تأملات تربوية في سورة (ص)

تأملات تربوية في سورة (ص)

د.عثمان قدري مكانسي

[email protected]

(داوود عليه السلام)

- ليس الكفار في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بدعاً من  غيرهم ممن هم على شاكلتهم ، فملة الكفر واحدة . إنهم حين دعاهم عليه الصلاة والسلام إلى الإيمان بالله وحده – كما ذكر في هذه السورة تكبروا عن قبول الحق ، وأخذتهم العزة بالإثم ، فتعجبوا أن يكون النذير البشيراً رجلاً منهم وكانوا يظنون أنه – إن صدق بما يقول - أن يكون ملكاً ، ثم رموه بالسحر والكذب ، " وقال الكافرون هذا ساحر كذاب " وكيف اختزل –  بسفاهة رأيهم – الآلهة َكلها في إله واحد – وقد كان حول الكعبة أكثر من ثلاث مئة صنم ، كما أن لكل واحد منهم إلهاً يحمله معه ينصبه بين يديه ثم يعبده ! ثم لو كان الرسول من البشر فلماذا اختارالله تعالى محمداً من بينهم ؟! فتساءلوا متعجبين " أَأُنزل عليه الذكر من بيننا ؟! " . فلما أصروا على النأي عن الإيمان ، وصابر بعضهم بعضاً في التمسك بباطلهم كان من البدهي أن يصبر الداعية الصادق على دعوته فهو أولى بذلك ، وأهل الحق أجدر أن يصبروا على رسالتهم التي كلفهم الله بها . ولا بد من الحث والمصابرة والتخلق بأخلاق الدعاة السابقين ممن سلكوا طريق الدعوة الشائك ، فصبروا ، وهم قدوة لنا جميعاً " فبهداهم اقتده " فنبه الله تعالى رسوله الكريم – في هذه السورة – إلى عدد منهم ، بدأهم بكلمة " اذكر"

أ‌-     فكان أولهم شيخ الصابرين من أنبياء الله أيوب عليه السلام " واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسنيَ الشيطان بنصب وعذاب " فكرمه الله تعالى على صبره إذ شفاه من مرضه ووهب له أهله ومثلهم معهم ، وأغناه من فضله .

ب‌-   ثم واساى نبيه بأبي الأنبياء إبراهيم وابنه إسحاق وحفيده يعقوب عليهم السلام ،ومدحهم الله على صبرهم " واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار ، إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار ، وإنهم عندنا لمن المصطَفـَين الأخيار " . فجعل قلوبهم معلقة بالآخرة يعملون لها وجعل ذكرهم على لسان أهل الدنيا طيباً زاكياً .

ت‌-   كما واساه بذكر إسماعيل  واليسع وذي الكفل عليهم السلام ووصفهم بالخيريـّة  لصبرهم على الدعوة فكان هذا شرفاً لهم في الدنيا يُذكرون به " واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل ، وكلّ من الأخيار " .

وكل من سار على دربهم وأتسى بهم فهو ذو ذكر طيب مشهود له بالتقوى وله الجنة

مأوى " هذا ذكر ، وإن للمتقين لَحُسْن مآب جناتُ عدن مفتحة لهم الأبواب " .

- أما داوود عليه السلام فقد أُفرد له في هذه السورة اثنتا عشرة آية ، فقد وصفه الله تعالى بصفات عدة رائعة أولهنّ : أنه عبد لله تعالى ، وصفة العبودية لله أسمى وسام على جبين الرجل ، وأغلى تاج على رأسه  " واذكرعبدنا داوود " .

وثانيهنّ : القوة في الجسم والطاعة والعلم والعمل " ذا الأيدِ " فقد كان يقوم ثلث الليل ويصوم نصف الدهر . " وقد ثبت  فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ " أَحَبُّ الصَّلاة إِلَى اللَّه تَعَالَى صَلاة دَاوُد وَأَحَبُّ الصِّيَام إِلَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ صِيَام دَاوُد كَانَ يَنَام نِصْف اللَّيْل وَيَقُوم ثـُلـُثـَه وَيَنَام سُدُسه وَكَانَ يَصُوم يَوْمًا وَيُفـْطِر يَوْمًا وَلا يَفِرّ إِذَا لاقَى " .

وثالثهنّ : " إنه أوّاب "، والأواب أن يرجع المرء إلى الله تعالى في كل شؤونه وأموره . وهذا غاية التعلق بالله تعالى والالتصاق به .

ورابعهنّ : أَنَّهُ تَعَالَى سَخَّرَ الْجِبَال تُسَبِّح مَعَهُ عِنْد إِشْرَاق الشَّمْس وَآخِر النَّهَار كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ " يَا جِبَال أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْر " وَكَذَلِكَ كَانَتْ الطَّيْر تُسَبِّح بِتَسْبِيحِهِ وَتُرَجِّع بِترْجِيعِهِ ، فإِذَا مَرَّ بِهِ الطَّيْر وَهُوَ سَابِح فِي الْهَوَاء فَسَمِعَهُ وَهُوَ يَتَرَنَّم بِقِرَاءَةِ الزَّبُورلا يَسْتَطِيع الذَّهَاب بَلْ يلفّ فِي الْهَوَاء وَيُسَبِّح مَعَهُ وَتجِيبهُ الْجِبَال الشَّامِخَات تـُرَجِّع مَعَهُ وَتُسَبِّح تَبَعًا لَهُ وهذا دليل على عظيم إيمانه وتقواه عليه السلام " إنا سخّرنا الجبال معه يسبحن بالعشيّ والإشراق ، والطيرَ محشورةً كلٌّ له أواب " .

وخامسهنّ : أنه على ورعه وتقواه – فهو نبي- كان أقوى ملوك الدنيا في زمنه له الكثير من الجند " وشدَدْنا مُلكَه " وكانت مملكته أقوى الممالك يهابه الملوك وتخشى بأسه .

وسادسهنّ : أنه ذو فهم وعقل وفطنة وعادلٌ في حكمه – وهذا دأب الأنبياء ، فقد رباهم الله تعالى على عينه ، واصطفاهم من خيرة خلقه" وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب " .

قصة الخصمين الذين دخلا عليه خلوته

يروي القرآن الكريم القصة التالية :

كان داوود عليه السلام يصلي الليل وحده إذ دخل عليه مجموعة من الناس فيهما رجلان متخاصمان يشتكي أحدهما الآخر " وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوّروا المحراب " فالخصم اسم جنس يدل على واحد واثنين وأكثر ، وكلمة تسوّروا دليلٌ على أن جمعاً جاءوا يشهدون قضية هذين الرجلين المتخاصمين وكذلك كلمة فالمتسوّرون الداخلون كثيرون ، ...ولاننس أسلوب التشويق " هل أتاك " فالقصة لا يعرفها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، فالقرآن الكريم يخبره بها إلا أن الاستفهام يجذب الانتباه ويشوّق لمعرفة الخبر .

يفزع النبي داوود عليه السلام من فجأة دخولهم ، وهو الذي أمر أن لا يدخل عليه أحد ، والحرس يحيطون به من كل مكان ، فكيف ظهر هؤلاء فجأة ، ومن أين دخلوا فلم ينتبه إليهم أحد ؟! إنه لأمر مخيف حقاً ولعل هؤلاء يريدون به الشر ، وهو وإن كان قوياً  وحده في بيته يصلي بأمان ولا يحمل سلاحاً ،إنهم متحلقون حوله ، ويرون فيه الفزع فيُطَمئنونه إلى أنهم يريدون أن يحكم بالحق بين رجلين منهم ، ظلمَ أحدُهما الآخر وبغى عليه ، ولن يعترف أحد منهما بأنه باغ قبل الحكم ، فمن الذي كان يتكلم إذاَ ؟ إن هذا دليل على أن المتكلم حتى الآن غير الخصمين " خصمان بغى بعضنا على بعضض " ثم يطلب كبيرهم من داوود أن يحكم بالحق بلا زيادة ولا نقصان ، وأن يرشدهم إلى السبيل القويم ، فذكر أموراً ثلاثة ينبغي أن تكون في الحاكم وقاضيه " الحكم بالحق ، والبعد من الشطط ، وأن يدل المخطئين إلى الطريق المستقيم " .

وتقدم المتظلم فقال : إن أخاه يملك تسعة وتسعين نعجة بينما يملك هو واحدة فقط ، ويريدها أخوه ليكمل بها المئة ، وقد شدد عليه وضايقه في الطلب ، أفليس هذا ظلماً ما بعده ظلم ، وتعدّياً كبيراً يدل على الأنانية وحبِّ الذات وعدمِ مراعاة الآخرين ؟!! فأسرع داوود يحكم له إذ تعاطف معه فوراً " لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه " .

وكان الخطأ الذي وقع فيه داوود أنه لم يسأل الطرف الآخر عن صدق دعوى أخيه .وسرعان ما حكم بظلم أخيه له ، وكانه عليه – وهو القاضي العادل أن يسمع الطرف الآخر ، فقد يكون الأول كاذباً . وكان عليه أن يسمع حجته في ذلك إن كان المدّعي صادقاً . لا بد من البيّنة أو الإقرار ، ولا بد من الاستقصاء إن لزم الأمر .  

وينظر داوود عليه السلام حوله بعد أن نطق بالحكم متسرعاً ، فلا يرى أحداً ، لقد اختفـَوا فجأة كما دخلوا فجأة ، فيعلم أن من كان عنده قبل قليل ملائكة  جاءت بأمر الله تعلمه كيف يكون قاضياً عادلاً ، وأنهم ما اختفوا فجأة إلا حين عدل عن الصواب في حكمه هذا ..

ويعترف بالخطأ – وهذا سمت الصالحين الذين يقرون بخطئهم ويسرعون للاستغفار ويعلنون التوبة ، ويطلبون الصفح " وظنّ داوود أنما فتنـّاه ، فاستغفر ربه وخر راكعاً وأناب " .

ومن يسرع إلى الاعتراف بزلته ويلجأ إلى ربه ويعلن توبته يقبله الله عز وجل ويسدد خطاه بعد ذلك ، وهذا ما أكرم به الله تعالى عبده داوود عليه السلام ، أفلا يكون المؤمن كذلك فيقتدي بالصالحين ويسير على هداهم ؟.

يروي المفسرون عن الأخبار الإسرائيلية قصة غريبة تقول : إن داوود – الملك  فهو ليس نبياً عندهم – رأى من نافذة قصره امرأة جميلة فأعجبته ، فأراد أن يضمها إلى نسائه ، فلما قيل له : إنها زوجة قائده " أوريا " اغتم ، وقرر أن يتخلص من هذا البطل ، فأمره أن ينطلق إلى مدينة عمّان القريبة من عاصمته القدس – وكانت حصناً متين الأسوار ، وأوصاه أن يهاجمها بجيش قليل العدد ، وأن يدق أبوابها بنفسه وأن لا يعود إلا فاتحاً أو يلقى ربه شهيداً ، فقتل أمام حصونها القوية ، فتخلص منه وتزوج امرأته ، فجاءت الملائكة تعاتبه بطريقة مهذبة ، ففهم ذلك اللوم والعتاب وأحس بخطئه فتاب ..

والقصة لا تجوز في رجل عادي فيه بقية من شهامة ، أفتصح في نبي كريم من أنبياء الله تعالى ، وقد ذكرنا قبل قليل ما مدحه به الله تعالى من صفات كريمة ؟!

إن في وسط إيطاليا وفي مدينة فلورنسا وفي حي من أحيائها الجنوبية المطلة على النهر الذي يتوسط المدينة فيشطرها شطرين  وفي مكان مرتفع من هذا الحي تمثال كبير يمثل النبي داوود رجلاً قويا عارياً ذا عضلات متناسقة التقاطيع ، تظهر عورته بشكل بارز يدل – حسب زعمهم – على الخصب والنماء .

وحاشا لنبي كريم من نبياء الله تعالى أن يتصرف بما لا يليق برجل عادي ، فهو الذي نذر نفسه لله وعاش مثالاً للأخلاق وحسن السيرة والعدل في القضاء ، وما جاءته الملائكة تمتحنه إلا لتعلمه كيف يقضي بالحق . قَالَ اِبْن عَبَّاس رضي الله عنهما في شرح الآية - كما ذكر القرطبي رحمه الله - : إِنْ اِرْتَفَعَ لَك الْخَصْمَانِ فَكَانَ لَك فِي أَحَدهمَا هَوًى , فَلاتشـتـَهِ فِي نَفْسك الْحَقّ لَهُ لِيَفـلُج عَلَى صَاحِبه , فَإِنْ فَعَلْتَ مَحَوْتُ اِسْمَك مِنْ نُبُوَّتِي , ثُمَّ لا تَكُون خَلِيفَتِي ولا أَهْل كَرَامَتِي . فَدَلَّ هَذَا عَلَى بَيَان وُجُوب الْحُكْم بِالْحَقِّ , وَألا يَمِيل – القاضي - إِلَى أَحَد الْخَصْمَيْنِ لِقَرَابَةٍ أَوْ رَجَاء نَفع , أَوْ سَبَب يَقتَضِي الْمَيْل مِنْ صُحْبَةٍ أَوَصَدَاقَة , أَوَغَيْرهمَا . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : إِنَّمَا اُبْتُلِيَ سُلَيْمَان ابن داوود عليه السلام ; لأنهَ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ خَصْمَانِ فَهَوِيَ أَنْ يَكُون الْحَقّ لأحَدِهِمَا .

فلا يكون حكم بهوى ، وإلا ضل الحاكم عن سبيل الله فكان العذاب الشديد عقاباً له يوم القيامة ، لا بد من التحرّي عن الحق والصواب ليرضى الله عن القاضي والحاكم العادلين " وما أعظم أن نضع هذه الآية الكريمة نصب أعيننا لنكون من الفائزين يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ، ثم خاف اللهَ فلم يظلم أحداً : " يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض ، فاحكم بين الناس بالحق ، ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله ، إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب ".