باز وابن عثيمين، ويؤيدونه بقول الإمامين ابن تيمية، وابن القيم رحمهم الله تعالى في ذلك، خصوصا وأن ابن القيم وصف المنع بأنه اتفاق العلماء.

وفي مقابل ذلك يرى جمهور كبير من العلماء المتأخرين جواز تهنئة النصارى بأعيادهم إذا كانوا مسالمين للمسلمين ومتعايشين معهم، وخصوصا من كان بينه وبين المسلم صلة خاصة، كالأقارب والمعارف والجيران في المسكن، والزملاء في الدراسة، والرفقاء في العمل، وربما كان لبعضهم فضل على المسلم في ظروف معينة، مثل المشرف الذي يساعد الطالب المسلم، والطبيب الذي يعالج المريض المسلم، وغيرهما، باعتبار أن نصوص الشريعة ليس فيها ما يمنع من ذلك، وأن مقاصد الشريعة وقواعدها العامة تدفع في اتجاه الجواز، وأن الأوضاع المعاصرة تختلف عما كان عليه الحال في زمن ابن تيمية وابن القيم. ومن هؤلاء شيخنا العلامة القرضاوي، وفقيه الشام الدكتور مصطفى الزرقا، وشيخنا الدكتور عبد الستار فتح الله سعيد، والشيخ الفقيه الأصولي عبد الله بن بية، وعشرات غيرهم من كبار علماء العصر، ويرون أن التهنئة من البر الذي لم ينهنا الله عنه، ولا سيّما إذا كانوا هم يهنئون المسلمون بأعيادهم.

واشترطوا لذلك ألا تكون التهنئة على حساب ديننا، وألا تشتمل -شفهية كانت أو مكتوبة- على شعار أو عبارات دينية تتعارض مع مبادئ الإسلام كالصليب، وألا تشتمل على أي إقرار لهم على دينهم، أو رضا بذلك، إنما تكون كلمات من المجاملة التي تعارف عليها الناس، وألا تحتوى التهنئة على مخالفات شرعية كإهداء الخمور، أو تناول المحرمات، أو حصول اختلاط يرفضه الشرع، أو كشف للعورات التي أمر الله أن تستر. وعدُّوا التهنئة من قَبيل المُجاملة لهم والمحاسَنة في معاشرتهم، ومن باب حسن الأخلاق التي أمرنا الله بها، ولوناً من ألوان الدعوة إلى الله عز وجل بالحكمة والموعظة الحسنة.

لا بأس بالتهنئة:

الحقيقة أن الرأي الثاني أكثر توافقا مع قواعد الشريعة وأصولها، التي دعت إلى الإحسان في كل شيء وإلى مكافأة الإحسان بالإحسان، ومخاطبة الناس (كل الناس) بالقول الحسن، بل دفع السيئة بالحسنة، إلى غير ذلك مما يضيق المقال عن سرد النصوص القرآنية والنبوية الدالة عليه.

 والقول بأن تهنئتهم في يوم ميلاد عيسى -عليه السلام- حَرام؛ باعتبارها ذات عَلاقة بعقيدتِهم في ألوهيّته أو بنوته لله (تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا) هو محض خطأ، بل إن ميلاده عليه السلام من أقوى الأدلة على بشريته وعبوديته لله، وهو الذي ﴿قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا﴾. وقال ﴿وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا. ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ. مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾.

كما أن التهنئة لا تعني اعتناق عقيدتهم أو الرضا بها، أو الدخول في دينهم، وإنما هي نوع من البر الوارد في قوله تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ وهاتان الآيتان هما دستور العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين.

وأما ماأما قاله الإمامان ابن تيمية وابن القيم فادعاء الاتفاق عليها محل نظر، وإنما نحن بصدد فتوى فقهية، قد تصلح لعصرهما الذي كان مليئا بالحروب الصليبية والغزو التتاري، وأي تهاون كان يعني الرضا بالمحتل، ومن ثم كان اختيارهما الفقهي هو الذي يحفظ للمسلمين عقيدتهم أمام الأعداء، أما في هذا العصر فالأمر مختلف.

ويؤيد إباحة التهنئة: أن القرآن أجاز مؤاكلتهم ومصاهرتهم وذلك أكبر من التهنئة، فقال تعالى ﴿وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ﴾ ومن لوازم هذا الزواج وثمراته: وجود المودة بين الزوجين، والمصاهرة بين الأسرتين، فهل يُتَصور في الإسلام الذي أمر بالبر وبصلة الأرحام والمصاحبة بالمعروف أن تمر مناسبة هذا العيد ولا يهنئ الزوج به زوجته وأصهاره؟ ولا يهنئ الابن به أمه وأجداده وأخواله وخالاته وأولادهم وغيرهم من ذوي قرابته لأمه، وهل يكون هذا من صالح الأخلاق التي بعث لإتمامها النبي صلى الله عليه وسلم «إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ صَالِحَ الأَخْلاَقِ». وهل يكون ذلك من الخلق الحسن الذي أمرت به الشريعة في الحديث الذي صححه الترمذي «وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلقٍ حَسَنٍ»، هكذا قال «خالق الناس» ولم يقل: خالق المسلمين فقط.

وتتأكد مشروعية التهنئة بهذه المناسبة: إذا كانوا هم يبادرون بتهنئة المسلم بأعياده الإسلامية، فقد أُمِرْنا أن نجازي الحسنة بالحسنة، وأن نرد التحية بأحسن منها أو بمثلها ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾، والمفروض أن يكون المسلم هو الأكمل خلقا، كما في الحديث الذي صححه الترمذي: «أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا». ولله در فقيه الأمة ابن عباس إذ قال فيما صح عنه: «لَوْ قَالَ لِي فِرْعَوْنُ: بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ، قُلْتُ: وَفِيكَ، وَفِرْعَوْنُ قَدْ مَاتَ». أي أنه يقول ذلك مع العلم بأن فرعون مات كافرا.

أما القول بأن التهنئة تعني الرضا بعقائدهم فعجيبةحقا! أَلَسْنا نتزوج منهم فنسمح للمرأة أن تمارس عقيدتها وعبادتها في بيتها وأمام أولادها، ويصحبها زوجها أو أبناؤها إلى الكنيسة لتمارس عقيدتها وعبادتها؟ أَلَسْنا نسمح لهم ببناء الكنائس التي اعتبر الليث بن سعد بناءها من عمارة البلاد؟  فهل المبادرة بالتهنئة بعيد الميلاد هي أعظم من الزواج بنسائهم ومن السماح بإنشاء مكان يقام فيه هذا العيد وشعائره؟ وقد رأينا المسلمين والمسيحيين يهنئ بعضهم بعضا بأعيادهم، وما رأينا أحدا من هؤلاء أو هؤلاء تنازل عن دينه أو رضي بدين الآخر، بل الجميع لا يرى في ذلك سوى أنها مجاملة وتلطف.

على أن من العجيب حقا أن ترى بعض القائلين بالمنع من التهنئة يدعون إلى حماية الكنائس ويعلنون استعدادهم للقيام بذلك؟ فأيهما أظهر في الرضا: أن تحميهم وهم يمارسون عيدهم أم أن تهنئهم بهذا العيد؟

وعلى ذلك فإن القول بجواز التهنئة –الذي أرجحه– هو الذي يلتقي مع مبادئ الإسلام وسماحته، وهو أقرب في مدّ جسور العلاقات مع شركاء الوطن وفي إظهار روح التعامل الإسلامية القادرة على استيعاب الاختلاف الذي هو سنة كونية قدرية.

فاصلة: خلط كبير وخطأ واضح وقع من أولئك الذين علقوا على حديث الدكتور محمد مرسي حين حاولوا الإيحاء بأن الدكتور مرسي لا يفرق بين العقيدتين الإسلامية والمسيحية، وإنما كان قصد الدكتور مرسي أنه لا يوجد خلاف بسبب العقيدة بين كل المصريين وحتى بين المسلمين والمسيحيين، فالخلاف ليس بسبب العقيدة؛ لأن حرية الاعتقاد مكفولة للجميع، وإنما الخلافات بين المصريين هي خلافات سياسية في الأفكار والوسائل والآليات.