الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للأمراء والحكام

أ.د. عبد الرحمن البر

أ.د. عبد الرحمن البر

أستاذ الحديث وعلومه بجامعة الأزهر وعضو مكتب الإرشاد

 وعضو الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين

أخرج أبو الشيخ في (أمثال الحديث) عن النُّعْمَان بْن بَشِيرt قال سَمِعْتُ النَّبِيَّ ^ يَقُولُ: «مَثَلِي وَمَثَلُ الْأُمَرَاءُ كَمَثَلِ قَوْمٍ رَكِبُوا سَفِينَةً، فَأَصَابَ رَجُلٌ مِنْهُمْ مَكَانًا، فَقَالَ: يَا هَؤُلَاءِ طَرِيقُكُمْ وَمَمَرُّكُمْ عَلَيَّ، وَإِنِّي ثَاقِبٌ هَهُنَا ثُقْبًا فَأَسْتَقِي وَأَتَوَضَّأُ وَأَقْضِي فِيهِ حَاجَتِي، فَإِنْ هُمْ تَرَكُوهُ هَلَكَ وَأَهْلَكَهُمْ، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى يَدَيْهِ نَجَا وَنَجَوْا».

وبلفظ آخر عند الطبراني: «إِنَّ مَثَلَ الأُمَرَاءِ وَمَثَلَ النَّاسِ كَمَثَلِ قَوْمٍ رَكِبُوا سَفِينَةً، فَأَرادَ أَحَدُهُمْ أَنْ يَخْرِقَهَا، فَإِنْ أَخَذُوا عَلَى يَدَيْهِ نَجَا وَنَجَوْا، وَإِنْ تَرَكُوهُ هَلَكَ وَهَلَكُوا».

شرح المثل الوارد في الحديث:

لا غنى للناس عن الانتظام في شكل أمم ودول، يحكمها نظام وقانون، وتتنازل الأمة عن جزء من قوتها وسلطتها تضعه في يد حكامها وقادتها؛  ليستعينوا بذلك على تدبير أمورها، و تطبيق نظمها وقوانينها، وإقامة العدل فيها، وحراسة قيمها ومبادئها، وتحقيق الأمن في جوانبها، ولما كانت السلطة والقوة تغري بسوء التقدير وإساءة الاستغلال فقد دعا الإسلام الأمة إلى مراقبة الحكام والأمراء، والأخذ على أيديهم إن سلكوا سبيل الانحراف، حتى لا يقع الفساد في الأمة بأسرها فتسقط وتهلك، وقد شبه النبي ^ في هذا الحديث حال الأمة مع حكامها بحال جماعة ركبوا سفينة، وكان لأحدهم مكان خاص وموقع متقدم في السفينة، يمر عليه الركاب جميعا، وظن أن له أن يفعل من موقعه ما يشاء، حتى إنه ليرى أن من حقه أن يثقب السفينة من الموقع الذي هو فيه؛ ليسهل عليه أخذ حاجته من الماء للشرب والوضوء والحاجة بسهولة، فإذا تركه ركاب السفينة ليخرقها فإنه لن يغرق وحده، بل ستغرق السفينة بكل مَنْ عليها، ولهذا فإن من مصلحتهم أن يمنعوه من خرق السفينة أو ثقبها بكل الوسائل الممكنة، وإلا عرضوه وعرضوا أنفسهم للهلاك.  

1- سبب تخصيص النبي ^ الأمراء:

 لئن كانت الأمة كلها جسدا واحدا يتضامن بعضه مع بعض في المسؤولية، كما في قوله تعالى ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ [التوبة: 71] وكما في الحديث المتفق عليه عن النعمان بن بشير y أن النبي ^ قال: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ، مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ، تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى»، لئن كان ذلك فإن الإمام أو الرئيس في الناس بمنزلة الرأس من الجسد، إذا صلح صلح الناس، وإن فسد فسدوا، وقد قيل:

إِذا كَانَ رب الْبَيْت بالدفّ ضَارِبًا              فَلَا تلمُ الفتيان يَوْمًا على الرَّقص

ومتى صلح الإمام جمع حوله الصالحين، فانتعشت الفضائل وعزت الأمة، ومتى فسد انضم إليه المفسدون فملأوا البلاد شرا وفسادا، وقد أخرج ابن أبي شيبة عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ قَالَ: كَتَبَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ حِينَ بُويِعَ: «سَلَامٌ عَلَيْكَ، فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكَ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ لِأَهْلِ طَاعَةِ اللَّهِ وَلِأَهْلِ الْخَيْرِ عَلَامَةٌ يُعْرَفُونَ بِهَا، وَيُعْرَفُ فِيهِمْ، مِنَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالْعَمَلِ بِطَاعَةِ اللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَمَّا مَثَلُ الْإِمَامِ مَثَلُ السُّوقِ، يَأْتِيهِ مَا زَكَا فِيهِ، فَإِنْ كَانَ بَرًّا جَاءَهُ أَهْلُ الْبِرِّ بِبِرِّهِمْ، وَإِنْ كَانَ فَاجِرًا جَاءَهُ أَهْلُ الْفُجُورِ بِفُجُورِهِمْ».

ولهذا كانت مهمة الإمام والحاكم أعظم وتبعته أثقل، وفي البخاري عن أبي هريرة t أن رسول الله ^ قال: «... وَإِنَّمَا الإِمَامُ جُنَّةٌ يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ وَيُتَّقَى بِهِ، فَإِنْ أَمَرَ بِتَقْوَى اللَّهِ وَعَدَلَ، فَإِنَّ لَهُ بِذَلِكَ أَجْرًا، وَإِنْ قَالَ بِغَيْرِهِ فَإِنَّ عَلَيْهِ مِنْهُ».

ولهذا أيضا كان تقديم النصيحة إليه أهم وأوجب، فقد أخرج مسلم عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ t أَنَّ النَّبِيَّ ^ قَالَ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ» قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: «لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ».

ولذلك يجب تنبيههم ونصحهم والإنكار عليهم إذا خالفوا أمر الله وأمر رسوله ^، أو ضيعوا مصلحة الأمة، أو قصروا في حماية الأوطان، أو بددوا ثروات الأمة، أو أساؤوا للناس، أو ارتكبوا غير ذلك من المنكرات التي قد تدفعهم إليها الحمية لآرائهم والتعصب لوجهات نظرهم مع ثبوت خطئها وفسادها، والقيام بهذا الواجب هو لون من ألوان التعاون على البر والتقوى.

وإذا قصرت الأمة في ذلك عاقبها الله بتسليط الأشرار عليها وتحكمهم في أمرها ومقدراتها، - فقد أخرج أحمد عن حُذَيْفَةَ t قال: «... لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَتَحَاضُّنَّ عَلَى الْخَيْرِ، أَوْ لَيُسْحِتَنَّكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا بِعَذَابٍ، أَوْ لَيُؤَمِّرَنَّ عَلَيْكُمْ شِرَارَكُمْ، ثُمَّ يَدْعُو خِيَارُكُمْ، فَلَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ».

2 - بذل النصيحة للأمراء ولو لم يقبلوها:

لهذا أيضا حذر النبي ^ من المداهنة وبخاصة للأمراء وذوي السلطان؛ لما يجر إليه ذلك من إفسادهم، وقد جاء في حديث النعمان بين بشير y عند البخاري: «مَثَلُ المُدْهِنِ فِي حُدُودِ اللَّهِ وَالوَاقِعِ فِيهَا، مَثَلُ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا سَفِينَةً، فَصَارَ بَعْضُهُمْ فِي أَسْفَلِهَا وَصَارَ بَعْضُهُمْ فِي أَعْلاَهَا، فَكَانَ الَّذِي فِي أَسْفَلِهَا يَمُرُّونَ بِالْمَاءِ عَلَى الَّذِينَ فِي أَعْلاَهَا، فَتَأَذَّوْا بِهِ، فَأَخَذَ فَأْسًا فَجَعَلَ يَنْقُرُ أَسْفَلَ السَّفِينَةِ، فَأَتَوْهُ فَقَالُوا: مَا لَكَ، قَالَ: تَأَذَّيْتُمْ بِي وَلاَ بُدَّ لِي مِنَ المَاءِ، فَإِنْ أَخَذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَنْجَوْهُ وَنَجَّوْا أَنْفُسَهُمْ، وَإِنْ تَرَكُوهُ أَهْلَكُوهُ وَأَهْلَكُوا أَنْفُسَهُمْ»   

والْمُدَاهَنَةَ: أَنْ يُضَيِّعَ الإنسانُ الْحُقُوقَ ويَرَى مُنْكَرًا وَيَقْدِرَ عَلَى دَفْعِهِ ثم لا يَدْفَعُهُ؛ مجاملةً لمُرْتَكِبِهِ وحِفْظًا لِجَانِبِه أَوْ جَانِبِ غَيْرِهِ، لِخَوْفٍ أَوْ طَمَعٍ، أَوْ لِاسْتِحْيَاءٍ مِنْهُ، أَوْ قِلَّةِ مُبَالَاةٍ فِي الدِّينِ. وَهي خلاف الْمُدَارَاةِ المأمورِ بها، ومعناها: مُوَافَقَةُ شَخْصٍ ما، بِتَرْكِ حَظِّ نَفْسِهِ وَحَقٍّ شخصيٍّ يَتَعَلَّقُ بِمَالِهِ وَعِرْضِهِ؛ دَفْعًا لِلشَّرِّ وَتجنُّبا لوُقُوعِ الضَّرَرِ.

وعدَّ النبي ^ نصيحة الحاكم الجائر من أفضل الجهاد، فقد أخرج أبو داود والترمذي وحسنه عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ t قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ^: «أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ، أَوْ أَمِيرٍ جَائِرٍ»، وفي رواية عند أحمد: «أَلَا لَا يَمْنَعَنَّ رَجُلًا مَهَابَةُ النَّاسِ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِالْحَقِّ إِذَا عَلِمَهُ، أَلَا إِنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ»، وفي رواية عند أحمد بأسانيد صحيحة: «أَلاَ لاَ يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ رَهْبَةُ النَّاسِ أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ إِذَا رَآهُ أَوْ شَهِدَهُ؛ فَإِنَّهُ لاَ يُقَرِّبُ مِنْ أَجَلٍ وَلاَ يُبَاعِدُ مِنْ رِزْقٍ أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ أَوْ يُذَكِّرَ بِعَظِيمٍ»، وأخرج النسائي بسند صحيح عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ t أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ ^ وَقَدْ وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الْغَرْزِ: أَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ».

وهذا ما كان يحرص عليه أصحاب النبي ^، فقد أخرج  مسلم عن الحسن البصري أن عَائِذَ بْنَ عَمْرٍو t، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ^ دَخَلَ عَلَى عُبَيْدِ اللهِ بْنِ زِيَادٍ، فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ^ يَقُولُ: «إِنَّ شَرَّ الرِّعَاءِ الْحُطَمَةُ، فَإِيَّاكَ أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ» ، فَقَالَ لَهُ: اجْلِسْ فَإِنَّمَا أَنْتَ مِنْ نُخَالَةِ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ ^. فَقَالَ: «وَهَلْ كَانَتْ لَهُمْ نُخَالَةٌ؟ إِنَّمَا كَانَتِ النُّخَالَةُ بَعْدَهُمْ، وَفِي غَيْرِهِمْ».

فإن تجاوز الحاكم الجائر فقتل الناصح الأمين فقد فاز بأعظم أصناف الشهادة، فقد صحح الحاكم في المستدرك عَنْ جَابِرٍ t، وله شواهد عن غير جابر، عَنِ النَّبِيِّ ^ قَالَ: «سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَرَجُلٌ قَالَ إِلَى إِمَامٍ جَائِرٍ فَأَمَرَهُ وَنَهَاهُ فَقَتَلَهُ».

فإذا قعدت الأمة عن هذا استحقت السقوط والهلاك حين ترضي بالظلم وتسكت على الظالم, فقد أخرج أحمد بسند صحيح وصححه الحاكم والذهبي والهيثمي عن عبد الله بن عمرو y عن النبي ^ قال: «إِذَا رَأَيْتُ أُمَّتِي تَهَابُ الْظَالِمَ أَنْ تَقُولَ لَهُ إِنَّكَ أَنْتَ ظَالِمٌ فَقَدْ تُوُدِّعَ مِنْهُمْ»أي صار وجودهم كعدمهم، وأخرج أيضا عن عَدِي بن عُمَيْرة t عن النبي ^ قال: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لاَ يُعَذِّبُ الْعَامَّةَ بِعَمَلِ الْخَاصَّةِ حَتَّى يَرَوُا الْمُنْكَرَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ وَهُمْ قَادِرُونَ عَلَى أَنْ يُنْكِرُوهُ فَلاَ يُنْكِرُوهُ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَذَّبَ اللَّهُ الْخَاصَّةَ وَالْعَامَّةَ». ويشير إلى ذلك الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز رحمه الله, فيقول: «إن الله لا يؤاخذ الْعَامَّةَ بِعَمَلِ الْخَاصَّةِ, فإذا ظهرت المعاصي فلم ينكروها استحقوا العقوبة جميعا».

وصدق الله العظيم: ]وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً[ (الأنفال:25).

أخرج أبو الشيخ في (أمثال الحديث) عن النُّعْمَان بْن بَشِيرt قال سَمِعْتُ النَّبِيَّ ^ يَقُولُ: «مَثَلِي وَمَثَلُ الْأُمَرَاءُ كَمَثَلِ قَوْمٍ رَكِبُوا سَفِينَةً، فَأَصَابَ رَجُلٌ مِنْهُمْ مَكَانًا، فَقَالَ: يَا هَؤُلَاءِ طَرِيقُكُمْ وَمَمَرُّكُمْ عَلَيَّ، وَإِنِّي ثَاقِبٌ هَهُنَا ثُقْبًا فَأَسْتَقِي وَأَتَوَضَّأُ وَأَقْضِي فِيهِ حَاجَتِي، فَإِنْ هُمْ تَرَكُوهُ هَلَكَ وَأَهْلَكَهُمْ، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى يَدَيْهِ نَجَا وَنَجَوْا».

وبلفظ آخر عند الطبراني: «إِنَّ مَثَلَ الأُمَرَاءِ وَمَثَلَ النَّاسِ كَمَثَلِ قَوْمٍ رَكِبُوا سَفِينَةً، فَأَرادَ أَحَدُهُمْ أَنْ يَخْرِقَهَا، فَإِنْ أَخَذُوا عَلَى يَدَيْهِ نَجَا وَنَجَوْا، وَإِنْ تَرَكُوهُ هَلَكَ وَهَلَكُوا».

3 – الإسلام يرفض الإمعية في الأمة:

يرفض الإسلام أن يبقى المسلم سلبيا لا يعين على المعروف ولا ينهى عن المنكر، أو جبانا يخشى من قول الحق على تفسه أو رزقه، أو صاحب هوى يجامل المبطلين على حساب الحق، ويؤكد الحديثُ الشريفُ أن هذا الخُلُقَ سِرُّ هلاكِ الأمم وسقوطِها، فلو تُرِك أي إنسان في المجتمع المسلم –الحاكمُ أو غيرُه من العوامّ- يفعلُ ما يشاء ويخرق السفينة أو يفسد في الأرض لكان الهلاك للجميع، ويعدُّ الإسلامُ الشخصَ غيرَ المبالي إِمَّعةً عديمَ الشخصية، فقد أخرج الترمذي وحسَّنه عَنْ حُذَيْفَةَ t قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ^: «لَا تَكُونُوا إِمَّعَةً، تَقُولُونَ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ، إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا، وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَا تَظْلِمُوا»، وفي (الزهد) لأبي داود فسر ابن مسعود الإمعة بأنه «الَّذِي يَجْرِي بِكُلِّ رِيحٍ»، وفي (السنة) لأبي بكر بن الخلال فسر إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ الإِمَّعَةً بأنه «الذي يَقُولُ: إِنْ ضَلَّ النَّاسُ ضَلَلْتُ، وَإِنْ اهْتَدَوُا اهْتَدَيْتُ».

ويرفض الإسلامُ ما يفعله بعض السلبيين من تأويل الآياتِ ليستشهدَ بها على السلبية، وليبرر لنفسه التخلي عن واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد أخرج أبو داود عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ t بَعْدَ أَنْ حَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ، وَتَضَعُونَهَا عَلَى غَيْرِ مَوَاضِعِهَا: ﴿عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾ [المائدة: 105] وَإِنَّا سَمِعْنَا النَّبِيَّ ^ يَقُولُ: «إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ، أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ»، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ^ يَقُولُ: «مَا مِنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ بِالْمَعَاصِي، ثُمَّ يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يُغَيِّرُوا، ثُمَّ لَا يُغَيِّرُوا، إِلَّا يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ مِنْهُ بِعِقَابٍ».

وأخرج أبو داود وصححه الحاكم والذهبي عن أَبي أُمَيَّةَ الشَّعْبَانِيّ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ t، فَقُلْتُ: يَا أَبَا ثَعْلَبَةَ، كَيْفَ تَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾؟ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْهَا خَبِيرًا، سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ ^، فَقَالَ: «بَلِ ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنَاهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا، وَهَوًى مُتَّبَعًا، وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ، فَعَلَيْكَ - يَعْنِي- بِنَفْسِكَ، وَدَعْ عَنْكَ الْعَوَامَّ، فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ، الصَّبْرُ فِيهِ مِثْلُ قَبْضٍ عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِمْ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ» ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْهُمْ؟ قَالَ: «أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ».

وأخرج الترمذي وأحمد عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ اليَمَانِy، عَنِ النَّبِيِّ ^ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ المُنْكَرِ أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْهُ ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ».

4 – كيف يتم تغيير الأمراء الجورة وما حكم المعارضة السياسية والتظاهرات السلمية؟

نهى الإسلام عن الخروج بالسيف والسلاح لتغيير الحكام ولو كانوا جورة، ما داموا مسلمين وما أقاموا في الناس الصلاة، وما لم يأتوا بكفر بَوَاح ظاهر لا تأويل له، فقد أخرج مسلم عن عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ t قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ^ يَقُولُ: «خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ، وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ، وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ، وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ» ، قَالُوا: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَفَلَا نُنَابِذُهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ؟ قَالَ: «لَا، مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلَاةَ، لَا، مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلَاةَ، أَلَا مَنْ وَلِيَ عَلَيْهِ وَالٍ، فَرَآهُ يَأْتِي شَيْئًا مِنْ مَعْصِيَةِ اللهِ، فَلْيَكْرَهْ مَا يَأْتِي مِنْ مَعْصِيَةِ اللهِ، وَلَا يَنْزِعَنَّ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ» 

وأخرج الشيخان عن عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ t قَالَ: دَعَانَا رَسُولُ اللهِ ^ فَبَايَعْنَاهُ، فَكَانَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا: «أَنْ بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا، وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا، وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ»، قَالَ: «إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنَ اللهِ فِيهِ بُرْهَانٌ».ومعنى ( بواحاً ) أي جهارا وإعلاناً .

لكن مع هذا الصبر فإن على الأمة أن ترفض جورهم، وأن تتبرأ من ظلمهم، وعلى أهل العلم أن يستمروا في نصيحتهم، وقد حذر النبي ^ من ممالأتهم على باطلهم، ومن السكوت عن تذكيرهم ونصحهم، فأخرج الإمام أحمد، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ y، أَنَّ النَّبِيَّ ^ قَالَ لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ t: «أَعَاذَكَ اللهُ مِنْ إِمَارَةِ السُّفَهَاءِ»، قَالَ: وَمَا إِمَارَةُ السُّفَهَاءِ؟، قَالَ: «أُمَرَاءُ يَكُونُونَ بَعْدِي، لَا يَقْتَدُونَ بِهَدْيِي، وَلَا يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِي، فَمَنْ صَدَّقَهُمْ بِكَذِبِهِمْ، وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، فَأُولَئِكَ لَيْسُوا مِنِّي، وَلَسْتُ مِنْهُمْ، وَلَا يَرِدُوا عَلَيَّ حَوْضِي، وَمَنْ لَمْ يُصَدِّقْهُمْ بِكَذِبِهِمْ، وَلَمْ يُعِنْهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، فَأُولَئِكَ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ، وَسَيَرِدُوا عَلَيَّ حَوْضِي».

نعم؛ ينبغي أن يبدأ نصح الحكام سراً وبرفق؛ أملا في إصلاحهم، فقد أخرج أحمد عن ‏ عِيَاضِ بْنِ غَنْمٍ ‏: أن رَسُولَ اللَّهِ  ^ قال: «مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْصَح لِسُلْطَانٍ بِأَمْرٍ فَلَا يُبْدِ لَهُ عَلَانِيَةً، وَلَكِنْ لِيَأْخُذْ بِيَدِهِ فَيَخْلُوَ بِهِ، فَإِنْ قَبِلَ مِنْهُ فَذَاكَ، وَإِلَّا كَانَ قَدْ أَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ لَهُ».

وهذا ما فعله أسامة بن زيد مع عثمان بن عفان y ، فقد أخرج مسلم عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ y قَالَ: قِيلَ لَهُ: أَلَا تَدْخُلُ عَلَى عُثْمَانَ فَتُكَلِّمَهُ؟ فَقَالَ: «أَتَرَوْنَ أَنِّي لَا أُكَلِّمُهُ إِلَّا أُسْمِعُكُمْ؟ وَاللهِ لَقَدْ كَلَّمْتُهُ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ، مَا دُونَ أَنْ أَفْتَتِحَ أَمْرًا لَا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ فَتَحَهُ...» الحديث.

وهذا مع مثل عثمان بن عفان t من الأمراء الصالحين والحكام الصادقين.

لكن لم يمنع الإسلام من إعلان هذه النصيحة متى كان الخطأ شائعا والضرر واقعا على العامة، وخصوصا إذا لم يتمكن الناصح من الانفراد بالحاكم ونصحه سرا، بل أوجب الإسلام إعلان النصيحة والإنكار على الظالم إذا تجاوز حدود الشرع في تأديب المخطئين، ففي صحيح مسلم عَنْ هِشَامِ بْنِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ قَالَ: مَرَّ بِالشَّامِ عَلَى أُنَاسٍ وَقَدْ أُقِيمُوا فِي الشَّمْسِ وَصُبَّ عَلَى رُءُوسِهِمُ الزَّيْتُ (يعني يعذبون بذلك) فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قِيلَ: يُعَذَّبُونَ فِي الْخَرَاجِ (يعني تأخروا في دفعه أو ماطلوا في ذلك). فَقَالَ: أَمَا إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ^ يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا». على أن هشاما لم يكتف بهذا الإنكار العلني، بل ذهب إلى الأمير الذي فعل ذلك فنصحه فانتصح، ففي رواية عند مسلم أيضا: وَأَمِيرُهُمْ يَوْمَئِذٍ عُمَيْرُ بْنُ سَعْدٍ عَلَى فِلَسْطِينَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ، فَحَدَّثَهُ، فَأَمَرَ بِهِمْ فَخُلُّوا.

وهذا كله كان يحصل حين كان الأئمة والحكام مستمسكين بأهداب الدين، وكانت الشريعة مطبقة، والأوطان محروسة، والحدود مرعية، وحقوق الناس مصونة، والفساد في الرؤوس مقصور على القصور، فكيف وقد صار الفساد للأذقان؟.

إن من الواجبات الشرعية عندئذ أن تسعى الأمة في تغيير هذا الجائر بالوسائل المشروعة كالانتخابات والاستفتاءات والتظاهرات السلمية ونحوها مما تقوم به الأحزاب والجماعات السياسية، سواء وافق الحاكم على ذلك أو لم يوافق، فذلك كله من النصيحة الشرعية المأمور بها، وهي سبب من أسباب خيرية هذه الأمة، وليس لأحد كائنا من كان أن يمنع أحداً من التعبير عن رأيه، طالما لم يخرج بسيفه، ولم يعلن رأياً منكراً مخالفاً لما شرع الله عز وجل، بل لو أمر الحاكم بمعصية فلا سمعَ له فيما أمر ولا طاعة، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، إنما الطاعة في المعروف، ففي الصحيحين من حديث  عَبْدِ اللَّهِ بن عمر  yعَنِ النَّبِيِّ  ^ قَالَ: «السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ، فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ، مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلاَ سَمْعَ وَلاَ طَاعَةَ»، وفيهما أيضا من حديث علي بن أبي طالب t عن النبي ^ قال: «لاَ طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ».

فلا يجوز طاعتُهم إذا أمروا بتزوير الانتخابات، أو بضرب الناس أو تعذيبهم بغير سند من الشريعة والقانون، ولا يجوز تنفيذ أوامرهم بضرب المتظاهرين المسالمين بالرصاص الحي أو المطاطي أو القنابل المسيلة للدموع، ونحو ذلك من المظالم التي قد يأمر بها الظلمة، فينفذها الجنود بحجة السمع والطاعة لولي الأمر، فيستحقون عندئذ عقاب الله في قوله تعالى ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ﴾ [هود/113]. والركون هو الميل إلى الظالم أو الرضا بفعله، وقد قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: «مَنْ رَضِيَ بِأَمْرِ الظَّالِمِ وَإِنْ غَابَ عَنْهُ كَانَ كَمَنْ شَهِدَهُ» وَتَلَا الْآيَةَ. وَرُوِيَ أَنَّ خَيَّاطًا سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُبَارَكِ عَنْ خِيَاطَتِهِ لِلْحُكَّامِ; هَلْ أَنَا دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾؟ قَالَ: بَلْ يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ يَبِيعُكَ الْإِبْرَةَ.

إنها دعوة وتربية للأمة لتبقى في غاية اليقظة والمراقبة التامة فيما يتعلق بسلوك حكامها، ولتكون على وعي جد عظيم بما ينبغي على الفرد المسلم أن يفعله لضمان استقامتهم على الحق وسلوكهم سبيل الرشاد.