اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ

اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ

رضوان سلمان حمدان

[email protected]

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108)  }آل عمران.

    ذُكرت التقوى في 258 آية في القرآن مما يدلل على أهميتها وأنها منبع الإيمان ودليله.

معاني المفردات

اتَّقُوا: التقوى مأخوذة من مادة (وقي) من أصل كلمة الوقاية ووقي تعني أنه جعل بينه وبين الشيء الأخر حاجزاً يحميه ويقيه.

وعرَّف علي بن ابي طالب التقو فقال: هي العمل بالتنزيل، والخوف من الجليل والرضا بالقليل والاستعداد ليوم الرحيل.

وقيل: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، سأل أبيّ بن كعب عن التقوى، فقال له: أما سلكت طريقًا ذا شوك؟ قال: بلى قال: فما عملت؟ قال: شمرت واجتهدت، قال: فذلك التقوى.

وقد أخذ هذا المعنى ابن المعتز فقال:

خل الذنوب صغيرها           وكبيرها ذاك التقى

واصنع كماش فوق أر          ض الشوك يحذر ما يرى

لا تحقرن صغيرة            إن الجبال من الحصى

وأنشد أبو الدرداء يومًا:

يريد المرء أن يؤتى مناه          ويأبى   الله  إلا ما  أرادا

يقول المرء فائدتي ومالي          وتقوى الله أفضل ما استفادا

حَقَّ تُقَاتِهِ: باستفراغ الوسع في امتثال أمره، واجتناب نهيه.(1)

وَاعْتَصِمُوا: تمسكوا بشدة.

بِحَبْلِ اللَّهِ: كتابه القرآن ودينه الإسلام، لأن الكتاب والدين هما الصلة التي تربط المسلم بربه، وكل ما يربط ويشد شيئاً بآخر هو سبب وحبل. (1)

فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ: جمعها على أخوة الإيمان ووحد بينها بعد الاختلاف والنفرة.

شَفَا حُفْرَةٍ: شفا الحفرة: حافتها وطرفها بحيث لو غفل الواقف عليها وقع فيها. (1)

أُمَّةٌ: والأمة الجماعة والطائفة.. وأصل الأمة من كلام العرب الطائفة من الناس التي تؤم قصداً واحداً: من نسب أو موطن أو دين، أو مجموع ذلك، ويتعين ما يجمعها بالإضافة أو الوصف كقولهم: أمة العرب وأمة غسان وأمة النصارى.

بِالْمَعْرُوفِ: والمعروف هو ما يعرف وهو مجاز في المقبول المرضي به، لأن الشيء إذا كان معروفا كان مألوفا مقبولا مرضيا به، وأريد به هنا ما يقبل عند أهل العقول، وفي الشرائع، وهو الحق والصلاح، لأن ذلك مقبول عند انتفاء العوارض.(2)

المناسبة في السياق

انتقل تعالى من تحذير المخاطبين من الانخداع لوساوس بعض أهل الكتاب – في النداء السابق -، إلى تحريضهم على تمام التقوى، لأن في ذلك زيادة صلاح لهم ورسوخاً لإيمانهم، وهو خطاب لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ويسري إلى جميع من يكون بعدهم. (1)

في ظلال الآيات

    "إنهما ركيزتان تقوم عليهما الجماعة المسلمة، وتؤدي بهما دورها الشاق العظيم. فإذا انهارت واحدة منهما لم تكن هناك جماعة مسلمة، ولم يكن هنالك دور لها تؤديه:

ركيزة الإيمان والتقوى أولاً .. التقوى التي تبلغ أن توفي بحق الله الجليل .. التقوى الدائمة اليقظة التي لا تغفل ولا تفتر لحظة من لحظات العمر حتى يبلغ الكتاب أجله:

{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته } ..

اتقوا الله - كما يحق له أن يتقى - وهي هكذا بدون تحديد تدَعُ القلب مجتهداً في بلوغها كما يتصورها وكما يطيقها. وكلما أوغل القلب في هذا الطريق تكشفت له آفاق، وجدّت له أشواق. وكلما اقترب بتقواه من الله، تيقظ شوقه إلى مقام أرفع مما بلغ، وإلى مرتبة وراء ما ارتقى. وتطلع إلى المقام الذي يستيقظ فيه قلبه فلا ينام!

{ ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون } ..

والموت غيب لا يدري إنسان متى يدركه. فمن أراد ألا يموت إلا مسلماً فسبيله أن يكون منذ اللحظة مسلماً، وأن يكون في كل لحظة مسلماً. وذِكرُ الإسلام بعد التقوى يشي بمعناه الواسع: الاستسلام. الاستسلام لله، طاعة له، واتباعاً لمنهجه، واحتكاماً إلى كتابه. وهو المعنى الذي تقرره السورة كلها في كل موضع منها.

هذه هي الركيزة الأولى التي تقوم عليها الجماعة المسلمة لتحقق وجودها وتؤدي دورها. إذ أنه بدون هذه الركيزة يكون كل تجمع تجمعاً جاهلياً. ولا يكون هناك منهج لله تتجمع عليه أمة، إنما تكون هناك مناهج جاهلية. ولا تكون هناك قيادة راشدة في الأرض للبشرية، إنما تكون القيادة للجاهلية .

فأما الركيزة الثانية فهي ركيزة الأخوة .. الأخوة في الله، على منهج الله، لتحقيق منهج الله :

{ واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، واذكروا نعمة الله عليكم، إذ كنتم أعداء، فألف بين قلوبكم ، فأصبحتم بنعمته إخواناً. وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها. كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون } ..

فهي أخوة إذن تنبثق من التقوى والإسلام .. من الركيزة الأولى .. أساسها الاعتصام بحبل الله - أي عهده ونهجه ودينه - وليست مجرد تجمع على أي تصور آخر، ولا على أي هدف آخر، ولا بواسطة حبل آخر من حبال الجاهلية الكثيرة!

{ واعتمصوا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا } ..

هذه الأخوة المعتصمة بحبل الله نعمة يمتن الله بها على الجماعة المسلمة الأولى. وهي نعمة يهبها الله لمن يحبهم من عباده دائماً. وهو هنا يذكرهم هذه النعمة . يذكرهم كيف كانوا في الجاهلية « أعداء » .. وما كان أعدى من الأوس والخزرج في المدينة أحد. وهما الحيان العربيان في يثرب. يجاورهما اليهود الذين كانوا يوقدون حول هذه العداوة وينفخون في نارها حتى تأكل روابط الحيين جميعاً. ومن ثم تجد يهود مجالها الصالح الذي لا تعمل إلا فيه، ولا تعيش إلا معه. فألف الله بين قلوب الحيين من العرب بالإسلام .. وما كان إلا الإسلام وحده يجمع هذه القلوب المتنافرة. وما كان إلا حبل الله الذي يعتصم به الجميع فيصبحون بنعمة الله إخواناً. وما يمكن أن يجمع القلوب إلا أخوة في الله، تصغر إلى جانبها الأحقاد التاريخية، والثارات القبلية، والأطماع الشخصية والرايات العنصرية. ويتجمع الصف تحت لواء الله الكبير المتعال ..

{ واذكروا نعمة الله عليكم، إذ كنتم أعداء، فألف بين قلوبكم، فأصبحتم ينعمته إخواناً } ..

ويذكرهم كذلك نعمته عليهم في إنقاذهم من النار التي كانوا على وشك أن يقعوا فيها، إنقاذهم من النار بهدايتهم إلى الاعتصام بحبل الله - الركيزة الأولى - وبالتأليف بين قلوبهم، فأصبحوا بنعمة الله إخواناً - الركيزة الثانية -:

{ وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها } .

والنص القرآني يعمد إلى مكمن المشاعر والروابط: « القلب » .. فلا يقول: فألف بينكم . إنما ينفذ إلى المكمن العميق: { فألف بين قلوبكم } فيصور القلوب حزمة مؤلفة متآلفة بيد الله وعلى عهده وميثاقه . كذلك يرسم النص صورة لما كانوا فيه. بل مشهداً حياً متحركاً تتحرك معه القلوب : { وكنتم على شفا حفرة من النار } .. وبينما حركة السقوط في حفرة النار متوقعة، إذا بالقلوب ترى يد الله، وهي تدرك وتنقذ! وحبل الله وهو يمتد ويعصم. وصورة النجاة والخلاص بعد الخطر والترقب! وهو مشهد متحرك حي تتبعه القلوب واجفة خافقة! وتكاد العيون تتملاه من وراء الأجيال!.

فأما وظيفة الجماعة المسلمة التي تقوم على هاتين الركيزتين لكي تنهض بها .. هذه الوظيفة الضرورية لإقامة منهج الله في الأرض، ولتغليب الحق على الباطل، والمعروف على المنكر، والخير على الشر .. هذه الوظيفة التي من أجلها أنشئت الجماعة المسلمة بيد الله وعلى عينه، ووفق منهجه .. فهي التي تقررها الآية التالية :

{ ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون } ..

فلا بد من جماعة تدعو إلى الخير، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. لا بد من سلطة في الأرض تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. والذي يقرر أنه لا بد من سلطة هو مدلول النص القرآني ذاته. فهناك « دعوة » إلى الخير. ولكن هناك كذلك « أمر » بالمعروف. وهناك « نهي » عن المنكر. وإذا أمكن أن يقوم بالدعوة غير ذي سلطان، فإن « الأمر والنهي » لا يقوم بهما إلا ذو سلطان ..

هذا هو تصور الإسلام للمسألة .. إنه لا بد من سلطة تأمر وتنهى .. سلطة تقوم على الدعوة إلى الخير والنهي عن الشر .. سلطة تتجمع وحداتها وترتبط بحبل الله وحبل الأخوة في الله .. سلطة تقوم على هاتين الركيزتين مجتمعتين لتحقيق منهج الله في حياة البشر .. وتحقيق هذا المنهج يقتضي « دعوة » إلى الخير يعرف منها الناس حقيقة هذا المنهج . ويقتضي سلطة « تأمر » بالمعروف « وتنهى » عن المنكر .. فتطاع .. والله يقول: { وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله } فمنهج الله في الأرض ليس مجرد وعظ وإرشاد وبيان . فهذا شطر. أما الشطر الآخر فهو القيام بسلطة الأمر والنهي، على تحقيق المعروف ونفي المنكر من الحياة البشرية، وصيانة تقاليد الجماعة الخيرة من أن يعبث بها كل ذي هوى وكل ذي شهوة وكل ذي مصلحة، وضمانة هذه التقاليد الصالحة من أن يقول فيها كل امرىء برأيه وبتصوره، زاعماً أن هذا هو الخير والمعروف والصواب!

والدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - من ثم - تكليف ليس بالهين ولا باليسير، إذا نظرنا إلى طبيعته، وإلى اصطدامه بشهوات الناس ونزواتهم، ومصالح بعضهم ومنافعهم، وغرور بعضهم وكبريائهم. وفيهم الجبار الغاشم. وفيهم الحاكم المتسلط. وفيهم الهابط الذي يكره الصعود. وفيهم المسترخي الذي يكره الاشتداد. وفيهم المنحل الذي يكره الجد . وفيهم الظالم الذي يكره العدل. وفيهم المنحرف الذي يكره الاستقامة .. وفيهم وفيهم ممن ينكرون المعروف ، ويعرفون المنكر. ولا تفلح الأمة ، ولا تفلح البشرية، إلا أن يسود الخير، وإلا أن يكون المعروف معروفاً، والمنكر منكراً .. وهذا ما يقتضي سلطة للخير وللمعروف تأمر وتنهى .. وتطاع ..

ومن ثم فلا بد من جماعة تتلاقى على هاتين الركيزتين: الإيمان بالله والأخوة في الله، لتقوم على هذا الأمر العسير الشاق بقوة الإيمان والتقوى ثم بقوة الحب والألفة، وكلتاهما ضرورة من ضرورات هذا الدور الذي ناطه الله بالجماعة المسلمة، وكلفها به هذا التكليف. وجعل القيام به شريطة الفلاح. فقال عن الذين ينهضون به:

{ وأولئك هم المفلحون } ..

إن قيام هذه الجماعة ضرورة من ضرورات المنهج الإلهي ذاته. فهذه الجماعة هي الوسط الذي يتنفس فيه هذا المنهج ويتحقق في صورته الواقعية. هو الوسط الخير المتكافل المتعاون على دعوة الخير.

المعروف فيه هو الخير والفضيلة والحق والعدل. والمنكر فيه هو الشر والرذيلة والباطل والظلم .. عمل الخير فيه أيسر من عمل الشر. والفضيلة فيه أقل تكاليف من الرذيلة. والحق فيه أقوى من الباطل. والعدل فيه أنفع من الظلم .. فاعل الخير فيه يجد على الخير أعواناً. وصانع الشر فيه يجد مقاومة وخذلاناً .. ومن هنا قيمة هذا التجمع .. إنه البيئة التي ينمو فيها الخير والحق بلا كبير جهد، لأن كل ما حوله وكل من حوله يعاونه. والتي لا ينمو فيها الشر والباطل إلا بعسر ومشقة، لأن كل ما حوله يعارضه ويقاومه .

والتصور الإسلامي عن الوجود والحياة والقيم والأعمال والأحداث والأشياء والأشخاص.. يختلف في هذا كله عن التصورات الجاهلية اختلافاً جوهرياً أصيلاً. فلا بد إذن من وسط خاص يعيش فيه هذا التصور بكل قيمه الخاصة. لا بد له من وسط غير الوسط الجاهلي، ومن بيئة غير البيئة الجاهلية.

هذا الوسط الخاص يعيش بالتصور الإسلامي ويعيش له؛ فيحيا فيه هذا التصور، ويتنفس أنفاسه الطبيعية في طلاقة وحرية، وينمو نموه الذاتي بلا عوائق من داخله تؤخر هذا النمو أو تقاومه. وحين توجد هذه العوائق تقابلها الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وحين توجد القوة الغاشمة التي تصد عن سبيل الله تجد من يدافعها دون منهج الله في الحياة.

هذا الوسط يتمثل في الجماعة المسلمة القائمة على ركيزتي الإيمان والأخوة. الإيمان بالله كي يتوحد تصورها للوجود والحياة والقيم والأعمال والأحداث والأشياء والأشخاص، وترجع إلى ميزان واحد تقوم به كل ما يعرض لها في الحياة، وتتحاكم إلى شريعة واحدة من عند الله، وتتجه بولائها كله إلى القيادة القائمة على تحقيق منهج الله في الأرض .. والأخوة في الله. كي يقوم كيانها على الحب والتكافل اللذين تختفي في ظلالهما مشاعر الأثرة، وتتضاعف بهما مشاعر الإيثار. الإيثار المنطلق في يسر، المندفع في حرارة، المطمئن الواثق المرتاح.

وهكذا قامت الجماعة المسلمة الأولى - في المدينة - على هاتين الركيزتين .. على الإيمان بالله : ذلك الإيمان المنبثق من معرفة الله - سبحانه - وتَمَثُّلِ صفاته في الضمائر؛ وتقواه ومراقبته ، واليقظة والحساسية إلى حد غير معهود إلا في الندرة من الأحوال. وعلى الحب . الحب الفياض الرائق والود . الود العذب الجميل ، والتكافل . التكافل الجاد العميق .. وبلغت تلك الجماعة في ذلك كله مبلغاً ، لولا أنه وقع لعد من أحلام الحالمين! وقصة المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار قصة من عالم الحقيقة، ولكنها في طبيعتها أقرب إلى الرؤى الحالمة! وهي قصة وقعت في هذه الأرض. ولكنها في طبيعتها من عالم الخلد والجنان!

وعلى مثل ذلك الإيمان ومثل هذه الأخوة يقوم منهج الله في الأرض في كل زمان ..

ومن ثم يعود السياق فيحذر الجماعة المسلمة من التفرق والاختلاف؛ وينذرها عاقبة الذين حملوا أمانة منهج الله قبلها - من أهل الكتاب - ثم تفرقوا واختلفوا، فنزع الله الراية منهم، وسلمها للجماعة المسلمة المتآخية .. فوق ما ينتظرهم من العذاب، {يوم تبيض وجوه وتسود وجوه} .. وهنا يرسم السياق مشهداً من المشاهد القرآنية الفائضة بالحركة والحيوية .. فنحن في مشهد هول. هول لا يتمثل في ألفاظ ولا في أوصاف. ولكن يتمثل في آدميين أحياء في وجوه وسمات .. هذه وجوه قد أشرقت بالنور، وفاضت بالبشر، فابيضت من البشر والبشاشة، وهذه وجوه كمدت من الحزن، وغبرت  من الغم، واسودت من الكآبة .. وليست مع هذا متروكة إلى ما هي فيه. ولكنه اللذع بالتبكيت والتأنيب:

{ أكفرتم بعد إيمانكم؟ فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون! } ..

{ وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون }.

وهكذا ينبض المشهد بالحياة والحركة والحوار .. على طريقة القرآن.

وهكذا يستقر في ضمير الجماعة المسلمة معنى التحذير من الفرقة والاختلاف. ومعنى النعمة الإلهية الكريمة .. بالإيمان والائتلاف.

وهكذا ترى الجماعة المسلمة مصير هؤلاء القوم من أهل الكتاب، الذين تحذر أن تطيعهم. كي لا تشاركهم هذا المصير الأليم في العذاب العظيم. يوم تبيض وجوه، وتسود وجوه ..

ويعقب على هذا البيان لمصائر الفريقين تعقيباً قرآنياً يتمشى مع خطوط السورة العريضة، يتضمن إثبات صدق الوحي والرسالة. وجدية الجزاء والحساب يوم القيامة. والعدل المطلق في حكم الله في الدنيا والآخرة. وملكية الله المفردة لما في السماوات وما في الأرض. ورجعة الأمر إليه في كل حال:

{ تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق ، وما الله يريد ظلماً للعالمين. ولله ما في السماوات وما في الأرض . وإلى الله ترجع الأمور } ..

تلك الصور. تلك الحقائق. تلك المصائر .. تلك آيات الله وبيناته لعباده: نتلوها عليك بالحق. فهي حق فيما تقرره من مبادىء وقيم؛ وهي حق فيما تعرضه من مصائر وجزاءات. وهي تتنزل بالحق ممن يملك تنزيلها؛ وممن له الحق في تقرير القيم، وتقرير المصائر، وتوقيع الجزاءات. وما يريد بها الله أن يوقع بالعباد ظلماً. فهو الحكم العدل. وهو المالك لأمر السماوات والأرض. ولكل ما في السماوات وما في الأرض . وإليه مصير الأمور. إنما يريد الله بترتيب الجزاء على العمل أن يحق الحق، وأن يجري العدل، وأن تمضي الأمور بالجد اللائق بجلال الله .. لا كما يدعي أهل الكتاب أنهم لن تمسهم النار إلا أياماً معدودات!

بعدئذ يصف الأمة المسلمة لنفسها! ليعرفها مكانها وقيمتها وحقيقتها؛ ثم يصف لها أهل الكتاب - ولا يبخسهم قدرهم، إنما يبين حقيقتهم ويطمعهم في ثواب الإيمان وخيره - ويطمئن المسلمين من جانب عدوهم .

عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: « من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان »

وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم ، فلم ينتهوا، فجالسوهم وواكلوهم وشاربوهم، فضرب الله تعالى قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم على لسان داود وسليمان وعيسى بن مريم .. ثم جلس - وكان متكئاً - فقال: لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطراً » أي تعطفوهم وتردوهم .

وعن حذيفة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً، منه ثم تدعونه فلا يستجيب لكم».

وعن عرس ابن عميرة الكندي - رضي الله عنه - قال :قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فأنكرها كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كمن شهدها».

وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر».

وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «سيد الشهداء حمزة. ورجل قام إلى سلطان جائر، فأمره ونهاه، فقتله».(3)

من هداية الآيات

1- فضل هذه الآي إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم خطب في حاجة تلا آية آل عمران: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُون}. وتلا هذه الآية، ثم آية الأحزاب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً}، ثم يقول: أما بعد ويذكر حاجته.(1)

2- أهمية الأمر بتقوى الله تعالى إذا كررت في آية واحدة مرتين في أولها وفي آخرها.(1)

3- هذه الآية أصل عظيم من أصول الأخلاق الإسلامية، وحاصل امتثال الأمر، واجتناب المنهي عنه، في الأعمال الظاهرة، والنوايا الباطلة. وحق التقوى هو أن لا يكون فيها تقصير، وتظاهر بما ليس من عمله، وذلك هو معنى قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}(4) لأن الاستطاعة هي القدرة، والتقوى مقدور للناس. وبذلك إن لم يكن تعارض بين الآيتين، ولا نسخ.(2)

4- إن سوء أخلاقنا هو الذي جلب علينا الويلات والمآسي والظلم على المستوى الشخصي ومستوى المجتمع كله يرجع بالدرجة الأساس إلى فقدان تقوى الله سبحانه، وعدم الخوف منه ومن بطشه ومكره الذي يتجاهله الأغبياء الذين لا يقيمون وزناً لتقوى الله ولا للخوف منه رغم أن الشواهد على غضب الله على الناس لفقدانهم التقوى وعدم مصداقيتهم فيها هي شاخصة للعيان من مآسي الحروب والكوارث الطبيعية المزلزلة والمدمرة. قال تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً}(5) وذلك لفقدانهم لتقوى الله والخوف منه وانغماسهم في الفساد بكافة أشكاله.

5- إن تقوى الله سبحانه هي الطريق للنهوض بالأمة الإسلامية في كافة مجالات الحياة وكذلك هي الطريق لتخليص المجتمع الإسلامي من كافة آفاته وسلبياته الاجتماعية والنفسية والأخلاقية والتربوية وحتى الاقتصادية والسياسية.

6- "التقوى حساسية القلب وشعوره بالخوف من الله وتحرجه من غضبه وتطلبه لرضاه. إنه بغير هذا الرباط (التقوى) لا تقوم شريعة ولا يفلح قانون ولا يتحرج متحرج ولا تكفي التنظيمات الخاوية من الروح والحساسية والخوف والطمع في قوة أكبر من قوة الإنسان.(3)

7- عن ابن عباس قوله: "اتقوا الله حق تقاته"، قال: "حق تقاته"، أن يجاهدوا في الله حق جهاده، ولا يأخذهم في الله لومةُ لائم، ويقوموا لله بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم.(6)

8- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ وَيَدْخُلَ الْجَنَّةَ فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِى يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ".(7)

9- من عاش على شيء مات عليه، فمن كان في حال صحته ونشاطه وإمكانه مداوما لتقوى ربه وطاعته، منيبا إليه على الدوام، ثبته الله عند موته ورزقه حسن الخاتمة.

10- وجوب الاعتصام بحبل الله تعالى.

11- التفرق والاختلاف مهلكة للأمة، وعذاب في الآخرة.

12- وجوب الدعوة إلى الإسلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرادى وجماعات.

13- إن الدعوة إلى الخير تتفاوت: فمنها ما هو بيِّن يقوم به كل مسلم، ومنها ما يحتاج إلى علم فيقوم به أهله، وهذا هو المسمَّى بفرض الكفاية، يعني إذ قام به بعض الناس كفى عن قيام الباقين، وتتعين الطائفة التي تقوم بها بتوفر شروط القيام بمثل ذلك الفعل فيها. كالقوة على السلاح في الحرب، وكالسباحة في إنقاذ الغريق، والعلم بأمور الدين في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.(2)

              

المراجع:

(1)أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير.

(2)التحرير والتنوير من التفسير.

(3)في ظلال القرآن.

(4)[التغابن: 16]

(5)الإسراء16.

(6)الطبري.

(7)صحيح مسلم 4882.