رمضان روح الأمة وحياتها

رمضان روح الأمة وحياتها

عبد المعز الحصري

[email protected]

الأمة كلها تنتظر ذلك المولود الذي حملته أمه تسعة أشهر بالتمام والكمال فرمضان هو الشهر التاسع من السنة الهجرية  وكأنّه التوأم الحقيقي للانسان وذلك في مدة حمله وفي شرفه ومنزلته عند الله  فحرمة دم المسلم عند الله أشد من حرمة الكعبة  ،

ومنزلة رمضان كبيرة عندالله ولذلك كان نزول القرآن فيه

   وتكمل الفرحة عند اللقاء في تمام الموعد المعد والمسبق ، تكمل فرحة الفقير به لانه يرى أثر نعمة الله عليه وتكبر فرحة الصغير به لما يرى من أنواع الاطعمة والمشروبات وبهجة الاهل به ،

 والامة كلها تفرح باطلالة شهر رمضان على الدنيا فهم ينتظرونه بفارغ الصبر وقوة العزيمة واصرار المجاهد على نيل الشهادة أو النصر ، فبعدما كانت الامة في غرفة الانعاش والعناية الحثيثة يأتي رمضان لتعيش الامة به شبابها وقوتها وتنفض عنها غبار الذل والخور

  رمضان  شهر الجهاد بل شهرالجهاد الأكبر الذي تخوضه الامة في صراعها أمام موجات طمس هويتها ولهثان أعدائها في أغرائها وخلع ثوب عزتها وكرامتها

 والامة التي  لا تستعد للجهاد امة تسحق تحت الاقدام ولا كرامة لها ولا روح ولا حياة فهي اشبه بالميت ينتظر من يدفنه تحت التراب لكي لا تفوح رائحته .

 هذا رمضان الذي ذكره الله في القرآن الكريم مرة واحدة ليفهم اللبيب قدره وعظمته ،

 قلت

 الراء - من كلمة رمضان – رحمة من رب العالمين لعباده المسلمين

والميم مغفرة للعاصين التائبين  ،  والضاد ضمان في الجنة  للموحدين الطائعين ، والألف أمان للمؤمنين المحسنين ، والنون نور في جباه الساجدين يسعى بين أيديهم  ، وقلت أيضا في كلمة لي في أحد مساجد عمان  الراء رحمة والميم مغفرة والضاد ضمان في الجنة والالف أمان من النار والنون نور وبرهان  وفي الحديث " أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار " أو كما قال عليه الصلاة والسلام

رمضان – و قلت في كلمة لي في أحد المساجد –

 رمضان  ليس شهر الاستهلاك بل هوشهر الامساك عما حرم الله  ،  وعما أحل الله من الاكل والشرب والجماع في نهاره ، فالاعتدال في الطعام والشراب كما امر الشارع الحكيم مع الذكر الدائم  يسمو بالروح  ويمدها بطاقة تعلو على الجسد الترابي

رمضان هو روح الامة الذي يعيد لها حياتها بالقرب من الله

فهو شهر الارتقاء بالروح لتعرج الى بارئها وتعبد الله كأنها تراه فتقف على محارم الملك الديّان  دون أن تتعدى حدوده أو تنتهك محارمه   ،  فيتجلى الصوم باعلى تجليات الاخلاص لله فالامة كلها في مراقبة الله وخشيته وتقواه فكان من أعظم حكم الصوم التقوى

 قال الله تعالى :  " ياأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلك لعلكم تتقون " الآية 183 سورة البقرة   فبالصوم يصل المؤمن الى مرتية الاحسان وهذا يذكرنا يقول الله في الحديث القدسي " ....الصيام لي وأنا أجزي به ......" صحيح البخاري         

رمضان ليس شهر النوم والكسل بل شهر الجد والعمل بل هو شهر يشد فيه المئزر  ويغتنم المؤمن فيه كل ساعة لأنه يعلم أنّ رمضان شهر ، الاجر فيه مضاعف فالمؤمن يضاعف في اغتنام وقته وصحته وفراغه وحياته فقد لا يعيش الى قابل ،  وكان صلى الله عليه وسلم  يخص رمضان من العبادة بما لا يخص غيره به من الشهور حتى إنه كان ليواصل فيه أحيانا ليوفر ساعات ليله ونهاره على العبادة وكان ينهى أصحابه عن الوصال فيقولون له إنك تواصل فيقول لست كهيئتكم إني أبيت - وفي رواية إني أظل - عند ربي يطعمني ويسقيني  

حذار حذار من الخيمة الرمضانية – ان ساغ التعبير - فهي خيبة ومجمع للنفوس المتكاسلة في أداء واجباتها في هذا الشهر المبارك  ولما فيها من اشباع الشهوات بالاختلاط واللهو والغفلة عن لآ لآء رمضان 

إنّ إبليس وحزبه والطاغوت وجنده يريدون الامة جسدا بلا روح ويحاولون  وضع السم في العسل ليبدوا للعيان حلو المذاق جميل المنظر ،  فيفرغون العبادة من مضمونها والغاية منها " اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ الْكِتَابِ وَأَقِمْ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45) سورة العنكبوت

 فتصبح الصلاة حركات وطقوس لا روح لها لتنهيه عما حرم الله

 إنّ أعداء الأمة يرضون منا القليل القليل من اتباعنا لهم  حتى يصلوا إلى سلخ الأمة سلخا كاملا عن معتقداتها " وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (120) سورة البقرة   وهذا ما يحصل لبعض اخواننا في الغرب فيموت العدل والضمير وتتغير لديهم المفاهيم وتاخذهم العزة بالاثم ويحكمهم الهوى والطاغوت و ربما ضربت البنت امها وضرب الولد اباه وعمه ووقفت البنت بوقاحتها تسفه الرجال اولي النهى متبجحة بقولها ان عمربن الخطاب اوقفته امرأة  كل هذا وغيره  لأنهم نالوا بعض حطام الدنيا الزائل فينهدم جزءٌ من شعائر دينهم وهم لا يشعرون وتصبح بيوتهم أشبه ببيت العنكبوت الواهن قال الله تعالى  " مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ  " (41)  سورة  العنكبوت  وهنا يفرض نفسه علينا الميزان الذي نزن به الهجرة إلى دار الكفر فان كان المؤمن في زيادة دينه وقربه من الله – كأن يكون داعياً ... –  فهو يشبه بذلك سفير الإسلام الأول  مصعب بن عمير رضي الله عنه وان كانت الحياة في دار الكفر تؤدي إلى نقصان دين المرء و تفكك أسرته  فما عليه إلا الإسراع والرجوع إلى أرض الإسلام , والموت فيها  أشرف  بألف ألف مرة من الحياة في دار الكفر ولنتذكر الذي اعلن توبته بعدما قتل مائة نفس فهجر القرية الظالمة في طريقه الى ارض الاسلام ومات في وسط الطريق بل واقرب بشبر  فجاءت ملائكة العذاب وملائكة الرحمة و تنازعت في أخذه  فأخذته ملائكة الرحمة  لأنه كان اقرب الى ارض الاسلام  , و العاقل العاقل من فر بدينه إلى الله , قال الله تعالى " فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ  " الآية (50) سورة الذاريات

 ولنقف مع رمضان وقفة نعيد فيها حساباتنا أينما كنا على وجه هذه المعمورة حتى  نرضي الله وترفعنا عنده في عليين

رمضان شهر القرآن  ،  والقرآن دستورنا ورمز حضارتنا وهوالنور المبين وحبل الله المتين من أخذ به  أخذ بحظ وافر من السعادة في الدارين وصدق القائل من أراد الدنيا فعليه بالقرآن ومن أراد الآخرة فعليه بالقرآن ومن أرادهما فعليه بالقرآن ، فالقرآن يشفع وينفع ويرفع ،

و عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :  " إن الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب " رواه الترمذي و قال حديث حسن صحيح ,  ولولا رمضان لنسي بعض الناس -  وهجروا -  كتاب ربهم الذي فيه فلاح أمرهم وصلاح بالهم واصلاح دنياهم وآخرتهم  ،   وبهجرانهم لكتاب الله ترفع  ضدهم شكوى " وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً " ( 30 ) سورة الفرقان

وهجران القرآن على أضرب منها هجران العمل به وتطبيقه واتخاذه منهاج حياة وهجران تدبر وفهم وهجران تلاوة ... ولقد كان كثير من السلف يعكفون على تلاوته ودراسته والاكثار من ذلك أسوة وقدوة بالرسول صلى الله عليه وسلم والذي كان يتدارس القرآن مع جبريل في كل سنة مرة حتى اذا كان العام الذي قبض فيه تدارس صلى الله عليه وسلم القرآن مرتين معه

في رمضان تلتقي الارواح ( الروح البشرية التي أودعها الله في الانسان مع كتا ب الله المبارك " وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) "(الشورى)   ، روحا من أمرنا :يعني القرآن  أوما أوحي الى النبي صلى الله عليه وسلم  هكذا جاء في بعض التفاسير

ففي رمضان  تتجدد حياة الأمة المعنوية وكما تلتقي أرواح البشر مع  الأجسام  النورانية الروح "جبريل عليه السلام " والملائكة في

ليلة خير من الف شهر ليلة تسلم الملائكة فيها على عباد الله وهذه الليلة  سلام هي حتى مطلع الفجر , اذا كانت هناك حياة فهناك روح تسري بها وكل ما جاء به صلى الله عليه وسلم هو حياة للبشرية بل للعالمين ولا حياة لكائن ما بلا رحمة   فكان صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين.قال الله تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)سورة الانفال

رمضان شهر الأنوار الالهية التي يتجلى بها الله على عبادة ، فتلتقي الأنوار الملائكية السماوية مع الأنوار البشرية الارضية – الترابية -وتسلم عليهم ويعم السلام على المؤمنين حتى مطلع الفجر  وتصعد الملائكة صبيحة تلك الليلة  حتى تحجب ضوء الشمس ويبقى أثر أنوار رمضان في قلوب أهله سنة كاملة ينعمون به حتى يأتي رمضان  ،  وهكذا العمر كله تسعد الروح بتلك التجليات فهم في نعيم القرب وهذا يذكّرهم بنعيم اللقاء والرضا في الفردوس الأعلى فهم يمشون على الارض وقلوبهم تحت العرش – والعرش هو سقف الجنة -  ووجوههم ناضرة وأبصارها الى ربها ناظرة – اعبد الله كأنك تراه -  وقلوبهم لله ذاكرة فهم في الدنيا بنعيم وشوقهم الى رضوان من الله أكبر

رمضان شهر صلح الامة مع ربها لانها تقوم على خدمته وتزيد في طاعتها لربها ومن ثمرات الصلح مع الله الرحمة والبركات والنصر،

ومن أفضال الله ورحمته وكرمه على الأمة المحمدية أن جعل لهم رمضان وليلة القدر لتكون أمة السبق على الامم ، فطيلة الشهر يجتهد المؤمن في الطاعة حتى اذا قام ليلة القدر كان له من الاجر خير من ألف شهر ثم يأتي العيد فينال الجائزة – المغفرة والرضوان –

رمضان يذكرنا بالتوبة والانابة الى الله لنقف عند الحرف والكلمة والهمز واللمز  لتكون في ميزان حسناتنا لا أن تكون علينا حسرة و وزرا ،

رمضان يحث المؤمنين على اللحاق بجيل الصحابة الاطهار- رضي الله عنهم -  الذين تربّوا في مدرسة النبوة فهم السلف ونحن لهم خلف ، فديننا دين يسر وطهر ،  ففي رمضان يعيد المؤمن يناء ذاته ويحسّن سلوكه ليكون مؤمنا حقا فيكون النصر جديرا له "  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)  سورة محمد

 كان سيدي الوالد الشيخ أحمد الحصري – رحمه الله -  يقول في أحد دروسه في الجامع الكبير ( معرة النعمان )  فما بالنا اذا انتهى رمضان رجعنا القهقرى وعقدنا صلحا مع ابليس وأعوانه  ونسينا ماكان منا في رمضان ولينتبه كل واحد منا الى هذا الامر الخطير ، فرب رمضان هو رب الشهور كلها وكما قال ابن تيميه رحمه الله عندما سئل أي العبادة أفضل في شعبان أم في رمضان فقال :  لاتكن شعبانيا ولارمضانيا ولكن كن ربانيا

 ايها الاخوة لتكن السنة كلها صورة شبيهة برمضان – على قدر الاستطاعة -  حتى تصلح أعمالنا ودنيانا وآخرتنا فرمضان شهر الخير والبركات ومن منا لايتمنى الخير والبركات من الله ونحن نلقي على أنفسنا تحية الاسلام وندعو بالرحمة والبركات  ، وهذا مناد ينادى في رمضان ياباغي الخير أقبل وياباغي الشر أقصر ، وما علينا الا أن نقبل على الخير مادامت الانفاس تضطرب في الصدر- ولو بالنية- والقلب ينبض معلنا ذهاب العمر بدقاته وصدق القائل :  

دقات قلب المرء قائلة         إن الحياة دقائق وثوان

  قال ابن السماك  و هو يعظ أحد الأمراء : قال الله تعالى " فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً " (84) من سورة مريم   فإذا كانت الأنفاس معدودة وليس لها مدد فما أسرع أن تنفد

سبحان ربك رب العزة عمّا يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.