الصفاء الروحي والفكري ينبثق من تأمل حي

الصفاء الروحي والفكري ينبثق من تأمل حي

هائل سعيد الصرمي

[email protected]

إن الحياة لا تصفو للمؤمن من شوائبها وأدرانها, إلا إذا فر من الأجواء المغلقة المحصورة في محيط حياته ومشاغله وهمومه وعلائقه , إلى فيض الوجود الكبير يجول ويسيح  بخياله وفكره مقلباً بصره في كل أرجائه ، متأملاً لعظيم هذا الصنع والإبداع في الكون , يعصر فكره في دقائقه وأسراره متذوقاً جماله الفياض ، ومشتماً عبيره الزاكي وأريجه الفواح  , متعرفا على مبدعه وفاطره , فالجمال يشع فيه ويكسوه فهو كون جميل بكل ما تحمله هذه الكلمة  ، جميل في تناغمه وتناسقه وانتظامه وإحكامه ، جميل في إيحائه , واختلاف كل آية فيه , إنه يدل على عظمة وصفات خالقه و قدرته  المطلق , وحكمته العظيمة , التي تضع الشيء في موضعه والتأمل الحي يكفل لك كل ذلك , فالتأمل الحي وحده الكفيل بإذهاب هموم المسلم وإخراجه من دائرة الضيق في هذه الحياة ، التأمل وحده الكفيل بتحرير الإنسان من التوافه التي تشغـل الغالبية العظمى من البشر لأنهم يوم يرون عظمة هذا الكون تصغر في نظرهم الدنيا بأسرها، ناهيك عن التوافه التي تقض مضاجعهم وتؤرقهم ليل نهار وتقلقهم تارة وتفرحهم تارةً أخرى ، فينسون أنفسهم وغايتهم التي خلقوا من أجلها .

إن التأمل مصدر أساسي في تقوية الإيمان , وتزكية النفس , وتحسن الأخلاق , ومصدر من مصادر الإبداع , والنهوض بالتكاليف الثقيلة في هذه الحياة , فهو يمد المتأمل بطاقة لا تقل عن  طاقة قيام الليل التي تقيل العبد في النهار وتعينه على تحمل القول الثقيل أي الأمانة التي تبرأت منها السماوات والأرض وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا.

 التأمل يحقق الذكر الدائم للقلب والفكر وللسان ويبعث على الجد والعمل ولا يكون الذكر العقلي والقلبي إلا بالتأمل والتفكر في ملكوت الله الواسع ولا يمكن أن يكون المسلم ذاكراً لله كثيراً إلا إذا غلب عليه هذا النوع من الذكر . 

إن التأمل و التفكر في مخلوقات الله هو الموصل الحقيقي لمعرفة المكون بالدليل العقلي والتذوق الوجداني . التأمل الحي في الكون يجعل قلب المؤمن في ربيع دائم وسعادة غامرة ولذة فكرية فريدة لا يجدها إلا في هذا الباب.

إن الظواهر والمشاهدات لا تمر على أولي النهى وأصحاب القلوب الحية من أهل البصائر مرور الكرام ، ولكن لهم في كل آية يرونها عبرة وفكرة وخطرة ومعنى ؛ ولذلك فهم في علم ومعرفة دائمة , تصاحبهم اليقظة والبصيرة ، لا انفكاك لها ومن حصل لـه ذلك كان من  العارفين بالله تعالى ومن الربانيين المدركين لسننه وحكمته.

 لنقف مع نافذة  انبثاق الحياة من الموت  في هذه الآية { إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنْ الْحَيِّ ذَلِكُمْ اللَّهُ فَأَنَّا تُؤْفَكُونَ }(95)الأنعام ؟ "

ماذا قال بعض أهل العلم وعلى رأسهم سيد قطب.

قال السدي:"إن الله فالق الحب والنوى"،"": ففالق الحب عن السنبلة، وفالق النواة عن النخلة" .يقول القرطبي": . الفلق: الشق، أي يشق النواة الميتة فيخرج منها ورقا أخضر، وكذلك الحبة , وخرج من الورق الأخضر نواة ميتة وحبة ، وهذا معنى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي،.وقال ابن عباس والضحاك يخرج البشر الحي من النطفة الميتة، والنطفة الميتة من البشر الحي"

قال طنطاوي :"  أن الله وحده هو الذى يشق الحبة اليابسة كالحنطة فيخرج منها النبات الأخضر النامي ، ويشق النواة الصلبة فيخرج منها النخلة والشجرة النامية ، وفى ذلك أكبر دلالة على قدرة الله التي لا تحد وعلى أنه هو المستحق للعبادة لا غيره . وقال: الإمام الرازي "فانظر أيها المسكين بعين رأسك فى تلك الورقة الواحدة من تلك الشجرة ، واعرف كيفية خلقه تلك العروق والأوتار فيها ، ثم انتقل من مرتبة إلى ما فوقها حتى تعرف أن المقصود الأخير منها حصول المعرفة والمحبة فى الأرواح البشرية ، فحينئذ ينفتح لك باب من المكاشفات لا آخر له ، ويظهر لك أن أنواع نعم الله فى حقك غير متناهية كما قال تعالى: { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا } وكل ذلك إنما ظهر من كيفية خلقه تلك الورقة من الحبة والنواة"

لولاك ما نـضجت عنـاقـيـد الجـنـى    ولمــَـــــا تـفـجـر في الـصـخـور غـديـر

والجـدول الـرقراق يمشـي ضاحـكـا     وعـلـى الـسـهول بشـاشـةٌ وسرورُ

وسـنـابـل الـوديـان تحـنـي رأسـهــــــــــا      وعـيـون وجـه المـعـصـرات مـطـيـــــرُ

وقال سيد قطب :" إنها المعجزة التي لا يدري سرها أحد ؛ فضلا على أن يملك صنعها أحد !  معجزة الحياة نشأة وحركة . . وفي كل لحظة تنفلق الحبة الساكنة عن نبتة نامية ، وتنفلق النواة الهامدة عن شجرة صاعدة ، والحياة الكامنة في الحبة والنواة ، النامية في النبتة والشجرة ، سر مكنون ، لا يعلم حقيقته إلا الله ؛ ولا يعلم مصدره إلا الله . . وتقف البشرية بعد كل ما رأت من ظواهر الحياة وأشكالها ، وبعد كل ما درست من خصائصها وأطوارها. .تقف أمام السر المغيب كما وقف الإنسان الأول ، تدرك الوظيفة والمظهر، وتجهل المصدر والجوهر ، والحياة ماضية في طريقها ، والمعجزة تقع في كل لحظة !!!  ومنذ البدء أخرج الله الحي من الميت ، فقد كان هذا الكون - أو على الأقل كانت هذه الأرض - ولم يكن هناك حياة . . ثم كانت الحياة . . أخرجها الله من الموات . . كيف ؟ لا ندري ! وهي منذ ذلك الحين تخرج من الميت ؛ فتتحول الذرات الميتة في كل لحظة - عن طريق الأحياء - إلى مواد عضوية حية تدخل في كيان الأجسام الحية ؛ وتتحول - وأصلها ذرات ميتة - إلى خلايا حية . . والعكس كذلك . . ففي كل لحظة تتحول خلايا حية إلى ذرات ميتة ؛ إلى أن يتحول الكائن الحي كله ذات يوم إلى ذرات ميتة !{يخرج الحي من الميت ، ومخرج الميت من الحي}ولا يقدر إلا الله أن يصنع ذلك . . لا يقدر إلا الله أن ينشىء الحياة منذ البدء من الموات ، ولا يقدر إلا الله أن يجهز الكائن الحي بالقدرة على إحالة الذرات الميتة إلى خلايا حية ، ولا يقدر إلا الله على تحويل الخلايا الحية مرة أخرى إلى ذرات ميتة . . في دورة لم يعلم أحد يقينا بعد متى بدأت ، ولا كيف تتم . . وإن هي إلا فروض ونظريات واحتمالات !!!

  ظاهرة الحياة

 "لقد عجزت كل محاولة لتفسير ظاهرة الحياة ، على غير أساس أنها من خلق الله.. ومنذ أن شرد الناس من الكنيسة في أوربا .كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة !. وهم يحاولون تفسير نشأة الكون وتفسير نشأة الحياة ، بدون التجاء إلى الاعتراف بوجود الله . .ولكن هذه المحاولات كلها فشلت جميعا ولم تبق منها في القرن العشرين إلا مماحكات تدل على العناد ، ولا تدل على الإخلاص!." 

عجز الضعيف بأن يحيطَ ببعضهِ   ناهيكَ أن يرقى إلى الأكوانِ

الكــونُ أستاذ العقولِ لأنــه   يهدي العقول إلى عظيم الشأن

"إن معجزة انبثاق الحياة من الموات يجيء ذكرها كثيرا في القرآن الكريم - كما يجيء ذكر خلق الكون ابتداء - في معرض التوجيه إلى حقيقة الألوهية ، وآثارها الدالة على وحدة الخالق ، لينتهي منها إلى ضرورة وحدة المعبود ، الذي يدين له العباد ؛ بالاعتقاد في ألوهيته وحده ، والطاعة لربوبيته وحده ، والتقدم إليه وحده بالشعائر التعبدية ، والتلقي منه وحده في منهج الحياة كله ، والدينونة لشريعته كذلك وحدها".

بذكرك أقطف الإشراق دومـــاً       وانفض كل حــــــزنٍ من فـــــــؤادي

وترفعني مع الأملاك  حــــــــــــــتى     أنال بذكـــــــــــــــرك الأسمى مرادي

إلهي أحفظ ودادك لي وصلني      بحبلـــــك  كي أدوم على الوداد

الفشل البشري في تفسير الحياة وبطلان نظرية المصادفة

كلما فتح الإنسان عقله ، وقلبه في مشاهدة الحق ، من خلال تأمل آياته المبثوثة في الكون ، والأنفس ، يتفتح القلب ، ويشرق ،ويفيض نوره ، وتزداد معارفه ومداركه ، ويرتقي في سلّم الصعود إلى ربَّه ، ويتدرج مع السالكين إلى مراتب الكمال ، ومنازل المقربين ؛ ليكون في ربيع دائم ! لأن الاهتداء للحقيقة يجعل القلب يطير حبورا ويفيض نورا ,ولقد فشلت البشرية في تفسير سر الحياة واهتدى العقلاء من العلماء الغربين الباحثين إلى أن هناك مُصَرِّفْ ومُدَبّرْ لهذا الكون ولهذه الحياة وقد أبطلوا نظرية المصادفة بتقرير ما وصلوا إليه وسنورده  مختصرا من الظلال.

 "أقوال بعض "العلماء"

   "(يقول "فرانك أللن" ماجستير ودكتوراه من جامعة كورنل وأستاذ الطبيعة الحيوية بجامعة مانيتوبا بكندا ]  في مقال:نشأة العالم هل هو مصادفة أو قصد ؟ من كتاب:"الله يتجلى في عصر العلم" . . ترجمة الدكتور:الدمرداش عبد المجيد سرحان : "فإذا لم تكن الحياة قد نشأت بحكمة وتصميم سابق ، فلا بد أن تكون قد نشأت عن طريق المصادفة فما هي تلك المصادفة . . ولننظر الآن إلى الدور الذي تستطيع أن تلعبه المصادفة في نشأة الحياة: "إن البروتينات من المركبات الأساسية في جميع الخلايا الحية ، وهي تتكون من خمسة عناصر ؛ هي: الكربون ، والأيدروجين ، والنيتروجين ، والأكسجين ، والكبريت . . . و تتكون من سلاسل طويلة من الأحماض الأمينية ، فكيف تتألف ذرات هذه الجزيئات ؟ إنها إذا تآلفت بطريقة أخرى ، غير التي تتآلف بها، تصير غير صالحة للحياة ، بل تصير في بعض الأحيان سموما ، وقد حسب العالم الانجليزي:ج . ب . سيثر . . الطرق التي يمكن أن تتآلف بها الذرات في أحد الجزيئات البسيطة من البروتينات ، فوجد أن عددها يبلغ الملايين [ 10 48 ]  وعلى ذلك فإنه من المحال عقلا أن تتآلف كل هذه المصادفات لكي تبني جزيئا بروتينيا واحدا .

 "ولكن البروتينات ليست إلا مواد كيماوية عديمة الحياة ، ولا تدب فيها الحياة إلا عندما يحل فيها ذلك السر العجيب ، الذي لا ندري من كنهه شيئا ، إنه العقل اللانهائي  ، وهو الله وحده ، الذي استطاع أن يدرك  ببالغ حكمته ، أن مثل هذا الجزيء البروتيني يصلح لأن يكون مستقرا للحياة ، فبناه وصوره ، وأغدق عليه سر الحياة " . .

ويقول إيرفنج وليام  [ دكتوراه من جامعة إيوى وأخصائي في وراثة النباتات في مقال:"المادية وحدها لا تكفي" من "إن العلوم لا تستطيع أن تفسر لنا كيف نشأت تلك الدقائق الصغيرة المتناهية في صغرها والتي لا يحصيها عد ، وهي التي تتكون منها جميع المواد ، كما لا تستطيع العلوم أن تفسر لنا - بالاعتماد على فكرة المصادفة وحدها كيف تتجمع هذه الدقائق الصغيرة لكي تكون الحياة ، ولا شك أن النظرية التي تدعي أن جميع صور الحياة الراقية قد وصلت إلى حالتها الراهنة من الرقي بسبب حدوث بعض الطفرات العشوائية والتجمعات والهجائن. . نقول:إن هذه النظرية لا يمكن الأخذ بها إلا عن طريق التسليم ، فهي لا تقوم على أساس المنطق والإقناع !  " .

كتاب الكون يسري في عضامي   فيحيني وتشرق منه نفسي

جرى بمعاني الآياتِ هديا    وعانق خد  أقلامي وطــــــــرسي

تدبرتُ الوجود فذقتُ شهداً    أزالَ غشاوتي وأذابَ يأسي

الظلال من تفسير سورة الأنعام   ص  (  158ــ  ). الجزء رقم ( 2 )