أولو الألباب 12+13

أولو الألباب

د.عثمان قدري مكانسي

[email protected]

أولو الألباب-12

في الآيات الأولى من سورة الزمرينبهنا المولى عز شأنه إلى الوهيته ،فهو يريدنا عباداً مخلصين له " فاعبد الله مُخلصاً له الدين ، ألا لله الدينُ الخالص.." الزمر 2-3.فمن اشرك بالله أو ادّعى أن له ولداً فهو " ..كذوبٌ كفّارٌ" الزمر 3.ثم يُدلل على قدرته سبحانه بتتابع الليل والنهاروتسخير الشمس والقمر بنظام وترتيب يدل على قدرته وبديع صنعه سبحانه.فهو العزيز يفعل ما يشاء ، وهو الغفور يرحم عباده المؤمنين بوحدانيته. وإنه الخلاق العظيم أوجدنا من نفس واحدة هي أبونا آدم عليه السلام ،ونبَّه إلى الظلمات الثلاث التي نكون فيها في بطون أمهاتنا مما يدل على صنعه الباهر الرائع- سبحانه-

فمن آمن فقد نفع نفسه وأدخلها رحمة الله ومن كفر عوقب بكفره جزاءً وفاقاً ،والله تعالى الغني عن عبادة الناس إياه " إن تكفروا فإن الله غنيٌّ عنكم ، ولا يرضى لعباده الكفر، وإن تشكروا يرْضَهُ لكم.." الزمر 7.

إنَّ من سمات الإنسان أنه ضعيف يتذلل وقت حاجته ويتضرّع إلى ربه ليكشف عنه الغم ويؤتيه الخير ، فإن حازه نسي فضل الله تعالى ونسب الخير إلى نفسه أو إلى آلهة مزعومة متخففاً من التكاليف الربانية،يتبع هواه مبتعداً عن الحق وتبعاته، فيقال له توبيخاً وتهديداً "قل تمتع بكفرك قليلاً ، إنك من اصحاب النار"الزمر8.فمهما عاش الإنسان في الدنيا إن مصيره إلى الخلود في عذاب جهنّم إن كان مشركاً أو كافراً جزاء وفاقاً.

وتأتي المقارنة بين هذا الكافر الذي التصق بالدنيا وجعلها أكبر همّه وبين المؤمن الصادق الذي جعل مخافة الله ورضاه بين عينيه فطلب الآخرة وزهد في الدنيا ونال شرف قيام الليل يسأل الله عفوه ومغفرته ،وهل يفعل هذا إلا أولو الألباب وأصحاب القلوب الحية؟

"أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ "(9) الزمر.

إن من سمات أولي الألباب:

1- القنوت ،وهو الخشوع في الصلاة ،قال ابن مسعود رضي الله عنه: القانت المطيع لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى :" قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون" المؤمنون 1-2. وقال بعضُهم: كل قنوت في القرآن  طاعة لله عز وجل، وروي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل أي الصلاة أفضل ؟ فقال : ( طول القنوت ). وعن ابن عمر رضي الله عنهما:سئل عن القنوت فقال : ما أعرف القنوت إلا طولَ القيام , وقراءةَ القرآن . وقال مجاهد : مِن القنوت طولُ الركوع وغضُّ البصر . وكان العلماء إذا وقفوا في الصلاة غضوا أبصارهم , وخضعوا ولم يلتفتوا في صلاتهم , ولم يعبثوا ولم يذكروا شيئا من أمر الدنيا إلا ناسين . قال النحاس : أصلُ هذا أن القنوت الطاعة

ومن جميل ما قراتُ أن نافعاً مولى ابن عمر روى أن عبد الله بن عمر قال له: قم فصل . قال:فقمت أصلي وكان عليَّ ثوب خلق , فدعاني فقال لي : أرأيت لو وجَّهتـُك في حاجة أكنت تمضي هكذا ؟ فقلت : كنت أتزيَّن قال : فالله أحقُّ أن تتزين له .

2- و آناء الليل جوفه في قول،و بين المغرب والعشاء في قول آخر،و أوله وأوسطه وآخره في قول ثالث. قال ابن عباس : من أحب أن يُهوِّنَ الله عليه الوقوف يوم القيامة , فليرَه الله ُ في ظلمة الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة , ويرجو رحمة ربه . فأولو الألباب في ذكر لله دائم ( وأين نحن من هذا ، نسأل الله العفو والعافية وحُسنَ الختام).

3- وذو اللب والقلب السليم " يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه " خائفٌ راجٍ في حياته كلها ،فإذا حضره الموتُ فليكن الرجاءُ هو الغالبَ ،فعن أنس رضي الله عنه قال دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل وهو في الموت فقال له " كيف تجدك ؟ " فقال له أرجو وأخاف .فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله عز وجل الذي يرجو وأمنه الذي يخافه ". قال ابن عمر ذاك عثمان بن عفان رضي الله عنه، وإنما قال ابن عمر رضي الله عنهما ذلك لكثرة صلاة أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه بالليل وقراءته .وعن تميم الداري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرأ بمئة آية في ليلة كتب له قنوتُ ليلة "

ولن يأخذ هذا القيام من ليل أحدنا أكثر من نصف ساعة مصلياً مفكراً متدبراً ، فيُكتب عند الله متهجداً .وما شرف المؤمن إلا قيامُ الليل ، ينير الله تعالى به وجوهَ عباده ، فيصبحون ينظرُ الناس إليهم مشرقةً وجوهُهم طافحة بالبشر والسرور ، فقد كانوا في ضيافة العظيم سبحانه.

أولو الألباب-13

يتكرر فعل الأمر(قلْ) في بداية الآيات 10-11-13-14-15 في سورة الزمر:

(قل ياعبادِ الذين آمنوا؛ اتقوا ربّكم للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنةٌ وارضُ الله واسعة، إنما يُوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب)

 (قل إني أمرتُ أنْ أعبد اللهَ مُخلصاً له الدينُ...).. ..

(قل إني أخاف إن عصيت ربي عذابَ يومٍ عظيمٍ)

 (قلِ اللهَ أعبُدُ مُخلصاً له ديني)

( قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسَهم وأهليهِم يومَ القيامة.. .. )

فلا بدّ من التبليغ كي لا يبقى لأحد حجة في دين الله.وليصل التشريع من أمر ونهي إلى الجميع،فمن أطاع نجا ومن عصا عوقبَ

فللمؤمنين المتقين الذين أحسنوا القولَ والعملَ في هذه الدنيا الخيرُ الواسع، فإن وجدوا مشقة وعَنَتاً في مكان انتقلوا إلى غيره يقيمون فيه شرع الله ، إن الأرض كلها لله ، ومن كانت الأرضُ له أقام شرعه وفرض فيها ما يريد.فإن منع الظالمون بأرضٍ إقامة شرع الله ولم يتغير عنها القادرون على التحوُّل عنها عوقب هؤلاء نارَ جهنّمَ برضاهم البقاءَ في أرض الفساد وسمّاهم القرآنُ ظالمي أنفسهم ، قال تعالى:"إنَّ الذين تَوفّاهُم الملائكةُ ظالمي أنفسِهم قالوا: فيمَ كنتُم؟قالوا:كنا مستضعفين في الأرض.قالوا ألم تكنْ أرضُ الله واسعةً، فتهاجروا فيها؟فأولئك مأواهم جهنّمُ وساءتْ مصيراً " النساء 97. وقليلاً ما يرضى الناس الانتقال من بلدهم إلى آخر لضعف في الإيمان ورغبةٍ في مكاسب دنيوية قد يخسرونها ، ونسُوا أو تناسَوا أن خسارة النفس يوم القيامة أكبرُ الخسران.

ولا يكون الإخلاص في العبادة بغير بذل الجهد ودفع الثمن،فسلعة الله غالية،وسلعة الله رضاه والجنّة،وجزاء من عصى ربه أن يكون وقودَ النار والعياذُ بالله.، قد يخسر المرء أولادَه وأمواله وبيته وزوجَتَه فيعوّض ما خسره ،أما أن يخسر نفسه في سواء الجحيم إنها لَلخسارةُ العظمى التي لا تُعَوَّض أبداً. وأمعِنِ النظرَ في التصوير المخيف للعيش في جهنّم ،فظُلَلُ النار من فوقهم وظُلَلُ النار مِن تحتهم تشوي كل موضع في أجسادهم وتحرقهم، وهم يتضاغون ويبكون ويصيحون، ولا صريخ لهم.!

ويأتي النداء العُلْويُّ من بعيد وقريب ( يا عِبادِ؛ فاتقونِ)فيجيب المؤمنون : سمعاً وطاعة يا ربَّنا ، لبيك وسعدَيك والخيرُ كلُّه بيديك.فإذا استجاب ذوو القلوب المؤمنة والعقول الصافية بشرهم الله تعالى برضاه والجنة

فبشِّر عبادِ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ (17-18)الزمر.

إن من بعضِ سمات أولي الألباب -هنا - مايلي :

1- يعبدون الله تعالى مخلصين له الدينَ،ولا يشركون به سبحانه من إله واحد.( يجتنبون الطاغوتَ)، والطاغوت ما طغى وتجبر.

2- يصبرون على أمر الله وعبادته، فيجزيهم الله تعالى أجرهم بغير حساب.وهذا من روائع الكرمِ الإلهيّ.

3- سئل أحدهم كيف وصلتَ إلى ما أنت عليه ؟ قال: (الخوفُ من الجبار ، وعملُ النهار والاستغفارُ في الأسحار.)

4- الإنابة إلى المولى والتوبة الدائمة والإحسانُ(أن تعبد الله كأنك تراه،فإن لم تكن تراه فإنه يراك).

5- يستمعون القولّ فيتَّبعون أحسنَه . فإن سأل أحدُهم كيف يتبع أحسنَه؟ فالجوابُ :

أ- (يفهمونه ويعملون بما فيه كقوله تبارك وتعالى لموسى عليه الصلاة والسلام حين آتاه التوراة " فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها) ، بأحسن ما يقدرون من العمل الصالح.

ب- قال ابن عباس : هو الرجل يسمع الحسَنَ والقبيح فيتحدثُ بالحسن وينكُفُ عن القبيح ،فلا يتحدث به .

ج- وقالوا : يستمعون القرآن وغيره فيتبعون القرآن .

د- وقيل : يستمعون القرآن وأقوالَ الرسول فيتبعون مُحكمَه فيعملون به .

هـ- وقالوا بعض العلماء : يستمعون عزما وترخيصا فيأخذون بالعزم دون الترخيص .

و- وقال عبد الرحمن بن زيد : نزلت في زيد بن عمرو بن نفيل وأبي ذر الغفاري وسلمان الفارسي , اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها في جاهليتهم , واتبعوا أحسن ما صار من القول إليهم .

اللهم ارزقنا مكانة أولي الألباب واجعل عاقبتنا كعاقبتهم .