حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ المُطَّلِبْ

اليوم وغدا يا هند

أَسَدُ الله

مريم سيد علي مبارك/الجزائر

[email protected]

اقترنت في مخيلتنا صورة الفنان القدير "عبد الله غيث" بشخص حمزة وشعرنا بكل حركاته وسكناته وهو يؤدي الدور ببراعة فائقة ..من منا لم يذرف دمعة وهو يشاهد رائعة العقاد "الرسالة" ومن منا لا يتذكر هذه الجملة التي جاءت على لسان حمزة "عبد الله غيث" عندما سخرت منه هند قائلة :

هند : يا للروعة حمزة صياد الأسود يصطاد الحشرات؟؟؟؟

فأجابها : 

حمزة : نعم اليوم وغدا يا هند 

وسواء صحت هذه الرواية أم لم تصح..ستبقى في المخيلة..لأن صورة حمزة لم ولن تغيب أبدا..

"أَسَدُ الله ومَلِكُ الصَّحْرَاء وصَقْرٌ مِنْ صُقُورِ مَكَّةَ بِلاَ مُنَازِع..

هُوَ سَيِّدُ الحُمَاةْ وسَيِّدُ المُؤَازِرِينَ وسَيِّدُ النَّاصِرِينَ لِلنَّبِيِّ مُحَمَّد  قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ وبَعْد..

هُوَ ذَاكَ حَمْزَة بْنُ عَبْدِ المُطَّلِبْ عَمُّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وأَخُوهُ مِنَ الرِّضَاعَة.

مَكَانَةُ مُحَمَّدٍ فِي قَلْبِ حَمْزَة

كَانَ حَمْزَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَعْرِفُ عَظَمَةَ ابْنَ أَخِيهِ وكَمَالِهِ، وكَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ حَقِيقَةِ أَمْرِهِ، وجَوْهَرِ خِصَالِهِ وَمَكَارِمِ أَخْلاَقِه.

فَهُوَ لاَ يَعْرِفُهُ مَعْرِفَةَ العَمِّ بِابْنِ أَخِيهِ فَحَسْب، بَلْ يَعْرِفُهُ مَعْرِفَةَ الأَخِ وَالصَّدِيقْ، ذَلِكَ أَنَّ الرَّسُولَ وحَمْزَة مِنْ جِيلٍ وَاحِدٍ، وسِنٍّ مُتَقَارِبَةٍ، نَشَآ مَعًا وَلَعِبَا مَعًا وتآخَيَا مَعًا وَسَارَا مَعًا عَلَى الدَّرْب مِنْ أَوَّلِهِ خُطْوَةً خُطْوَة.

كَانَ حَمْزَةُ يَعْلَمُ جَيِّدًا فَضَائِلَ ابْنِ أَخِيهِ، تِلْكَ الفَضَائِل الَّتِي جَعَلَتْهُ يَحْتَلُّ مَكَانًا عَلِيَّا فِي قُلُوبِ النَّاسِ كَافَّةً.

فِي  صَبِيحَةِ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ مَكَّةَ جَلَسَ حَمْزَة كَعَادَتِهِ عِنْدَ الكَعْبَة حَيْثُ وَجَدَ نَفَرًا مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ وسَادَتِهَا فَجَلَسَ مَعَهُمْ يَسْتَمِعُ لِمَا يَقُولُونَ فَكَانَ الحَدِيثُ عَنْ حَبِيبِهِ مُحَمَّد.

لَمَسَ حَمْزَةُ فِي أَصْوَاتِهِم نَبْرَةَ الحِقْدِ وَالغَيْظِ والأَسَى مِنْ دَعْوَةِ ابْنِ أَخِيهِ وَقَرَأَ فِي عُيُونِهِمْ صَحَائِفَ السُّخْطِ وَالوَحْشِيَّةِ وَالغَضَبْ

وَقُلُوبُهُمْ تَفِيضُ خَوْفًا وَقَلَقًا بِالَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّدْ.

لَمْ يَسْكُتْ حَمْزَة وَإِنَّمَا رَمَاهُمْ بِالمُبَالَغَةِ وَسُوءِ التَّقْدِيرِ وَلَطَالَمَا ضَحِكَ مِنْ أَحَادِيثِهِمْ وَهُمْ يَتَوَعَّدُونَ.

وَتَمُرُّ الأَيَّامُ وَثَبَاتُ ابْنُ أَخِيهِ وَتَفَانِيهِ فِي سَبِيلِ إِيمَانِهِ وَدَعْوَتِهِ يَزِيدُهُ إِعْجَابًا بِهِ رَغْمَ أَنَّهُ كَانَ لاَ يَزَالُ عَلَى دِينِ قُرَيْش.

 كَانَ حَمْزَة عَلَى يَقِين بِأَنَّ الحَقَّ يَنْطِقُ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّد لأَِنَّهُ كَانَ خَيْرَ مَنْ يَعْرِفُهُ مِنْ طُفُولَتِهِ إِلَى شَبَابِهِ إِلَى رُجُولَتِهِ، فَهُوَ الرَّجُلُ النَّقِيُّ الصَّادِقُ الأَمِين الَّذِي مَا أَلَمَّتْ بِهِ شُبْهَةٌ وَاحِدَة فِي الحَيَاة، فَلاَ يَذْكُرُ أَنَّهُ رَآهُ يَوْمًا غَاضِبًا أَوْ قَانِطًا أَوْ طَامِعًا أَوْ لاَهِيًا أَوْ لاَغِيًا.

وحَمْزَة لَمْ يَكُنْ يَتَمَتَّعُ بِقُوَّةِ الجِسْمِ فَحَسْب، بَلْ بِرَجَاحَةِ العَقْلِ، وقُوَّةِ العَزِيمَةِ وَسَدَادِ البَصِيرَة وَصَحْوِ الضَّمِير.

حَمْزَة يَضْرِبُ أَبَا جَهْل

وَجَاءَ اليَوْمُ المَوْعُودُ،

وَخَرَجَ حَمْزَةُ مِنْ دَارِهِ مُتَوَشِّحًا قَوْسَهُ، مُسْتَقْبِلاً بِوَجْهِهِ الصَّحْرَاء لِيُمَارِسَ هِوَايَتَهُ وَرِيَاضَتَهُ المُحَبَّبَة الصَّيْد.

وَحِينَ عَادَ ذَهَبَ كَعَادَتِهِ إِلَى الكَعْبَة لِيَطُوف، لَكِنَّ امْرَأَةً اسْتَوْقَفَتْهُ قَائِلَةً :

-يَا أَبَا عِمَارَة، لَوْ رَأَيْتَ مَا لَقِيَ ابْنُ أَخِيكَ مُحَمَّد آنِفًا مِنْ أَبِي الحَكَمْ بنِ هِشَام، وَجَدَهُ هُنَاكَ جَالِسًا، فَآذَاهُ وَسَبَّهُ وَبَلَغَ مِنْهُ مَا يَكْرَه.

انْطَلَقَ حَمْزَة كَالسَّهْم صَوْبَ الكَعْبَة ، فَوَجَدَ أَبَا جَهْل فِي فِنَائِهَا يَتَوَسَّطُ نَفَرًا مِنْ سَادَةِ قُرَيْش.

أَقْبَلَ الأَسَدُ حَمْزَة  فَخَيَّمَ سُكُونٌ رَهِيبٌ وَ لَمْ  تُسْمَعْ غَيْرُ خُطُوَاتِهِ تُقَعْقِعُ الأَرْضَ قَعْقَعَةً، اقْتَرَبَ مِنْ أَبِي جَهْل فَضَرَبَهُ بِقَوْسِهِ فَأَدْمَاهُ، خَرُسَتِ الأَلْسِنَةُ عَلَى صِيَاحِ حَمْزَة :

"أَتَشْتُمُ مُحَمَّدًا، وَأَنَا عَلَى دِينِهِ أَقُولُ مَا يَقُول ؟؟، أَلاَ فَرُدَّ ذَلِكَ عَلَيَّ إِنْ اسْتَطَعْت".

 فِي لَحْظَةٍ نَسِيَتِ الجُمُوعُ الإِهَانَةَ الَّتِي نَزَلَتْ بِزَعِيمِهِمْ وَدَمُهُ الَّذِي يَنْزِف وَشَغَلَتْهُم تِلْكَ الكَلِمَةُ الصَّاعِقَة، الكَلِمَة الَّتِي أَعْلَنَ بِهَا حَمْزَة أَنَّهُ عَلَى دِينِ مُحَمَّد e يَقُولُ مَا يَقُول.

هَلْ أَسْلَمَ حَمْزَة ؟ أَعَزُّ فِتْيَانِ قُرَيْش وَأَقْوَاهُم ؟؟

ثُمَّ مَاذَا يَعْنِي إِسْلاَمُ حَمْزَة ؟؟  إِنَّهُ يَعْنِي إِغْرَاءَ الصَّفْوَةِ بِالإِسْلاَم، وَسَيَجِدُ مُحَمَّدٌ مَنْ يَشُدُّ أَزْرَهُ ويُعْلِي كَلِمَتَهُ، وَسَتَصْحُو قُرَيْش ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى هَدِيرِ المَعَاوِلِ تُحَطِّمُ أَصْنَامَهَا وَآلِهَتَهَا.

حَمْزَة بَيْنَ الشَّكِّ وَاليَقِين

لَمْ يَكُنْ حَمْزَة يَعْلَمُ كَيْفَ أَعْلَنَ إِسْلاَمَهُ وَلاَ لِمَاذَا أَعْلَنَهُ فِي لَحْظَةٍ مِنْ لَحَظَاتِ الحَمِيَّةِ وَالغَضَبِ وَالانْفِعَالْ.

لَقَدْ صَعُبَ عَلَيْهِ أَنْ يُهَانَ ابْنُ أَخِيهِ ويُظْلَم  دُونَ أَنْ يَجِدَ نَاصِرًا لَهُ فَأَخَذَتْهُ الأَنَفَة. وَلَكِنْ هَلْ هَذَا هُوَ الطَّرِيق الأَمْثَل لِكَيْ يُغَادِرَ الإِنْسَانُ دِينَ آبَائِهِ وَقَوْمِهِ، ثُمَّ يَسْتَقْبِلُ دِينًا جَدِيدًا لَمْ يَخْتَبِرْ بَعْدُ تَعَالِيمَهُ، وَلاَ يَعْرِفُ عَنْ حَقِيقَتِهِ إِلاَّ القَلِيلْ ؟

صَحِيحْ أَنَّهُ لاَ يَشُكُّ فِي صِدْقِ مُحَمَّد وَنَزَاهَتِهِ وَلَكِنْ أَيُمْكِنُ أَنْ يَسْتَقْبِلَ المَرْءُ دِينًا جَدِيدًا فِي لَحْظَةِ غَضَبٍ مِثْلَمَا صَنَعَ حَمْزَة ؟

اسْتَيْقَظَ فِي نَفْسِ حَمْزَة الحَنِينُ الفِطْرِيُّ المَوْرُوثُ لِدِينِ آبَائِهِ وَأَجْدَادِهِ وَشَقَّ عَلَيْهِ الانْسِلاَخُ مِنْ دِينِهِ القَدِيمْ فَهَدَتْهُ اسْتِقَامَةُ ضَمِيرِهِ أَنْ يُخْضِعَ المَسْأَلَة لِتَفْكِيرٍ صَارِمٍ وَدَقِيق.

وَلَمَّا رَأَى العَقْلَ وَحْدَهُ لاَ يَكْفِي لَجَأَ إِلَى الله يَدْعُوهُ عِنْدَ الكَعْبَة أَنْ يُرْشِدَهُ لِلْحَق.

فَلْنَسْتَمِع إِلَيْهِ وَهُوَ يَرْوِي قِصَّتَهُ :

"..ثُمَّ أَدْرَكَنِي النَّدَمُ عََلَى فِرَاقِ دِينِ آبَائِي وَقَوْمِي، وَبِتُّ مِنَ الشَّكِّ فِي أَمْرٍ عَظِيم، لاَ أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ، ثُمَّ أَتَيْتُ الكَعْبَةَ، وَتَضَرَّعْتُ إِلَى الله أَنْ يَشْرَحَ صَدْرِي لِلْحَق، وَيُذْهِبَ عَنِّي الرَّيْب، فَاسْتَجَابَ اللهُ لِي وَمَلأَ قَلْبِي يَقِينًا، وَغَدَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ e فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِي، فَدَعَا اللهَ أَنْ يُثَبِّتَ قَلْبِي عَلَى دِينِه".

وهَكَذَا أَسْلَمَ حَمْزَة إِسْلاَمَ اليَقِين.

حَمْزَة فِي صُفُوفِ المُسْلِمِينْ

أَعَزَّ اللهُ الإِسْلاَمَ بِحَمْزَة وَوَقَفَ شَامِخًا يَنْصُرُ رَسُولَ الله وَالمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ أَصْحَابِه. ورَآهُ أَبُو جَهْل يَقِفُ فِي صُفُوفِ المُسْلِمِينَ فَأَدْرَكَ أَنَّهَا الحَرْبُ لاَ مَحَالَة، وَمَضَى يُحَرِّضُ قُرَيْشًا عَلَى إِيذَاءِ الرَّسُولِ وَأَصْحَابِهِ.

لَمْ يَسْتَطِعْ حَمْزَة رَدَّ كُلِّ الأَذَى لَكِنَّهُ كَانَ وِقَايَةً وَدِرْعًا لِلْمُسْلِمِينَ، كَمَا كَانَ سََبَبًا لإِسْلاَمِ الكَثِيرِ مِنَ القَبَائِلِ، ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْدَهُ عُمَر بْنُ الخَطَّابْ فَدَخَلَ النَّاسُ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجَا.

وََأَوَّلُ سَرِيَّةٍ خَرَجَ فِيهَا المُسْلِمُونَ لِلِقَاءِ العَدُو كَانَ أَمِيرُهَا حَمْزَة.

وَأَوَّلُ رَايَةٍ عَقَدَهَا رَسُولُ اللهِ لأَحَدٍ مِنَ المُسْلِمِينَ كَانَتْ لِحَمْزَة.

وَيَوْمَ الْتَقَى الجَمْعَانِ فِي غَزْوَةِ بَدْر، كَانَ أَسَدُ اللهِ وَأَسَدُ رَسُولِهِ هُنَاكَ يَصْنَعُ الأَعَاجِيب !

فَقُتِل جُلُّ سَادَةِ قُرَيْش فِي المَعْرَكَة مِنْ أَمْثَالِ أَبِي جَهْل، وَعُتْبَة بْنِ رَبِيعَة، وَشَيْبَة بْنِ رَبِيعَة، وَأُمَيَّة بْنِ خَلَف، وعُقْبَة بْنِ أَبِي مَعِيطْ، وَالأَسْوَد بْنِ عَبْدِ الأَسَدِ المَخْزُومِي، وَالوَلِيد بْنِ عُتْبَة، وَالنَّضْر بْنِ الحَارِث والعَاصْ بْنِ سَعِيد وطُعْمَة بْنِ عَدِي وعََشَرَات مِثْلهُمْ مِنْ رِجَالِ قُرَيْش وَصَنَادِيدِهَا.

الاسْتِعْدَادُ لِلْحَرْب

مَا كَانَتْ قُرَيْش لِتُفَوِّتَ هَذِهِ الهَزِيمَةَ النَّكْرَاء دُونَ انْتِقَام، فَرَاحَتْ تَعُدُّ العُدَّةَ وَتَحْشُدُ البَأْسَ لِتَثْأَرَ لِنَفْسِهَا وَشَرَفِهَا وََقَتْلاَهَا وَعَزَمَتْ عَلَى الحَرْب، وَجَاءَتْ غَزْوَةُ أُحُد حَيْثُ خَرَجَتْ قُرَيْشٌ ومَعهَا حُلفَاؤُهَا مِنْ قَبَائِلِ العَرَبِ بِقِيَادَةِ أَبِي سُفْيَان.

وَكَانَ زُعََمَاءُ قُرَيْش يَهْدِفُونَ إِلَى قَتْلِ رَجُلَيْنِ لِيَنْهَارَ المُسْلِمُونَ وَيَتَشَتَّتَ شَمْلُهُم وَهُمَا : حَمْزَة ومُحَمَّدصلى الله عليه وسلم.

وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ اخْتَارُوا عَبْدًا حَبَشِيًّا ذَا مَهَارَةٍ فَائِقَة فِي قَذْفِ الحَرْبَة اسْمُهُ وَحْشِي وَوَعَدَهُ سَيِّدُهُ جُبَيْر بن مُطْعم بِإِعْتَاقِهِ إِنْ هُوَ  قَتَلَ حَمْزَة لأَنَّ عَمَّهُ قَدْ لَقِيَ مَصْرَعَهُ يَوْمَ بَدْر.

ثُمَّ سَمِعَتْ هِنْد بِنْت عُتْبَة زَوْجَة أَبِي سُفْيَان عَنْ مَهَارَةِ وَحْشِي فَزَادَتْهُ تَحْرِيضًا عَلَى حَمْزَة لأَنَّهُ كَانَ مِمَّنْ قَتَلُوا أَبَاهَا وَعَمَّهَا وَأَخَاهَا وَابْنَهَا. فَأَغْرَتْهُ إِنْ هُوَ نَجَحَ فِي قَتْلِ حَمْزَة بِأَثْمَنِ مَا تَمْلِكُهُ مِنْ ذَهَبٍ وَمُجَوْهَرَاتٍ وقَالَتْ لهُ : "كُلُّ هَذَا لَكَ، إِنْ قَتَلْتَ حَمْزَة".

سَالَ لُعَابُ وَحْشِي وَازْدَادَ تَحَمُّسًا لِقَتْلِ حَمْزَة لِقَاءَ الحُرِّيَّة وَالمُجَوْهَرَات فَجَعَلَهُ نُصْبَ عَيْنَيْهِ.

غَزْوَةُ أُحُد (الأَخْذُ بِالثَّأْر)

وَجاءَتْ غَزْوَةُ أُحُد وَالْتَقَى الجَيْشَانِ، فَارْتَدَى حَمْزَةُ لِبَاسَ الحَرْب وعََلَى صَدْرِهِ رِيشَةُ النَّعَام الَّتِي تَعَوَّدَ أَنْ يُزَيِّنَ بِهَا صَدْرَهُ فِي القِتَال، وَمَضَى يَقْطَعُ رُؤُوسَ المُشْرِكِينَ بِسَيْفِهِ.

قَاتَلَ المُسْلِمُونَ بِكُلِّ بَرَاعَةٍ حَتَّى أَوْشَكُوا عَلَى النَّصْر وَبَدَأَتْ قُرَيِِْش تَنْسَحِب مَذْعُورَةً خَائِفَة. لَكِنَّ الرُّمَاةَ تَسَرَّعُوا بِتَرْكِ مَكَانِهِمْ فَوْقَ الجَبَل لأَخْذِ غَنَائِمِ العَدُوِّ المَهْزُوم، فنَزَلُوا إلَى أَرْضِ المَعْرَكَة، فَدَاهَمَهُم المُشْرِكُونَ مِنْ وَرَائِهِمْ عَلَى حِينِ غَفْلَة وأَشْبَعُوا فِيهِم سُيُوفَهُم النَّهِمَة، فَرَاحَ المُسْلِمُونَ يَجْمَعُونَ أَنْفُسَهُمْ مِنْ جَدِيد ويَحْمِلُونَ سِلاَحَهُم الَّذِي كَانَ بَعْضُهُم قَدْ وَضَعَه.

رَأَى حَمْزَة مَا حَدَث فَضَاعَفَ قُوَّتَهُ وَأَخَذَ يَضْرِبُ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ وَبَيْنَ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ وَالوَحْشُ وَحْشِيّ يَرْقُبُهُ وَيَتَحَيَّنُ الفُرْصَةَ لِيَغْدِرَ بِهِ.

يَصِفُ وَحْشِيٌّ المَشْهَدَ فَيَقُول :

- كُنْتُ رَجُلاً حَبَشِيًّا، أَقْذِفُ بِالحرْبَة قَذْفَ الحَبَشَة، فَقَلَّمَا أُخْطِئُ بِهَا شَيْئًا.. فَلَمَّا الْتَقَى النَّاسُ خَرَجْتُ أَنْظُرُ حَمْزَة وَأَتَبَصَّرُهُ حَتَّى رَأَيْتُهُ فِي عَرْضِ النَّاس، مِثْلُ الجَمَلِ الأَوْرَق، يَهُدُّ النَّاسَ بِسَيْفِهِ هَدًّا، مَا يَقِفُ أَمَامَهُ شَيْء..فَوَ اللهِ إِنِّي لأَتَهَيَّأُ لَهُ، أُرِيدُهُ، وَأَسْتَتِرُ مِنْهُ بِشَجَرَةٍ لأَتَقَحَّمَهُ أَوْ لِيَدْنُوَ مِنِّي، وَإِذْ سَبَقَنِي إِلَيْهِ "سِبَاع بْنُ عَبْدِ العُزَّى"، فَلَمَّا رَآهُ حَمْزَة صَاحَ بِهِ : هَلُمَّ إِلَيَّ يَا ابْنَ مُقَطِّعَةِ البُظُور –وكَانَتْ أُمُّهُ خَتَّانَة- ثُمَّ ضَرَبَهُ فَمَا أَخْطَأَ رَأْسَه..عِنْدَئِذٍ هَزَزْتُ حرْبَتِي، حَتَّى إِذَا رَضِيتُ مِنْهَا دَفَعْتُهَا فَوَقَعَتِ فِي أَحْشَائِهِ حَتَّى خَرَجَتْ مِنْ بَيْنِ رِجْلَيْهِ وَنَهَضَ نَحْوِي، فَغُلِبَ عَلَى أَمْرِهِ ثُمَّ مَات..وأَتَيْتُهُ فَأَخَذْتُ حرْبَتِي، ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى المُعَسْكَر فَقَعَدْتُ فيهِ، إِذْ لَمْ يَكُن لِي فِيِهِ حَاجَة فَقَدْ قَتَلْتُهُ لأُعْتَقْ.

وَلَمْ يَكْتَفِ وَحْشِي بِقَتْلِ حَمْزَة فَقَطْ بَلْ اقْتَلَعَ كَبِدَهُ كَمَا أَمَرَتْهُ هِنْد بِنْت عُتْبَة تِلْكَ المَرْأَةُ المَسْعُورَة..وَمَضَغَتْ كَبِدَ حَمْزَة وَلَكِنَّ الكَبِدَ اسْتَعْصَت عَلَى أَنْيَابِهَا فَأَخْرَجَتْهَا مِنْ فَمِهَا القَذِر.

فَلَمَّا أُعْتِقَ وَحْشِي ظَلَّ يَهرُبُ مِنْ مَكانٍ إلَى مَكَان حَتَّى عَزَمَ أَنْ يَخرُجَ إلَى رَسُولِ اللهِ e لِيَشْهَدَ شَهادَةَ الحَق فَلَمَّا رَآهُ النَّبِي e سَألَهُ : "أَوَحْشِيٌّ أَنْت؟" قالَ : نَعَمْ، فقالَ لهُ : "أَخْبِرْنِي كَيْفَ قَتَلْتَ حَمْزَة ؟"، فَحَدَّثَهُ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ لهُ : "وَيْحَكَ، غَيِّبْ عَنِي وَجْهَك".

يقُولُ وَحْشِي : فَكُنْتُ أَبْتَعِدُ عنْ طَرِيقِ رَسُولِ اللهِ e حيثُ كَانْ، كَيْ لا يَرَانِي حتَّى قَبَضَهُ اللهُ إلَيْهِ.

فَلمَّا خَرَجَ المُسْلِمُونَ إِلَى مُسَيْلِمَة الكَذَّاب خَرجْتُ مَعَهُم وأَخَذْتُ حرْبَتِي التِي قَتَلْتُ بِهَا حَمْزَة فَقَتَلْتُه، فَإِنْ كُنْتُ قَدْ قَتلْتُ بِحرْبَتِي هَذِهِ خَيِْرَ النَّاس وهُوَ حَمْزَة، فَإِنِّي لأَرْجُو أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لِي إِذْ قَتَلْتُ بِهَا شَرَّ النَّاس مُسَيْلِمَة. 

نُزُولُ الوَحْي بَعْدَ مَقْتَلِ حَمْزَة 

اسْتَشْهَدَ أَسَدُ اللهِ وأَسَدُ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وكَمَا كَانَتْ حَيَاتُهُ مُدَوِّيَة كَانَتْ مَوْتَتُهُ كَذَلِكَ مُدَوِّيَة !

انْتَهَتِ المَعْرَكَة، ونَزَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ أَصْحَابِهِ إِلَى أَرْضِ المَعْرَكَة، لِيَنْظُرَ شُهَدَاءَهَا..

وهُنَاكَ فِي بَطْنِ الوَادِي، بَيْنَمَا هُوَ يَتَفَحَّصُ وُجُوهَ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ بَاعُوا للهِ أَنْفُسَهُم وقَدَّمُوهَا قَرَابِين مَبْرُورَة لِرَبِّهِم العَظِيم، وَقَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُمَزَّقَ القَلْبِ  وقد مُزِّقَ عَمُّهُ الشَّهِيد بِتِلْكَ الصُّورَةِ الوَحْشِيَّة وقَالَ : "لَنْ أُصَابَ بِمِثْلِكَ أَبَدًا...وَمَا وَقَفْتُ مَوْقِفًا أَغْيَظ إِلَيَّ مِنْ مَوْقِفِي هَذَا".

ثُمَّ اِلْتَفَتَ إِلَى أَصْحَابِهِ وَقَال :  "لَوْ لاَ أَنْ تَحْزَنَ صَفِيَّة –أُخْتُ حَمْزَة- ويَكُونُ سُنَّةً مِنْ بَعْدِي، لَتَرَكْتُهُ حَتَّى يَكُونَ فِي بُطُونِ السِّبَاع وحَوَاصِلِ الطَّيْر، ولَئِنْ أَظْهَرَنِي اللهُ علَى قُرَيْش فِي مَوْطِنٍ مِنَ المَوَاطِن لأُمثِّلنَّ بِثَلاَثِينَ رَجُلٍ مِنْهُم".

فَصَاحَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم : "وَاللهِ، لَئِنْ ظَفَرْنَا بِهِمْ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ لَنُمَثِّلَنَّ بِهِمْ مُثْلَةً لَمْ يُمَثِّلْهَا أَحَدٌ مِنَ العَرَبْ !"

ولَكِنَّ الَّذِي أَكْرَمَ حَمْزَة بِالشَّهَادَة، يُكْرِمُهُ مَرَّةً أُخْرَى بِأَنْ يَجْعَلَ مِنْ مَصْرَعِهِ فُرْصَةً لِدَرْسٍ عَظِيم يَحْمِي العَدَالَة إلَى الأَبَدْ ويَجْعَلُ الرَّحْمَةَ حَتَّى فِي العُقُوبَة والقِصَاص وَاجِبًا وفَرْضًا فَنَزَلَ الوَحْيُ علَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم وهُوَ في مَكَانِهِ لَمْ يَبْرَحْهُ :

ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِمَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُفِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْاوَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)

النحل 125-128.

وكَانَ نُزُولُ هَذِهِ الآيَات، فِي هَذَا المَوْطِن، خَيْرُ تَكْرِيمٍ لِحَمْزَة الَّذِي وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى الله.

وفِي لَحَظاتِ الوَدَاع، لَمْ يَجِد الرَّسُولُ تَحِيَّةً يُوَدِّعُهُ بِهَا خَيْرًا مِنْ أَنْ يُصَلِّي عَلَيْهِ بِعَدَدِ شُهَدَاءِ المَعْرَكَة جَمِيعًا.

وهَكذَا حُمِلَ جُثْمَانُ أَسَدِ اللهِ إِلَى مَكَانِ الصَّلاَة علَى أَرْضِ المَعْرَكَة التِي احْتَضَنَتْ دِمَاءَهُ، فَصَلَّى عَلَيْهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم وأَصْحَابُهُ، ثُمَّ جِيءَ بِشَهِيدٍ آخَر فَصَلَّى عَلَيْهِ الرَّسُولُ ثُمَّ رُفِعَ وتُرِكَ حَمْزَة مَكَانَهُ، وجِيءَ بِشَهِيدٍ ثَالِث فَوُضِعَ إلَى جِوَارِ حَمْزَة وصَلَّى عَلَيْهِمَا الرَّسُولُ حَتَّى صَلَّى عَلَى عَمِّهِ يَوْمَئِذٍ سَبْعِينَ صَلاَة بِعَدَدِ الشُّهَدَاء.

وحِينَ انْصَرَفَ صلى الله عليه وسلم مِنَ المَعْرَكَة إلَى بَيْتِهِ، سَمِعَ فِي طَرِيقهِ نِسَاء بَنِي عَبْدِ الأَشْهَل يَبْكِينَ شُهَدَاءَهُنَّ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم مِنْ شِدَّةِ حُزْنِهِ وَحُبِّهِ وحَنَانِهِ لِعَمِّهِ :

"لَكِنَّ حَمْزَةَ لاَ بَوَاكِيَ لَهُ".

عَزَاءُ امْرَأَة

 لَقَدْ كَانَ مُصَابُ النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي عَمِّهِ عَظِيمًا، وبَاتَ مِنَ الصَّعْبِ تَعْزِيَتُهُ فِي أَغْلَى النَّاس..

غَيْرَ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ "بَنِي دِينَار" رَأَتْ المُسْلِمِينَ عَائِدِينَ مِنَ الغَزْو فَسَأَلَتْهُمْ عَنِ المَعْرَكَة فَأَخْبَرُوهَا بِمَوْتِ الزَّوْجِ والأَبِ والأَخْ...فَلَمْ تَكْتَرِثْ بَلْ سَأَلَتْ بِلَهْفَة : "ومَاذَا فَعَلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم ؟؟"، فَقَالُوا : خَيْرًا، فَلَمْ تُصَدِّقْ حَتَّى تَرَاه ومَا إِنْ رَأَتْهُ حَتَّى أَقْبَلَتْ نَحْوَهُ تَقُولُ تِلْكَ الكَلِمَات الَّتِي تَخْتَصِرُ أَشْوَاقَ الحُبِّ وَالإِخْلاَص : "كُلُّ مُصِيبَةٍ بَعْدَكَ، أَمْرُهَا يَهُونُ "..

فَلَيْسَ لِهَذَا الوَلاَءِ وَالوَفَاءِ وَالحُبِّ مِنْ نَظِير يَسُرُّ رَسُولَ اللهِ وقَدْ مَلَكَ القُلُوبَ وصَارَ أَحَبَّ إلَى النُّفُوسِ مِنَ النُّفُوس...

سَيِّدَةٌ تُجِيبُ نَاعِيَ وَالِدِهَا وزَوْجِهَا وأَخِيهَا : "ومَاذَا فَعَلَ رَسُولُ اللهِ ؟؟"...لَقَدْ كَانَتْ رُؤْيَةُ النَّبِي هُوَ عَزَاءُ تِلْكَ المَرْأَة..وفِي نَفْسِ الوَقْت كَانَ أَجْمَلَ عَزَاء يَتَلَقَّاهُ النَّبِيُّ فِي تِلْكَ الظُّرُوف..

لَقَدْ كَانَ مَشْهَدَ عَزَاءٍ فِي أَسَدِ اللهِ وسَيِّدِ الشُّهَدَاء ! "

منقول : بتصرف