رمضانيات 1431 2

رمضانيات 1431

د.عثمان قدري مكانسي

[email protected]

وسارعوا إلى مغفرة من ربكم -7

إذا كان علماء الفلك قد اكتشفوا مجرّة فقدّروا قطرها بخمسين مليار سنة ضوئية ، وهي نقطة في بحر السماء الدنيا ، فكم قطر السماء الدنيا ؟ .. وإذا كانت السماء الدنيا للسماء الثانية كحلقة في فلاة ، فكم قطر السماء الثانية ؟ .. وإذا كانت السماء السادسة للسماء السابعة كحلقة في فلاة ، فكم قطر السماء السابعة ؟

وإذا قرأنا قوله تعالى في سورة آل عمران : "  وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) " تساءلنا : إذا كان عرض إحدى الجنان التي أعدها الله تعالى للمؤمنين يعادل عرض السماوات والأرض فكم طولها ؟؟ وكم حجم الجنان الأخرى وهي كثيرة : الفردوس الأعلى ، وجنة عدن ، وجنة المأوى  وجنة الخلد ، وجنة النعيم ؟ وغيرها كثير لا يعلمه إلا الله تعالى .

إن ملكوت الله تعالى كبير  لا يعلمه إلا من خلقه ، والخير فيه ينتظر المؤمن الذي آمن بالله رباً واحداً لا شريك له ، وآمن بملائكته ورسله واليوم الآخر ، فعمل صالحاً يرضي ربه فأكرمه .

ولاحظوا معي فعل الأمر والحض على المسارعة ، " سارعوا " إنه على وزن " فاعل " الذي يعني التنافس والمباراة بين المؤمنين في الوصول إلى جنان الخلد التي فيها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر . ولا يصل إليها إلا من شمّر عن سواعد الجد وشد المئزر ، واجتهد في الطاعة .

ولا بد قبل الدخول إلى الجنة من مغفرة الله تعالى " وسارعوا إلى مغفرة من ربكم .." ولن يدخل أحد الجنة بعمله ، إنما يرافق العملَ نيّةٌ خالصة لرضاء المولى وكسب عفوه اللذين يجعلانا من السعداء الذين يحوزون دار الخلد والأمان .

هذه الدار أعدّتْ للمتقين وهم السابقون الذين ذكروا في سورة " الواقعة " . ذكروا في تلك السورة وهم يفوزون بالجنة العالية دون أن يُذكر فيها سبب حصولهم على المكانة العالية ، إلا أننا نجد في هذه الآية من سورة آل عمران صفات تؤهلهم لما وصلوا إليه من النعيم المقيم  "  الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) " فهم :

1-    ينفقون في حاتي الفقر والغنى ويتصدّقون باستمرار .

2-    يجترعون الغيظ ويسكتون عنه وهم قادرون على الانتقام ، محتسبين الأجر عند الله .

3-    ويعاملون الناس بالعفو والمغفرة لأنهم يريدون من الله العفو والمغفرة .

4-    يحسنون إلى الناس ويكرمونهم على ما بدر منهم ، وكأن شيئاً لم يكن .

ونرى التدرج في هذه الآية من تحمل الأذى ، إلى العفو والمغفرة ، إلى الإحسان إلى من أساء إليك ، وهذه صفة لا يمتلكها إلا أولو العزم وأصحاب الهمم العالية والنفوس الرضيّة .

ثم تأتي الآية التي تتحدث عن أهل اليمين : "  وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) " وسورة الواقعة تذكر فوزهم برضا الله والجنة  دون ذكر الأسباب المانحة لهذه الدرجة لكننا نرى في هذه الآية أنهم :

1-    بعد أن ظلموا أنفسهم استغفروا الله تعالى وتابوا إليه ، فهو الغفور الرحيم .

2-    أقلعوا عن الذنوب ، واجتهدوا أن لا يقعوا فيها .

3-  وعموا علم اليقين أن من اجتهد في التوبة وحرص عليها يغفر الله له ويعفو عنه ، فهو الذي يقبل التوبة عن عباده  .

والنفس ثلاثة أنواع : النفس المطمئنة ، والنفس اللوامة ، والنفس الأمارة بالسوء . أما الأولى والثانية ، فالشيطان مرتاح من متابعتهما ، فالأولى قريبة إلى الله تعالى ملتزمة بطاعته ، ومجتهدة في السمو والارتفاع ، هذه تحرق الشيطان إن حاول الدنوّ منها ، والثالثة باعت نفسها للشيطان ، وأفسدت أكثر مما طلب منها ، فهذه لا يتعب الشيطان في التلاعب بها ،

 أما النفس اللوامة فترى الشيطان يحاول إغواءها وإيقاعها في الفتن ، فإن قدر عليها واطمأن إلى ذلك ذكرت الله سبحانه فاستغفرت وتابت ، فالشيطان معها في مدّ وجزر ، وكر وفرّ لا يمل منها وهي لا تمكنه من نفسها  ، تضعف أمام إغراءاته ثم تنتبه من غفلتها ، فتلجأ إلى الله وتلوذ بحماه سبحانه ..

وهؤلاء الذين يسعون إلى رضا الله ، فيتوبون إليه ويستغفرونه ، ويجهدون أن يتفلّتوا من أحابيل الضلال والغواية  يغفر الله لهم ، فهو سبحانه خلقهم من ضعف ، والضعيف قد يزل إلا أنه بعد الكبوة ينطلق إلى الأمام فيتخلص من وهدة الزلات وحفر الذنوب . "  أُولَٰئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136) " هؤلاء أصحاب اليمين ..

وما أروع التعبير القرآني في وصف السابقين وأصحاب اليمين في سورة الواقعة : " فأما إن كان من المقرّبين فرَوحٌ ورَيحان وجنّة نعيم ، وأما إن كان من أصحاب اليمين فسلام لك من أصحاب اليمين . "

اللهم اجعلنا من المقربين ومن أصحاب اليمين ، فأنت الغفار ، وأنت أكرم الأكرمين .

***********************

أقربهم مودة للذين آمنوا – 8

تلوت اليوم قوله تعالى في سورة المائدة :

" لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا " فتوقفت عندها ولم أكمل الآية  فالكلام شدني شداً ، وساءلت نفسي : لِمَ نجد اليهود شديدي العداوة للذين آمنوا ، وكان بإمكانهم أن يتدبروا ويتفكروا ، فيعلموا الحق ويتبعوه ، ويعلموا الباطل فيجتنبوه ، أليسوا من كانوا يهددون مشركي يثرب من الأوس والخزرج بخروج نبي حان أوانه فيؤمنون به ويقاتلون تحت رايته هؤلاء المشركين فيقتلونهم قتل عاد وإِرَم ؟ ولماذا حين عرفوه قال كبيرهم : العداوةَ ما حيينا ، ولن نؤمن به . فقاتلهم وشتت بعضهم وأباد بعضهم الآخر ، فقالوا معاندين : ملحمةٌ كتبت على بني إسرائيل . وحاولوا قتل النبي عليه الصلاة والسلام مراراً حرباً ومؤامرة وتسميماً فلم يفلحوا ، وكان بيدهم أن لا تكون ملحمة !!. لا شك أنه الاستكبار وعناد الحق ومجافاته ، وغمط الناس ، فغضب الله عليهم ولعنهم .

 ذكر ابن كثير رحمه الله في تفسيره عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما خلا يهودي بمسلم قط إلا هم بقتله " وفي رواية " إلا حدث نفسه بقتله "

وأكملتُ قوله تعالى في الآية نفسها : " ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون ، وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق ، يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين ، وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ، ونطمع أن يُدخلنا ربنا مع القوم الصالحين "

قلت في نفسي : وهل تنطبق هذه الآية على مجموع النصارى أو على بعضهم ؟ فإذا بالآية تعيدني إلى قراءتها مرة أخرى وتقول لي :

1-  إن أولى صفاتهم أنهم لا يستكبرون عن اتـّباع الحق حين رأوه فآمنوا بالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً .

2-    وأنهم كانوا ينتظرون النور الذي جاء فلما عرفوه وعلموا أنه يتصل بالنور الذي معهم أسرعوا إليه مجيبين .

3-    سألوا الله تعالى أن يجعلهم من الشاهدين ، وأن يدخلهم مع القوم الصالحين محمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به .

وذكرت قوله تعالى في هذا الصنف الذي آمن بالإسلام ديناً وعقيدة ممن كانوا نصارى فمدحهم القرآن : " وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله.."

وهم الذين قال الله فيهم " الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون ، وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا ، إنا كنا من قبله مسلمين" إلى قوله تعالى " لا نبتغي الجاهلين " .

قال عطاء بن أبي رباح هم قوم من أهل الحبشة أسلموا حين قدم عليهم مهاجرة الحبشة من المسلمين .

وقال قتادة : هم قوم كانوا على دين عيسى ابن مريم فلما رأوا المسلمين وسمعوا القرآن أسلموا ولم يتلعثموا ، وما ذاك إلا لما في قلوبهم - إذ كانوا على دين المسيح - من الرقة والرأفة كما قال تعالى " وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية " وفي كتابهم : من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر ، وليس القتال مشروعا في ملتهم ، تضمن وصفهم بأن فيهم العلم والعبادة والتواضع ثم وصفهم بالانقياد للحق واتباعه والإنصاف .

وذكر ابن كثير في تفسيره كذلك أن بعض أهل الحبشة قدموا مع جعفر بن أبي طالب فلما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم القرآن آمنوا وفاضت أعينهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لعلكم إذا رجعتم إلى أرضكم انتقلتم إلى دينكم " فقالوا : لن ننتقل عن ديننا فأنزل الله ذلك من قولهم " وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين " .

فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين

 فجازاهم على إيمانهم وتصديقهم واعترافهم بالحق جنات تجري من تحتها الأنهار ماكثين فيها أبدا لا يحولون ولا يزولون " وذلك جزاء المحسنين في اتباعهم الحق وانقيادهم له حيث كان وأين كان ومع من كان .

وكل من آمن بالإسلام قديماً أو حديثاً أو مستقبلاً يندرج في هذه الآيات حكماً .

أما ما نراه في عالمنا المعاصر من تآلب النصارى على المسلمين فهؤلاء من الذين انغمسوا في الشرك ، فجعلوا لله ولداً وزوجة وشريكاً ، ثم انجرفوا في موجات الفكر اليهودي فكانوا عوناً له ،وفيهم ينطبق قوله تعالى " ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم "  وفي الولايات المتحدة الأمريكية أكثر من ثمانين مليوناً من النصارى المتصهينين المتعاطفين مع اليهود قلباً وقالباً ، وهم الذين يمدونهم بالمال والسلاح وغير ذلك .

نسأل اللله تعالى أن يفقهنا في الدين ويعلمنا التأويل ، ويثبتنا على الحق .. اللهم آمين .

***********************

إنه أخي من دونك -9

تروي السيرة أن صاحب لواء المسلمين في غزوة بدر مصعب بن عمير رضي الله عنه ، وصاحب لواء المشركين أخوه أبو عزيز ، وحامل اللواء من أحرص المقاتلين على النصر ، فهو عرضة للقتل أكثر من غيره ، فسقوطه يعني سقوط اللواء ، وهذه بداية الهزيمة وشؤم النهاية.  فلما نصر الله تعالى المسلمين كان أبو عزيز بين الأسرى يقيده أحد المسلمين ، فلما رأى أبو عزيز أخاه مصعباً قال له مستعطفاً ، محركاً فيه عاطفة الأخوّة والدم : يا أخي وصّ المسلم بي ، لكنّ أوّل سفير لرسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلم أنْ لو كان النصر حليف المشركين فلن يرحموا المسلمين ، ولو كانوا ذوي رحم . بل إنهم ما جمعوا الجموع وجيّشوا الجيش إلا للقضاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين فلا هوادة معهم ، قال مصعب للمسلم : شدّ عليه يا أخي ، فإن له أماً غنية تفيديه . فقال أبو عزيز : أهذه وصاتك بي يا أخي ؟! . رد عليه مصعب بلسان الإيمان وصرامة الموقف قائلاً  : صه ، فإنه أخي من دونك .

ذكرني هذا الموقف بموقف أبي الأنبياء عليه صلاة الله وسلامه من أبيه آزر ، وردت قصته في الآية 74 من سورة الأنعام تبدأ بالآية الكريمة :

" وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين"

فقد وعظ إبراهيم أباه في عبادة الأصنام وزجره عنها ونهاه فلم ينته كما قال " قال:  أتتأله لصنم تعبده من دون الله ، إنك والسالكين مسلكك تائهين لا تهتدون بل إنكم في حيرة وجهل وأمركم في الجهالة والضلال بين واضح لكل ذي عقل سليم . قالها منبهاً شدّة جرم مَن يتنكب طريق الهداية ويعبد صنماً لا يضر ولا ينفع ، أو يعبد بشراً مثله يأكل ويشرب ، ويصح ويمرض .

وقد ذكر تعالى قصة الولد الصالح والنبي النابه إبراهيم مع أبيه في سورة " مريم "  ابتداء من الآية 42 في قوله : " واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا إذ قال لأبيه :

1-  - يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا ؟

2-  يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا ،

3-  يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا .

4-  يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا . "

تقرّب إليه حين كلمه بلطف الذكي الأريب ناصحاً متودّداً ، ومنبهاً محذراً من أن عبادة ما لا يعقل ولا يسمع ولا يبصر ، إن ذلك نزول بالإنسان إلى مستوى الدونية ، وأن اتباع الحق أولى ولو كان الناصح أصغر وأسنّ ، فالصغير قد يصل إلى العلم والهداية  قبل الكبير ، وأن العاقل يتبع المهتدي أيا كانت مرتبته الاجتماعية ليصل إلى منبع الضياء ونور الحق . إن الشيطان حريص على إفساد البشر وضلالهم فهو عاص لله تعالى ويريد أن ينزلق الناس معه ليكونوا معاً في النار والعذاب .. وكان إبراهيم عليه السلام حريصاً على هداية والده ، فمن كان عبداً لله نجا ، ومن كان عبداً للشيطان هلك ، وشتان ما بين أن تكون ولياً لله تعالى أو للشيطان الرجيم .

إلا أن أباه كان سادراً في غيّه ، فعاب على ولده أن يسلك طريقاً غير طريقه ومسلكاً غير مسلكه  ، وهدده بالقتل ، ثم طرده " قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا " ،

فما كان من إبراهيم عليه السلام وقد كان لسانه ينطق بالحكمة والنبوّة إلا أن أجابه بلطف المقال : " قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا ، وأعتزلكم وما تدعون من دون الله ، وأدعو ربي عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقيا " فكان إبراهيم عليه السلام يستغفر لأبيه مدة حياته فلما مات على الشرك وتبين إبراهيم ذلك رجع عن الاستغفار له وتبرأ منه كما قال تعالى " وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم "

وثبت في الصحيح أن إبراهيم يلقى أباه آزر يوم القيامة فيقول له آزر : يا بني اليوم لا أعصيك فيقول إبراهيم : أي رب ألم تعدني أنك لا تخزيني يوم يبعثون وأي خزي أخزى من أبي الأبعد ؟

ولم يكن الله تعالى ليغفر لمن عبد غيره ، أو أشرك غيره بعبادته  ، ألم يقرر سبحانه القاعدة التي أقرّها في ملكوته سبحانه " إن الله لا يغفر أن يُشرك به ، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ، ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالاً بعيداً " النساء 116...

ونودي إبراهيم - وهو بين يدي ربه يشفع لوالده الكافر - يا إبراهيم انظر ما وراءك فإذا هو بذبح متلطخ فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار . لقد انقلب والده خنزيراً قذراً تحمله زبانية العذاب إلى النار . نعوذ بالله أن نكون وقوداً لها ، أو من أهلها .

***********************

الدنيا لأربعة نفر – 10

روى أبو كبشة الأنماري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ثلاث أقسم عليهن وأحدثكم حديثا فاحفظوه . قال :

1- ما نقص مال عبد من صدقة ،

2- ولا ظلم عبد مظلمة صبر عليها إلا زاده الله عزا ،

3- ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر – أو كلمة نحوها

وأحدثكم حديثا فاحفظوه . فقال : إنما الدنيا لأربعة نفر :

1- عبد رزقه الله مالا وعلما فهو يتقي ربه فيه ويصل به رحمه ، ويعلم لله فيه حقا فهذا بأفضل المنازل ،

2- وعبد رزقه الله علما ولم يرزقه مالا فهو صادق النية يقول : لو أن لي مالا لعملت فيه بعمل فلان فهو بنيته فأجرهما سواء ،

3- وعبد رزقه الله مالا ولم يرزقه علما يخبط في ماله بغير علم ، لا يتقي فيه ربه ولا يصل فيه رحمه ، ولا يعلم لله فيه حقا ، فهو بأخبث المنازل ،

4- وعبد لم يرزقه الله مالا ولا علما ، فهو يقول : لو أن لي مالا لعملت فيه بعمل فلان ، فهو بِنيته فوزرهما سواء

المحدث: الترمذي - المصدر: سنن الترمذي - الصفحة أو الرقم: 2325 / حسن صحيح

- في حديث آخر يؤكد النبي صلى الله عليه وسلم أن المال بالصدقة يزيد ، وكررها ثلاثاً حين قال صلى الله عليه وسلم : ( بل يزيد ، بل يزيد ، بل يزيد ) وقد يتساءل أحدنا ، بل قل : - أحدهم ، فالمسلم يعلم علم اليقين أن الحبيب المصطفى صادق لأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى - كيف يزيد المال وهو ينقص بالصدقة  ؟

قد جربنا وجرّب غيرنا هذا ، فعلمنا أن الصدقة تمنع مصيبة قد تحدث ، أو مرضاً قد يصيب ، أو ضراً قد يقع ، أو حادثة قد تذهب بالمال كله أو بعضه ، ثم إن المتصدّق لوجه الله تعالى تظهر البركة في ماله ، وينمو برضاء الله تعالى ، ويأتيه الرزق من حيث لا يدري ، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن ملكين يدعوان ، يقول الأول : " اللهم أعط منفقاً خلفاً ، ويقول الآخر : اللهم أعط ممسكاً تلفاً " . والصدقة قرض منك يتقبله الله تعالى ، ويجزيكه بأضعاف ما أنفقت في  الدنيا وفي الآخرة ، ألم يقل الله تعالى " من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناُ فيضاعفه له أضعافاً كثيرة " ؟ ومن أصدق من الله قيلاً ؟

-         وقد يُظلم المسلم  ، يظلمه أخوه ، فيأكل نصيبه أو يغمطه حقه أو يغتابه أو ينم عليه - فليصبر  وهو قادر أن ينتقم لنفسه ، فيجزي الظلم بالظلم ، والقهر بالقهر ، فإذا المجتمع ينقلب ناراً تلظّى ، والحياة تتحوّل ثأراً والنفوس تزداد بغضاء وشحناء.

-   وقد يتساءل أحدنا وما فائدة الصبر على الظلم إذا امتهن الإنسان ولم يعش حياة حرة كريمة ؟ فالجواب : إن الحديث لا يُقصد فيه أن يعيش المسلم في جو خانق وظلم محيق ، وانتبه إلى قوله صلى الله عليه وسلم : (ولا ظلم عبد مظلمة صبر عليها )، هي مظلمة قد تنال المرء عمداً أو عن غير عمد ، ويستطيع أن يأخذ حقه بيديه فيتناسى هذا الحق ليصل إلى هدف أكبر ،إلى درجة المحسن الذي يغض الطرف ليعطي المجتمع المسلم درساً في الأخلاق الحميدة ، وليعلم المظلوم أنه وإن قدر على الانتقام وإعادة حقه فقد دفع بالتي هي أحسن ، فإذا عدوّه وظالمه يعتذر له وينقلب محباً بعد أن كان شانئاً . ألم يعلمنا الله تعالى ذلك حين قال " ادفع بالتي هي أحسن ، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ، وما يُلَقاها إلا الذين صبروا ، وما يُلَقاها إلا ذو حظ عظيم " ؟ أما إذا تفشى الظلم في مجتمع فالتصرف المؤدي إلى استعادة الحقوق له طرق أخرى ، لا يقصدها هذا الحديث الشريف ، والله أعلم .

-   أما الذي يتخذ من السؤال باباً للغنى فقد أخطأ الطريق ، وضل الصراط المستقيم ، إن المسلم عزيز النفس لا يرضى لها الدون ، وقد منع رسول الله صلى الله عليه وسلم شاباً سأله وهو قادر على العمل فأعطاه حبلاً وأمره أن يحتطب ويعيش من كد يمينه ، وأخبرنا أن المتسول يلقاه المسلمون يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم . إن المتسوّل الذي يلحف في السؤال ويمد يده للناس وهو قادر على العمل يستسهل جمع المال بسؤال الناس لن يشبع ولو جمع المال الكثير بهذه الطريقة لأن الله تعالى يمد له في جشعه ، فلا يشعر بلذة الحياة ، ويعيش – وهو ذو مال – عيشة الفقراء . ومثله البخيل ، ألم نقرأ في المأثور أن البخيل يعيش في فقر خشية الفقر ؟

-         أما الحديث الذي نبهنا إليه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله " وأحدثكم حديثا فاحفظوه

فقد أراد صلى الله عليه وسلم أن يغرس في قلوبنا مفهوم النية الصالحة ، والعمل بهذه النية ، فهي التي يقبلها المولى عز وجل " إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى "

فالرجل الأول ذو مال يصرفه في مجال التقوى وصلة الرحم والصدقات ومساعدة المحتاجين ونشر العلم ، ويستعمل علمه في مرضاة الله ونفع العباد ، فهو في أعلى المنازل .

والرجل الثاني آتاه الله العلم ولم يؤته المال ، فكان يعلم الناس ويعمل بعلمه فيما يرضي الله تعالى ويتمنى أن يؤتيه الله مالاً ليصرفه في وجوه الخير كما فعل صاحبه ، فآجره الله على نيته ورفعه بها إلى مرتبة الرجل الأول .

والرجل الثالث آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً ، فهو يخبط فيه خبط أعمى ، ويصرفه في المفاسد والخنا والفجور وفي ما يغضب الله تعالى من إسراف وتبذير وصرف في الملذات وغيرها ، فهو في أخبث المنازل وأسوأ المراتب .

والرجل الرابع لا مال لديه ولا علم ، فهو الشيطان الجاهل الذي يتمنى أن يكون له ما يراه عند صاحبه ليفعل ما يفعله من انغماس في اللهو ، وارتكاب للموبقات ، وسعي إلى الرذيلة والفساد ، فهو في نيته هذه ينزل في منازل صاحبه  الخبيثة .

اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا ، وارزقنا رضاك والجنة .