الصبر دواء القرآن للمصائب والفتن والأحزان

سامي احمد الموصلي

الصبر

دواء القرآن للمصائب والفتن والأحزان

سامي احمد الموصلي

ليس هناك إنسان عراقي واحد في هذا الزمن ، إلا وقد أصابته نائبة من نوائب الدهر ومصيبة من مصائبه ،ولعل الموت المستشري بين العراقيين خير واعظ لهم فكفى بالموت واعظا لان الموت هادم اللذات ومفرق الجماعات ، نجده كل يوم يطرق بابنا أو باب جيراننا أو باب أقربائنا ، فكيف يكون الموت وهو مصيبة –حتى إذا جاءتكم مصيبة الموت- حافزا للمؤمن على الاتعاظ بما يصيبه اليوم من هم وغم وحزن وجوع وإذلال ...الخ

هل هناك وسيلة لتقوية المناعة الإيمانية الوقائية في ذات المسلم وهو يرى الموت يحيط به من كل جانب ، وتتناهبه قوى الفساد والظلم وتستشري في كل مرفق من مرافق حياته اليومية والمعيشية ؟

حينما وصف الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم حالنا قبل أكثر من أربعة عشر قرنا وما سيصيبنا من قتل وفتن واستضعاف وذلة حتى لا يعرف القاتل لم قتل ولا المقتول لم قتل ، سئل عن الحل فقال : التمسك بكتاب الله فأين هو الحل في كتاب الله ، وفي حديث آخر قال : كتاب الله وسنتي ،فأين هو هذا الحل في حديثه صلى الله عليه وسلم ؟

لقد قال صلى الله عليه وسلم إن الله لم ينزل داء إلا انزل معه الدواء عرفه من عرفه وجهله من جهله فأين دواؤنا الذي انزله الله لشفاء علتنا اليوم من فرقة وفتن وقتل وفساد ..الخ ؟

حينما ذكر الله سبحانه وتعالى الدنيا في كتابه الكريم أكثر من مائة مرة وصفها بأنها لعب ولهو ومتاع ووصفها بأسوأ الصفات فهي أهون عند الله من جناح بعوضة كما جاء في الحديث الشريف ، ومع هذا فقد انزل بعض السعادة في الدنيا لكي يستطيع الإنسان تحملها ويصبر عليها ، فكان فرحها قليلا مقابل حزنها الكبير، ووضع فيها الأموال والأولاد والنساء كزينة لكي يستطيع المؤمن الاستمرار فيها وتحملها ، كما وضع فيها الشباب بعمر الزهور الذي سرعان ما يمضي بعد أن يعطي الإنسان سعادة مؤقتة .

لقد وضع الله كل هذا في الحياة الدنيا لا للاستغراق فيها والاطمئنان إليها وإنما لتذكير الإنسان بكمالاتها في الحياة والأخرى حيث يتوقف الزمن فيصبح أبدا خلودا دائما وسعادة أبدية وشبابا لا ينقضي ومن ثم لا موت فيها .

لقد وضع الله سبحانه وتعالى لقطات من لذائذ الآخرة في الحياة الدنيا حتى يسعى الإنسان أليها بعد أن ذاق لحظة من لحظاتها ويصبر على مصاعب الحياة ومنغصاتها ما دامت ليست إلا جسرا إلى حياة النعيم والخلود .

ومن هنا فقد ذكر الله تعالى في كتابه الكريم الصبر أكثر من مائة مرة لتحمل الحياة الدنيا التي هي سجن المؤمن وجنة الكافر كما جاء في الحديث الشريف ، وكأنما هناك مقابلة بين الصبر والدنيا فلا دواء لداء الدنيا إلا بالصبر ولا حيلة أمام ظروف الحياة إلا بالصبر ولا سعادة يمكن أن تتحقق أمام شقاء الدنيا وتعاستها ألا بالصبر .

لقد أمر الله المؤمنين بالصبر بأكثر من ثلاثين آية ، وأوجب للصابرين جزاء بغير حساب، وأوجب محبته للصابرين وانه سيكون معهم ، كما انه أطلق البشرى للصابرين بعد البلاء ، كما ضمن النصر للصابرين فالنصر مع الصبر ، واعتبر أن أهل الصبر هم أهل العزائم وان جميع الحظوظ العظيمة إنما تكون لأهل الصبر ، وان الذي يعتبر حقا بالآيات هم أهل الصبر الحقيقي وهم الفائزون بالجنة .

لقد تعمق علماء المسلمين بفهم معنى هذا الصبر المراد في القرآن الكريم فابن عباس يقول :الصبر في القرآن على ثلاثة أوجه : صبر على أداء فرائض الله تعالى ، وصبر عن محارم الله تعالى ، وصبر في المصيبة عند الصدمة الأولى .

أما ابن قيم الجوزية فتحدث عن الصبر لله والصبر بالله والصبر مع الله

فالصبر بالله هو رؤية العبد أن صبره من الله لأنه هو المصبر –واصبر وما صبرك إلا بالله

والصبر لله هو أن يكون باعثه على الصبر هو محبة الله وإرادة وجهه والتقرب أليه

والصبر مع الله هو دوران العبد مع مراد الله الديني منه ومع أحكام دينه يتوجه معها حيثما توجهت

أما الغزالي فيقدم الصبر على المصائب والأقدار على الصبر على الطاعة والصبر عن المعصية

وأبو طالب المكي يقول : إن الصبر على الفرائض والصبر عن المحارم هي أحوال المسلمين، أما الصبر على المصيبة فهو من مقامات اليقين وقد فضل مقام اليقين على مقام الإسلام حيث جاء في الحديث الشريف في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم – وأسألك من اليقين ما تهون به علي مصائب الدنيا ، فأحسن الناس صبرا عند المصائب أكثرهم يقينا وأكثر الناس جزعا وسخطا في المصائب اقلهم يقينا .

وقد جاء عن أبي الدرداء قوله : ذروة الإيمان الصبر للحكم والرضا بالقدر

وقد كتب عمر بن الخطاب لأبي موسى الأشعري يوصيه : عليك بالصبر واعلم أن الصبر صبران احدهما أفضل من الآخر ، الصبر في المصيبات حسن وافضل منه الصبر عما حرم الله تعالى واعلم أن الصبر ملاك الإيمان وذلك بأن التقوى أفضل البر والتقوى بالصبر .

وابن تيمية يقول : الدين كله علم بالحق وعمل به ،والعمل لابد له من الصبر بل وطلب علمه يحتاج إلى الصبر كما يقول معاذ بن جبل رضي الله عنه : عليكم بالعلم فإن طلبه لله عبادة ، ومعرفته خشية ، والبحث عنه جهاد ، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة ، ومذاكرته تسبيح ، به يعرف الله ويعبد ، وبه يسجد له ويوحد، ويرفع الله بالعلم أقواما يجعلهم للناس قادة ،وأئمة يهتدون بهم وينتهون إلى رأيهم ،، فجعل البحث عن العلم من الجهاد ولابد في الجهاد من الصبر ولذا قال تعالى :والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر . وإذا كانت جميع تكاليف الدين وإحكامه إنما تنصب على افعل ولا تفعل ففي كلا الحالتين نجد الحاجة إلى الصبر .

إذن فالصبر مرافق للعمل كله ،فهو يحتاجه لتصحيح النية والإخلاص ، والصبر على شوائب الرياء ودواعي الآفات وعقد العزم ، ويحتاج الصبر خلال العمل لكي لا يغفل عن الله أثناء عمله أيضا لكي لا يغش عمله ولا يتظاهر للسمعة والرياء والنظر إليه بعين العجب .

إن أكثر معاصي العباد تكون في شيئين كما يقول أبو طالب المكي : قلة الصبر عما يحبون ،أو قلة الصبر على ما يكرهون ، وقد قرن الله الكراهة بالخير والمحبة بالشر في قوله تعالى : وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم ، يقول علي بن أبي طالب كرم الله وجهه : الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ولا جسد لمن لا رأس له ولا إيمان لمن لا صبر له .

ومن الصبر حبس النفس على التقوى ، والتقوى سر جامع لكل خير ، فالصبر معنى داخل في كل بر ،فإذا جمعها العبد فهو من المحسنين وما على المحسنين من سبيل ،وقال تعالى : لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وأن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور . أي إن تصبروا على المكافأة وتتقوا عند الابتلاء والمكاره ولا تجاوزوا فإنه أفضل كما قال تعالى : وان عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين .

وهكذا نرى أن الصبر روح الأعمال كلها كما هو روح مفاهيم الدين وبدون الصبر والتصبر والاصطبار لا يكون هناك جنة ولا يكون هناك بعد عن النار .

جاء في الحديث الشريف قوله صلى الله عليه وسلم : ما أعطي احد عطاء خير له وأوسع من الصبر ، فهو إنما يشير إلى أن الصبر خلاصة كل عطاء سواء كان هذا العطاء خيرا أو شرا طاعة أو معصية صحة أو مرضا فالله سبحانه وتعالى قد احكم هذا حينما قال : ونبلوكم بالخير والشر فتنة ، وما جواب البلاء إلا الصبر عليه ، ولا شك أن قوله عليه الصلاة والسلام –انتظار الفرج بالصبر عبادة –إنما يعني كل ضيق يمر به الإنسان سواء كان داخلا في حالة شخصية أو في حالة عامة فقد ذكر الله عباده في أكثر من آية أن واقع الحياة لا يكون إلا بقانون اليسر بعد العسر فقال : فإن مع العسر يسرا ، ان مع العسر يسرا .

وسواء كان هذا اليسر بمعنى الموت والحياة ،أو كان بمفهوم الغنى والفقر ،أو المرض والصحة أو كل مشاكل الحياة الأخرى ، بل قد يكون يسر المؤمن في موته لخلاصه من عسر الحياة لأن منطق الرب جل وعلا فوق قانون الحياة والموت في الدنيا ، فما أحب الموت للمؤمن إذا تيقن من أن لقاء ربه بعده سيكون لقاء حسنا –من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه.

إن الحديث الشريف يفصل هذه المعاني تفصيلا يمس واقع الحياة وجزئياتها ، فبعد أن يضع النبي صلى الله عليه وسلم قاعدة تقول : إن عظم الجزاء مع عظم البلاء ، وان الله إذا أحب قوما ابتلاهم فمن رضي فله الرضى ومن سخط فله السخط ، وبعد أن يطلق قانونا شاملا حينما يتحدث عن اشد الناس بلاء قائلا الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل ، ويبتلى الرجل على قدر دينه فإذا كان  رقيق الدين ابتلي على حسب ذلك وان كان صلب الدين ابتلي حسب ذلك فما زال البلاء ينزل بالعبد حتى يمشي على الأرض ليست عليه خطيئة .

ثم قوله عليه الصلاة والسلام : من يرد الله به خيرا يصب منه ، ويؤكد أن من مرض ليلة فصبر ورضي عن الله خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ثم يقول :إن الله ليحمي عبده المؤمن من الدنيا وهو يحبه كما يحمي أحدكم مريضه.

وحينما يشكو إليه رجل ذهاب ماله وسقم جسده يجيبه عليه الصلاة والسلام : لا خير في عبد لا يذهب ماله ولا يسقم جسده ، إن الله إذا أحب عبدا ابتلاه وإذا ابتلاه صبره .

بل إن درجات الجنة قد ترتقى بالصبر على البلاء –فإن الرجل لتكون له الدرجة عند الله لا يبلغها بعمل حتى يبتلى ببلاء في جسمه فيبلغها بذلك-

إذن فالبلاء والصبر عليه يرفع درجات المؤمن في الجنة ويقول عليه الصلاة والسلام – إن العبد إذا أذنب ذنبا فأصابته شدة أو بلاء في الدنيا فالله أكرم من أن يعذبه ثانيا –

إذن فالبلاء تكفير لذنوب الدنيا بالدنيا ، لأنه عليه الصلاة والسلام يقول -  ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا حط الله من خطاياه بل إنه يصف أمر المؤمن في الدنيا بالعجب – لان أمره كله خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن ، إذا أصابته سراء شكر فكان خيرا ، وإذا أصابته ضراء صبر فكان خيرا له –

ويعلم المؤمن قاعدة الدعاء عند المصيبة فيقول – ما من عبد أصيب بمصيبة فقال كما أمره الله تعالى : إنا لله وإنا إليه راجعون – اللهم اجرني في مصيبتي واعقبني خيرا منها إلا فعل الله به ذلك .

إن خيري الدنيا والآخرة كما يقول عليه الصلاة والسلام في ثلاث – ثلاث من رزقهن رزق خيري الدنيا والآخرة ، الرضا بالقضاء ، والصبر على البلاء ، والدعاء في الشقاء –

ويبلغ الصبر مبلغا لا يبلغه عمل آخر بعد الإيمان – من اقل ما أوتيتم اليقين وعزيمة الصبر ومن أعطي منهما لم يبال بما فاته من قيام الليل وصيام النهار ، ولئن تصبروا على مثل ما انتم عليه ، أحب إلي من أن يوافيني كل امرئ منكم بمثل عمل جميعكم ولكني أخاف عليكم أن تفتح عليكم الدنيا بعدي فينفر بعضكم بعضا وينكركم أهل السماء بعد ذلك ، فمن صبر واحتسب ظفر بكمال ثوابه . ثم – ما عندكم ينفد وما عند الله باق ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ..

إننا ممن وصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمل المتأخرين في الزمان بأفعالنا أعظم الجزاء ومضاعفاته يقول عليه الصلاة والسلام : إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بنفسك و دع عنك العوام. فان من ورائكم أياما الصبر فيهن مثل القبض على الجمر ، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم قيل: يا رسول الله خمسين منا أم منهم ؟ قال : أجر خمسين منكم ... وأين عمل الصحابة وأجورهم حيث رضي الله عنهم .حيث كانوا يجتهدون ما لم نجتهد في العبادة والورع عن محارم الله .فبالصبر ندرك أجرهم على ما لم يتعرضوا له من الفتنة التي نتعرض لها .

 إن الذي يقوي على الصبر هو معرفة ما فرض الله عليك في الصبر حين قال : ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم . والثانية معرفة قدر عظيم الثواب لان الله عز وجل يقول : وجزيناهم بما صبروا جنة وحريرا.

فالذي يقوي على الصبر هو معرفة انه فرض من الله تعالى أولا، وثانيا معرفة عظم الجزاء للصابرين . كما أن معرفة علة الصبر تقوي على كيفية الصبر ألم تسمع إلى قوله تعالى – قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا – فإذا لم تدرك لأي علة تصبر لم تصبر ..

إن المؤمن إذا علم أن الله ناظر إليه في صبره على احتمال المعرفة وانه بعينه وأيقن بذلك يقينا حقا فإنه و لا شك سيستطيع أن يتحمل من الصبر ما يعجز عنه وهو في حالة غياب هذه المعرفة برعاية الله له في صبره. إذن فالصبر على البلاء يكون أقوى بملاحظة حسن الجزاء كما أن ملاحظة حسن العاقبة تعين على الصبر فيما يتحمله الإنسان باختياره أو بغير اختياره ، كما أن انتظار روح الفرج وتهوين البلية بعد أيادي المنن وذكر سوالف النعم يخفف من وقع البلاء اللاحق له.