حتى يكون (الدعاة) .. عُبّاداً

ظلال موسى الإبراهيم

حتى يكون (الدعاة) .. عُبّاداً !..

ظلال موسى الإبراهيم

حينما نقرأ حياة الكبار .. أصحاب الهمم السامقة .. والهامات الكبيرة .. نستشعر صغر نفوسنا .. وتفاهة حياتنا .. رغم كل ما نزعمه من عمل دعوي .. وأننا .. نعمل .. للإسلام ..

استوقفني حديثها الشيّق .. أصابني الذهول .. ولم أشعر إلا وعيناي مغرورقتان بالدموع ..

إنها الأخت الفاضلة فاطمة عبدالله عزام ، استمعت إليها تحكي حياة أبيها الشيخ المجاهد (عبدالله عزام) رحمه الله ، في الذكرى العشرين لاستشهاده .. تقول : ـ مما قالت ـ

ـ كان همه الأول والأخير .. الإسلام ، وكان مولعاً بالجهاد في سبيله ، وإن أردنا اختصار حياته كلها في أفغانستان .. فإننا نقول : لم يعرف طعم النوم والراحة في حياته أبداً..

ثم تقول :

ـ وكان الجهاد في سبيل الله لا يقعده أو يثنيه عن أداء عباداته فكان يعود إلى البيت بعد رحلة جهادية تكون قد استمرت أياماً ، يعود بعد منتصف الليل ونحن نيام ، فأشعر بدخوله ، وأقول : الحمد لله ها قد عاد ابي سالماً لعله يرتاح فيما بقي من الليل ، فأجده يدخل عليّ ويقول : قومي يا ابنتي .. وحضري لي طعاماً وماءاً للوضوء ..

فيأكل ما تيسر ، ثم يتوضأ ويقوم يصلي الليل إلى الفجر ، ثم يذهب إلى صلاة الفجر في المسجد .. ثم يعود للبيت ويقرأ ورده من القرآن .. ثم يصبح صائماً !!..) .

الله أكبر ما أعظم هذه النفوس .. وما اعلى همتها !

لم يثنه عمله في الجهاد .. وعلى أرض المعركة الشاقة ، أن يُسامح نفسه أو يرخص كما في الراحة من عبادة قيام الليل ! أو الذهاب للمسجد .. أو عن صيام يوم جاء فيه لأهله وأبنائه .. فضلاً عن أداء الفرائض والواجبات !..

.. إنه استعلاء .. ثمنه التعب ..

.. وأتعب الناس من جلّت مطالبه !..

ونفسك إن لم تشغلها بالعظائم .. شغلتها الصغائر ..

وإن لم تُعملها في الخير .. عُملت في الشر !

إنها نفوس تواقة ، نفوس عرفت الله بحق ، وأحبته بصدق ..

نفوس عرفت غايتها أين ؟ فاتجهت إليها .. وتفنت في التضحية لنيل مبتغاها ..

حتى غدت (راحتها) في (التعب) لنيل رضى الله !

ما أحوجنا في هذا الزمان إلى مثل هذه النماذج ومثل أولئك الدعاة ..

إن انتصار الأمم والدعوات لا يكون إلا بالانتصار على النفس ، وحتى يمتزج حب الله في القلوب امتزاجاً يحرك الجوارح بالطاعة ، ويجعلها (تستمتع) و(تتلذذ) بلحظات القُرب والصلاة والدعاء ..

يقول صاحب الرقائق : ـ محمد أحمد الراشد ـ

(دعوة تريد أن تستقيم إلى الله ..

فعليها أن تدلف من باب الاستقامة إذن .. (وما هو باب الاستقامة؟) .. وبابها (المحراب) !.

وهكذا فإن على الدعوة الإسلامية في (كل وقت) .. أن تبدأ عملها (من المسجد) (فتصلح العقيدة) وتعلم دعاتها (أدب التعامل الإسلامي) وبذلك تسقط تلقائياً كل المقاييس في التفاضل من جودة الكتابة وبلاغة اللسان وبهرج الشهادات الجامعية)) انتهى ..

وكأن الكاتب يضع يده على جرحنا اليوم ، فهو يؤكد ان هذا واجب الدعوة الإسلامية (في كل وقت) .. التعلق بالمساجد ، وإصلاح العقيدة أولاً .. ثم أدب الدعوة والدعاة .. كل ذلك لأجل الاستقامة !

ثم إن كاتبنا علم أن الدعوة مع تعاقب الأجيال .. تفتر همتها .. وأن شباب الدعوة حينما يتأهلون لتصدر مهمات جديدة ؛ تُغريهم الألقاب ، ويبهرهم لمعان الأسماء .. وبريق الشهادات .. متناسين همهم الأول ، وواجبهم الأكبر ، وغايتهم العظيمة التي يعيشون لها وأن هذا الطريق .. هو ما دأب عليه المؤمنون الأوائل .. وما وعاه الدعاة المصلحون في العصور المتقدمة .. ومنهم نقتفي .. وعلى خطاهم نسير ..

* يقول مصطفى صادق الرافعي ـ في وحي القلم ـ

(يا لها من حكمة أن فرض الله علينا هذه الصلوات بين ساعات وساعات لتبقى الروح ابداً متصلة ، أو مهيأة لتتصل ..

ثم إذا ملك العبد نفسه إلى هذه الفريضة ، ذكر أن بعدها فريضة أخرى ، فلا يزال من عزيمة النفس وطهارتها على صيغة واحدة ...)

* وها هو المجاهد العابد المرابط ، الذي بذل عمره مجاهداً مرابطاً على ثغور الشام ـ عبدالله بن المبارك ـ وهو القائل :

يا عابد الحرمين لو أبصرتنا          لعلمت أنك بالعبادة تلعبُ

وكثير من شباب الدعوة اليوم يستند على هذا في التعاجز والتكاسل والتقصير في أداء العبادات ..

إلا أن ـ عبدالله بن المبارك ـ رحمه الله ـ لم يكن كذلك أبداً ، وما فرّق أولئك القادة الكبار يوماً بين الجهاد وبين الصلة الروحية بالله تعالى فإن الصلاة والذكر هي المدد الوحيد للأرواح ، وهي المحفز للتضحية وهي الرابط الأقوى بين الداعية والمجاهد وبين الله تعالى .. وهي عنوان المسار الصحيح إلى الله ..

ولذلك نجد قائدنا يقول موصياً أصحابه :

اغتنم ركعتين زلفى إلى الله      إذا كنت فارغاً مستريحا

وإذا هممت بالنطق بالباطل      فاجعل  مكانه  تسبيحا ..

ثم نرى قائد الدعوة في هذا القرن (الإمام الشهيد حسن البنا) يوصي أحبابه وإخوانه فيقول :

(أيها الأخ العزيز : أمامك كل يوم لحظة بالغداة ولحظة بالعشي ، تستطيع أن تسمو فيها بروحك الطهور إلى الملأ الأعلى .. فتظفر بخير الدنيا والآخرة .. وأمامك مواسم الطاعات والعبادات فاحرص أن تكون فيها من الذاكرين لا من الغافلين ، ومن العاملين لا من الخاملين …) الرسائل ..

* إن المشكلة الكبرى في زماننا هذا ، تكمن في أننا (نظن أنفسنا) أننا نصنع شيئاً لهذا الدين بمجرد أن حضرنا مجلساً دينياً أو تابعنا موقعاً الكترونياً !! أو نطقنا كلمة حق في موقف ما ، أو تصدرنا لإلقاء خطبة أو كتابة مقال !!..

إننا لا نعرف زئير المعارك .. ولا أصابنا غبارها .. ولم نتعب تعب أولئك المجاهدين الصابرين ..

وجلّ ما نفعله .. هو أننا نركب سياراتنا الفارهة .. ونمشي بشوارعنا اللامعة .. لنلقي درساً أو نستمع محاضرة .. قد يكون الترفيه فيها أكثر من الفائدة المحققة ..

.. المشكلة كل المشكلة .. أننا محسوبون بذلك على أهل الدعوة وأننا من الناشطين فيها كذلك  ؟!

المشكلة كل المشكلة .. أن هذا (العمل الدعوي) يجعلنا نكبر أنفسنا ، فلم نعد بحاجة للطاعات ، فنحن دعاة ، والدعوة إلى الله (أهم) و(أكبر) من الصلاة والقرآن و . و .

إن الله سبحانه وتعالى يقول (يا أيها الذين آمنوا (اركعوا) و (اسجدوا) و (اعبدوا)ربكم و (افعلوا الخير) لعلكم تفلحون ) ثم قال بعدها .. (وجاهدوا في الله حق جهاده) ..

إن الله تعالى وضح للداعية المسلم مهمته الفردية أولاً فقال : اركعوا واسجدوا ، ثم عمم كل العبادات (واعبدوا ربكم) و (افعلوا الخير) ..

إنها وصاية بحق النفس أولاًُ .. ليقويها ويزودها بالوقود الكافي لتحمل الأعباء الكبرى .. أعباء الجهاد في سبيل الله ..

ـ لقد آن لنا أن نوقظ النفوس من رقادها ، وأن نبعث الهمم من تراخيها .. آن لنا أن نتعب ولو قليلاً من أجل دين الإسلام ..

آن لنا أن نلجأ إلى الله بالصلاة والدعاء والذكر والصيام ..

آن لنا ان ندلف من باب الاستقامة .. فنصحح مسارنا إلى الله ..

(وما محنة الداعية إلا هفوته وغفلته وجلوسه فارغاً ..

وما انتصار الداعية إلا أن تعاف نفسه ما لا يؤثر في تقدم دعوته) الرقائق

وها هو الأستاذ الكبير (أبو الأعلى المودودي) يقول مخاطباً الدعاة :

(عليكم أن تستعرضوا قوتكم القلبية والأخلاقية قبل أن تهموا بالخطوات الكبيرة).. (المودودي)

إذن فالطريق طويل وشاق .. والنصر لابد له من همم تفوق القمم .. كما يصور البحتري ممدوحه فيقول :

قلبٌ يطلّ على أفكاره ، ويدٌ      تُمضي الأمور ، ونفسٌ لهوها التعب

هذا .. (ولابد من سنة الغفلة ، ورُقاد الغفلة ، ولكن كن خفيف النوم) ابن القيم .

ولن يجد العبد المؤمن طعم الراحة إلا عند أول قدم يضعها في الجنة !..

.. رحم الله دعاتنا الأولين .. وشيوخنا العابدين العاملين .. ممن سطروا لنا ملاحم العزّ بأفعالهم لا بأقوالهم .. ونهضوا بأمتهم .. وارتقوا بها إلى مراتب النصر والتمكين ..

ووفقنا للسير على خطاهم ، ورزقنا من الهمة ما يلحقنا بهم إنه وليّ ذلك والقادر عليه .. والحمد لله رب العالمين ..