رسالة إلى أهل الله وخاصّته

رسالة إلى أهل الله وخاصّته

الحمد لله الذي أنعم علينا بعد الثّورة بفتح العديد من دور القرآن والمعاهد والجمعيات القرآنية التي تهدف إلى تعليم وتحفيظ القرآن الكريم بعد أن حرم النّاس في تونس من حق تعلمه والعمل به في عهد تجفيف منابع الإسلام؛ وأمّا ما يقال على ألسنة بعضهم من خطر وجود ما سموه بمعسكرات تحفيظ القرآن فهو إن دلّ على شيء فهو يدل على اصطفاف هؤلاء في خندق التصدي للصّحوة الإسلامية لأبناء تونس والتضييق على من اختار هذا الركب المبارك وذلك بتحميل القضية ما لا تحتمل وبادّعاء العنف والإرهاب على كل من له صلة بالإسلام بغية تخويف وترهيب الناس وإبعادهم عن كل ما له شأن أن يعيد نهضتهم ورقيهم، فلما تجرؤوا على تلويث النية من وجود دور لتحفيظ القرآن وجب علينا أن نرد:

أولا: إلى القائمين على هذا البلد من حكام وإعلاميين ومسؤولين، مرضى القلوب منهم، ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [الإسراء: 9]، لقد أنزل الله القرآن ليخرج الناس به من الضلالة إلى الهدى ومن الظلمات إلى النور ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، القرآن هو الذي جعل المسلمين قادة وسادة للأمم بعد أن كانوا رعاة للإبل والغنم ذلك عندما حولوا تلك الآيات إلى منهج حياة متكامل وأصبحوا يحتكمون إليه في أمور دنياهم ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر فكان مصدر عزهم وشرفهم وسيادتهم. هذا ليعلموا أن دور القرآن لا تهدد براءة الطفولة كما يزعمون بل تجعل من الأطفال شخصيات إسلامية ذات أخلاق عالية وفكر ناهض وربما يكونون من الجيل الذي تفتح في وجوهم أبواب النصر والتمكين لهذه الأمة التي حرمت من عدل النظام الإسلامي وحكمت بالأنظمة الغربية الآثمة.

فالذي يهدد الطفولة حقا هو برامج العري والرقص والغناء التي يجعلونها مسابقات يتنافس فيها الأطفال؛ والمسلسلات ذات المواضيع المائعة المخلة بأخلاق القرآن التي تذيعونها ولا أحد يشير لها أو حتى يذكر خطورتها وما تسببه من أمراض فكرية ونفسية.

عندما أصبح القرآن في واقع الناس آيات تقرأ عند القبور، ويهدى ثوابها للأموات، أو تصنع منه التمائم والأحجبة تعلق على صدور الصبيان، أو يوضع في البيوت والمحلات والسيارات للحفظ والبركة لم نسمع منكم ضجيجا والآن وقد أقبل الناس على الاستماع، والتدبر، والعمل، وطلب التحاكم به ثارت ثائرتكم.

ثانيا: إلى أهل الله وخاصته، أهل القرآن، إلى قارئيه وحامليه والمقبلين على حفظه، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والقرآن حجة لك أو عليك... » والحديث دليل على وجوب العمل بالقرآن، والتقيّد بأوامره ونواهيه، وأنه حجة لمن عمل به، واتبع ما فيه، وحجة على من لم يعمل به، ولم يتبع ما فيه. وإن الغاية الكبرى من إنزال القرآن، تصديق أخباره، والعمل به، بامتثال ما يأمر به، واجتناب ما ينهى عنه. فعلى قارئ القرآن وحامله أن يتقي الله في نفسه، وأن يخلص في قراءته، ويعمل به، وأن يحذر من مخالفة القرآن، والإعراض عن أحكامه وآدابه. لئلا يلحقه من الذم ما لحق اليهود الذين قال الله فيهم ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارا﴾ [الجمعة: 5]، أذكركم إخواني كما أذكر نفسي أن الإقبال على قراءة القرآن وحفظه لمسؤولية كبيرة ليس المقصد منه أن لا يصل إلا إلى أصواتنا وحناجرنا وإنما الواجب أن تفقهه قلوبنا وتعمل به جوارحنا وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه «يقال لقارئ القرآن اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا؛ فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها».

القرآن هو كلام الله المعجز المنزل على النبي محمد صلى الله عليه وسلم بواسطة الوحي عن طريق الملك جبريل والمتعبّد بتلاوته والمحفوظ في الصدور والمتحدي بأقصر سورة فيه؛ أنزل ليتدبر فيه ويعمل بكل آية فيه ليصبح خلق المسلم ومنهاجه لا ليقرأ فلا يتجاوز الحناجر كما حذرنا سيد الخلق؛ كما أنه لا يجوز الإيمان ببعض آياته وترك البعض الآخر كما نراه شائعا عند العديد من المسلمين لعله تقصيرٌ منهم أو جهلٌ أساسا أو بسبب التغريب الفكري الذي استعمر عقول المسلمين واستهدف تمييع وتضليل أفكارهم وجعلهم يتخلون عن كثير من أمهات الفرائض وينشغلون بالفتاوى والاختلافات التي غالبا ما ساهمت في تفرقهم وتشتيتهم عوض توحيدهم وتقويتهم. وحتى لا يبقى الكلام مجردا وجب ذكر أمثلة من الآيات المتروكة التي نرددها في صلواتنا وفي أورادنا اليومية دون أن نلقي لها بالا:

آيات الحكم بما أنزل الله، وكفر وفسوق وظلم من اتخذ غير حكم الله حكما وفي ذلك أذكر:

﴿وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ﴾ [المائدة: 49]

﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ [المائدة: 44]

﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [المائدة: 45]

﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [المائدة: 47)

في نفس السياق، آيات التحذير من التنازل عن شيء من الشريعة مهما قل:

﴿وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ﴾ [المائدة: 49]

﴿... أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾

إنّ المتأمل في واقع المسلمين ليلحظ أن المتروك من الأحكام الشرعية أكثر بكثير من المأخوذ منها والنتيجة ضنك العيش والشقاء والجهل والذل الذي لحق المسلمين وتأخرهم عن ركب الحضارات... فحتى يعم الخير من فتح دور القرآن للتحفيظ والمراجعة لا بد من التذكير أن آيات الله أنزلت ليعمل بها لا ليرددها اللسان دون أن تفقهها القلوب...

كتبته لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير

سيرين بن عناية - تونس

30 من ذي الحجة 1435

الموافق 2014/10/24م