تأملات تربوية في سورة ( ص) 3

تأملات تربوية في سورة ( ص)

المقال الثالث

(سليمان عليه السلام)

د.عثمان قدري مكانسي

[email protected]

- الهبة كما يقول اللغويون : عطاء دون مقابل ، وهي- الهبة -  نوع من الإكرام يحظى به الموهوب 

 أ- إما مكافأة على نجاحه في اختبار كما حصل لسيدنا إبراهيم عليه السلام " فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب ، وكلاً جعلنا نبياً " ومثله سيدنا داوود حين وهبه الله تعالى ابنه سليمان " ووهبنا لداوود سليمان ، نعم العبد إنه أواب "

ب – وإما استجابة لدعاء حين وهب الله سيدنا زكريا ابنه يحيى " فاستجبنا له ، ووهبنا له يحيى ، وأصلحنا له زوجه " واستجاب دعاء سليمان حين سأله ملكاً يخصه به وحده دون البشر " قال : رب اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي " . ودعاء المسلمين ربهم " ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ، وهب لنا من لدنك رحمة ، إنك أنت الوهاب " .

ج – وإما عوناً وإزراً إذ طلب موسى عليه السلام أن يؤازره أخوه في دعوته فأجابه الله تعالى إلى طلبه " ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبياً " .

د- وإما للتفضيل والاختيار ، والله يفعل ما يشاء " يهب لمن يشاء إناثاً ، ويهب لمن يشاء الذكور، أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً ، ويجعل من يشاء عقيماً  " ومنها اختياره سبحانه عيسى عليه السلام نبياً " " ففوجئت السيدة مريم بهبة ربها لها ولداً طيباً زكياً .

هـ - وإما أن تكون الهبة تقرباً من أدنى لأعلى كما فعلت المرأة حين وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم " وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي " .

-      من سعادة الأب أن يكون أبناؤه صالحين بارّين تقر بهم عيناه ، وينشرح بهم فؤاده ، ومن سعادة الابن أن يرث عن والده الصالح صفاته ، وستزداد سعادته حين يرث النبوة عنه ، وهي أعلى درجات البشر عند الله تعالى " ووهبنا لداوود سليمان ، نعم العبد ، إنه أواب " والأواب كثير الطاعة والعبادةوالإنابة لله عز وجل . والأبياء لا يورِثون مالاً ولا عقاراً إنما يرث السعيد عن والده تلك المكانة العليا " مقام النبوةة وقد أخبرنا تعالى أَنَّهُ وَهْب لِدَاوُدَ سُلَيْمَان فجعله نبياً  كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ " وَوَرِثَ سُلَيْمَان دَاوُد " في نبُوّته وَإلا فَقَدْ كَانَ لَهُ بَنُونَ غَيره فله من الزوجات مِائَة اِمْرَأَة حَرَائِر ، وَقَوْله تَعَالَى " نِعْمَ الْعَبْد إِنَّهُ أَوَّاب

وصفة ثانية كانت مدحاً لسليمان عليه السلام ، إنه مجاهد في سبيل الله تعالى يحب كل ما يعينه على القتال في سبيله وإعلاء رايته . ومن ذلك أنه يحب الخيول الأصيلة – سلاح الفرسان ، وهي القوة الضاربة في قتال العدو ، فأمر أن تعرض عليه الخيول ليستمتع بها ويطمئن إليها ، فعرضت أمامه وهو يتابعها شغوفاً بها حتى غابت عنه " حتى توارت بالحجاب " فلم يبرد شوقه لها ، فأمر أن يعيدوها إليه ، ثم نزل إلى ساحة العرض يتلمّس الخيول ويمسح أعناقها وسوقها ، ويتحبب إليها ، والمقصود بقوله تعالى " إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي " أن حبه للخيل صادر عن أمر الله تعالى . وهذا هو المعنى الحقيقي لهذه الآية .أما الرواية الإسرائيلية فتدليس واستخفاف بعقول الناس لأسباب عدة هي :

أ- إن التأويل عادة يتبع الكلام الذي بين أيدينا ، فما التي توارت بالحجاب ؟ إنها الخيول التي غابت عن ناظريه إذ مرت أمامه وهو يستعرضها حتى غابت عن عينيه ، لا الشمس التي عسفتها التأويلات الإسرائيلية ، إذ قالوا : أنه انشغل بالخيول حتى عابت الشمس ففاتته صلاة العصر .

ب – إن سليمان عليه السلام شعر أنه لم يفِ الخيول حقها بالاستعراض السريع ، فأمر أن يردوها إليه ليلمسها بيديه ويكرمها بالتربيت على أعناقها وسوقها ، لأنه لو جاز أن يكون الضمير في " توارت بالحجاب " عائداً على الشمس لوجب أن يكون الضمير في " ردوها علي " عائداً على الشمس نفسها ، أما القفز هنا وهناك للوصول إلى الشمس فلا يليق بنص رزين ، ناهيك عن كتاب الله الكريم .

ج – وهل تتصور عاقلاً كان يَعُد ماله ، فانشغل به حتى ضيع صلاته ، فأحرق المال يعاقب بذلك نفسه؟! فإذا كان ما يفعله سفهاً وطيشاً فالنبي سليمان منزه عن قطع أعناق الخيول وسـُوقها لأنها – على زعم الإسرائيليات – شغلته عن الصلاة !! ما ذنب الخيول المسكينة لتذبح وتقتل ، والخطأ ليس خطأَها ؟!

والصفة ثالثة كانت مدحاً له – عليه السلام – وهي الإنابة والطاعة ، إذ اختبره ربه سبحانه فأخطأ ، فلما عرف ذلك استغفر ربه وأناب إليه طائعاً ، فما هو الخطأ ؟

َفِي صَحِيح الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( قَالَ سُلَيمان لأطوفنّ اللَّيْلَة عَلَى تِسْعِينَ امْرَأَة كُلهنَّ تَأْتِي بِفَارِسٍ يُجاهد فِي سَبِيل اللَّه فَقَالَ لَهُ صَاحِبه قلْ إِنْ شَاءَ اللَّه , فَلَمْ يَقلْ "إِنْ شَاءَ اللَّه "، فَطَافَ علَيهِنَّ جَمِيعًا فَلَمْ تَحْمِلْ مِنْهُنَّ إلا اِمْرَأَة وَاحدَة جَاءَتْ بِشِقِّ رَجُل , وَاَيْمُ الذِي نَفْس مُحَمَّد بِيَدِهِ لَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّه لجَاهَدُوا فِي سَبِيل اللَّه فرْسانًا أَجْمَعُونَ )  فقد كانت رغبته جامحة في أن يكون له أبناء رجال يجاهدون في سبيل الله ، فلما نسي مشيئة الله تعالى لم تـُستجبْ دعوته ، ولم تحمل منه نساؤه إلا واحدة جاءته بـ (سقط)وضعته على كرسيّه تريه إياه . فما من أمر إلا بيد الله سبحانه " ولا تقولَنّ لشيءإني فاعلٌ ذلك غداً إلا أن يشاء الله ، واذكر ربك إذا نسيت " وقد سُئل النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أسئلة فوعد أن يجيب عنها في الغد ، ولم يقل : ( إن شاء الله ) فلم يأته جبريل أياماً عدة. وكذلك قال موسى عليه السلام لفتاه " لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضيَ حقباً " ولم يقل إن شاء الله فنسيا حوتهما . ، وعودة إلى تأملاتي التي كتبتها تحت عنوان ( تأملات تربوية في قصة موسى والخضر) توضح الفكرة بإسهاب .

أما ما روته الأساطير الإسرائيلية في شرح قوله تعالى " ولقد فتنا سليمان ، وألقينا على كرسية جسداً ، ثم أناب " فدليل على الخرافات التي ملأت عقيدة اليهود وعقولهم ، فماذا تروي أساطيرهم ؟ ! الأساطير في ذلك كثيرة ، نذكر منها واحدة :

كَانَ سلَيمان قَدْ وضع خاتَمه تحت فِرَاشه , فَأَخذَهُ الشَّيْطَان مِنْ تحْته . وقيل : أَخَذَهُ الشيطان مِنْ يَد سلَيمان ; لأن سلَيمان سَأَلَ الشَّيطَان، واسمه صخر: كَيْف تُضِلّونَ النَّاس ؟ فقَالَ لَهُ الشيطَان : أَعْطِنِي خَاتَمَك حَتَّى أُخبرَك . فَأَعطَاهُ خاتَمه , فلَمَّا أَخَذ الشيطَان الْخاتَم جَلَسَ عَلَى كرسِيّ سُلَيمان , متَشَبِّهًا بِصُورَتِهِ , داخلاً عَلَى نِسَائهِ , يأتيهن في حيضهنّ . يَقضِي بِغيرِ الْحَقّ , وَيَأمُر بِغَيرِ الصَّواب ، وزالَ عَنْ سلَيمان مُلْكُهُ فَخَرَجَ هاربًا إِلَى سَاحِل البحر يَتَضَيَّفُ النَّاس ; وَيَحملُ سُمُوكَ الصيادِينَ بالأجرِ , وَإِذا أَخبَرَ النَّاس أَنهُ سلَيمان كذّبوه . ثمَّ إِنَّ سُلَيْمَان بَعد أَنْ اِستَنكَرَ بنو إِسْرَائِيل حُكْم الشيطَان  صَاد سمكة  فلَمَّا شقَّ بَطنهَا وَجَدَ خَاتَمَهُ فِيهَا , وَذلِكَ بَعد أَرْبَعينَ يومًا مِن زوال مُلْكه , وجد الْخَاتَم فِي بَطن الحوت ; لأن الشيطَان الّذِي أخذه ألقاه فِي الْبَحر . وَكَانَ مُلْكه فِي خَاتَمه . ولما رد الله على سليمان ملكه أَقْبَلَتْ إِلَيْهِ الشَّيَاطِين وَالْجنّ والإنس وَالطَّير وَالوحش وَالرِّيح , وَهَرَبَ الشيطان, فَأَتَى جزيرَة فِي البَحر , فَبَعَثَ إِلَيْهِ الشَّيَاطين فَقَالوا : لا نَقدرُ عَلَيهِ , ولَكنَّهُ يَرِدُ عينًا فِي الْجَزِيرَة فِي كُلّ سَبْعَة أَيَّام يومًا , ولا نَقدِر عَلَيْهِ حَتَّى يسكَر ! قَالَ : فَنَزَحَ سلَيمان مَاءَهَا وَجَعَلَ فِيهَا خمْرًا , فَجَاءَ يَوْم وُرُودِهِ فَإِذَا هو بِالْخمرِ , فَقَالَ : واَللَّه إِنَّك لَشَرَاب طَيِّب إلا أَنَّك تُطِيشِينَ الحلِيم , وَتَزيدينَ الجاهل جهلاً . ثُمَّ عَطِشَ عَطَشًا شَدِيدًا ، فأتاه فقال مثل قالتِه , ثمَّ شَرِبَهَا فَغلَبتْ عَلَى عقله ; فَأَرَوْهُ الْخَاتَم فَقَالَ : سَمْعًا وَطَاعَة . فَأَتَوا بِهِ سلَيمَان فأوثقه وَبَعَثَ بهِ إِلَى جَبَل , فذكَرُوا أَنّهُ جَبَل الدُّخان فَقَالُوا : إِنَّ الدخان الذِي تَرَوْنَ مِنْ نَفَسِهِ , وَالْمَاء الَّذِي يَخْرُج مِنْ الْجَبَل مِنْ بَوْله . وأما قصة الجسد فإنه ولد سليمان الذي كرهته الشياطين ; وَقَالَ بعضهم لبعض : إِنْ عَاشَ لَهُ اِبن لَمْ ننفك نحن من السخرة والذل , فتعالوا نقتل ولده أو نخبله . فَعَلِمَ سُلَيمان بِذَلِكَ فَأَمَرَ الرِّيح حَتَّى حَمَلَتهُ إِلَى السَّحَاب , وَغَدَا اِبْنه فِي السَّحَاب خَوْفًا مِنْ مَضَرَّة الشَّياطِين , فَعَاقَبَهُ اللَّه بِخَوْفِهِ مِنْ الشياطين , فَلَمْ يَشْعُر إلا وَقَدْ وَقَعَ ولدُه عَلَى كرسِيّه مَيِّتًا . فهُوَ الْجَسَد الَّذِي قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَالقَيْنا عَلَى كرسِيّه جَسَدًا "

ولا يخفى على المسلم هذه الخرافات العجيبة في عقيدة اليهود ، فسليمان عليه السلام يأمن للشيطان ، فيعطيه خاتمه ، وهو ملك وليس نبياً ! وملكه في خاتمه ، ولا حرمة للنبي حين يزني الشيطان بنسائه ويأتيهن كذلك في حيضهنّ ، ويهرب سليمان من الناس الذين أنكروه هائماً على وجهه ، ثم يرى خاتمه في بطن سمكة يصطادها! وحين يضع خاتمه في إصبعه يعرفه الناس والطير والجن!! وانظر إلى الطريقة التي استجر بها الشيطان مع أن سليمان يقتل الجني أو الشيطان كما جاء في الأثر بقوله بسم الله الرحمن الرحيم ويشير إلى الشيطان ، فيموت ، كما أن دخان الجبل من زفير الشيطان المحبوس وماء الجبل بوله!! .. إنها قصة من قصص ألف ليلة وليلة ليس فيها من الصدق قِيدُ أنمُلة .. فالحمد لله على نعمة الدين الصحيح (الإسلام ) .

ومن المضحك المبكي : أنني كنت أحاضر في أحد مساجد عمّان في تأملات تربوية في قصة النبيين الكريمين داوود وابنه سليمان عليهما السلام  رمضان 1428 للهجرة ، وتطرقـْتُ للروايات الإسرائيلية الخرافية ووجوب النأي عنها وتحرّي الروايات الصحيحة . ففوجئت بعد يومين بإمام المسجد يخبرني بأن إدارة الأوقاف تطلب مني التوقف عن الخواطر والدروس بحجة أنني أتحدث في السياسة التي تخالف التوجه العام للسلام  في أيامنا هذه !!!