إنه ينادينا 17

د.عثمان قدري مكانسي

[email protected]

 نداء واحد للمؤمنين  في سورة الحج

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)

يأمرنا الله تعالى فيه- إن كنا متصفين بالإيمان- أن نصلي ساجدين راكعين ،لله عابدين ، للخير فاعلين . مجاهدين في سبيله ، فمن آمن بالله وأقام الصلاة وآتى الزكاة وجاهد حقَّ الجهاد ، واعتمد على الله في سعيه واعتصم به كان من أهل الفلاح .

ولكن ما صفات المؤمنين المفلحين ؟ إنها كثيرة في القرآن الكريم بيدَ أننا سنقف على صفاتهم في سورة ( المؤمنون) لقرب هذه الصفات من الآية ، بل إننا ننتقل إلى سورة ( المؤمنون ) مباشرة  فصفات المؤمنين هنا تتمة لما سبق ، وهذا دليل على (وحدة الموضوع القرآني).

عن يزيد بن بابنوس قال : قلنا لعائشة أم المؤمنين كيف كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن فقرأت " قد أفلح المؤمنون - حتى انتهت إلى - والذين هم على صلواتهم يحافظون" قالت هكذا كان خلُقُ رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وعن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " خلق الله جنة عدن بيده لبنة من درة بيضاء ولبنة من ياقوتة حمراء ولبنة من زبرجدة خضراء ملاطها المسك وحصباؤها اللؤلؤ وحشيشها الزعفران ثم قال لها انطقي قالت " قد أفلح المؤمنون " فقال الله وعزتي وجلالي لا يجاورني فيك بخيل " ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم " ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون "

 وقوله تعالى " قد أفلح المؤمنون " يعني أنهم فازوا وسعدوا وحصلوا على الفلاح وهم المؤمنون المتصفون بهذه الأوصاف .

أول هذه الصفات : الخشوع في الصلاة " الذين هم في صلاتهم خاشعون " والقلب مركز الخشوع لله والخوف منه سبحانه ومن خشع ، فكّر وتدبّر وفهم، ثم عمل . والخشوع في الصلاة إنما يحصل لمن فرغ قلبه لها واشتغل بها عما عداها وآثرها على غيرها وحينئذ تكون راحة له وقرة عين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والنسائي عن أبي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " حبب إلي الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة " . وكان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر قال: " يا بلال أرحنا بالصلاة "

ثاني هذه الصفات : الإعراض عن الباطل من شرك ومعاصٍ من أفعال وأقوال " والذين هم عن اللغو معرضون " ومن اللغو ما لا فائدة فيه من أقوال وأفعال ألم يقل الله تعالى" وإذا مروا باللغو مروا كراما ". وما يتصف بهذه الصفات إلا ذوو الأفئدة الحية والقلوب الزكية.

وثالث هذه الصفات  زكاة المال وزكاة النفس " والذين هم للزكاة فاعلون "ومن أدّى الزكاة عن إيمان ويقين شرح الله صدره وقبل عمله وهداه غلى كل خير  " قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها " ولعلنا نجد الوعيد والتهديد لمن تقاعس عن الزكاة فكان شحيحاً في قوله تعالى " وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة ": ولن يكون الخاشع في صلاته بخيلاً .

ورابع هذه الصفات: العفة والطهارة والحفاظ على أعراض المسلمين وغيرهم :" والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون " والمسلم غيور على شرف المجتمع المسلم ينأى بنفسه عما يسيء إليه من زنا أو لواط غير أن التسرّي بالإماء والجواري في هذا الزمن قد انتهى ولم يعد له وجود  ".وإننا لنرى الشاب في هذا الزمن الرديء يرى اللحوم البشرية تُعرض كأرخص سلعة فيأباها ولسان حاله يقول : إني أخاف الله رب العالمين ، ولعله من السبعة الذين يظلهم الله بظله يوم لا ظلَّ إلا ظله.

وخامس هذه الصفات :أداءُالأمانة وحفظ العهد نراها في قوله تعالى:" والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون " والمسلم إذا عاهد وفّى وإذا قال صدق ولا يخون أبداً وينأى بنفسه أن يكون منافقاً ، قال صلى الله عليه وسلم:" آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان "

وسادس هذه الصفات: المواظبة على الصلاة في وقتها لقوله سبحانه " والذين هم على صلواتهم يحافظون " سأل ابن مسعود رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله أي العمل أحب إلى الله ؟ قال " الصلاة على وقتها " ثم أي ؟ قال " بر الوالدين " قلت ثم أي ؟ قال " الجهاد في سبيل الله " أخرجاه في الصحيحين .ويتجلى ذلك في حسن أدائها من قيام وركوع وسجود واطمئنان في كل أركانها،

وقد افتتح الله ذكر هذه الصفات الحميدة بالصلاة واختتمها بالصلاة فدل على أفضليتها كما قال رسول الله " استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن " .

فمن اتصف بهذه الشمائل الحميدة والأفعال الرشيدة نال الفردوس الأعلى " قال أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون" وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة ومنه تفجر أنهار الجنة وفوقه عرش الرحمن "

 وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" ما منكم من أحد إلا وله منزلان ، منزل في الجنة ومنزل في النار فإن مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله " فما المنزل الذي يسعى له المؤمن يا تُرى؟.

يقول ابن كثير رحمه الله : فلما قام هؤلاء المؤمنون بما وجب عليهم من العبادة وترك أولئك ما أمروا به مما خلقوا له أحرز هؤلاء نصيب أولئك لو كانوا أطاعوا ربهم عز وجل بل أبلغ من هذا أيضا وهو ما ثبت في صحيح مسلم عن أبي بردة بن أبي موسى عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " يجيء ناس يوم القيامة من المسلمين بذنوب أمثال الجبال فيغفرها الله لهم ويضعها على اليهود والنصارى " وفي لفظ قوله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا كان يوم القيامة دفع الله لكل مسلم يهوديا أو نصرانيا فيقال هذا فكاكك من النار " فاستحلف عمر بن عبد العزيز أبا بردة بالله الذي لا إله إلا هو ثلاث مرات أن أباه حدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك قال فحلف له قلت وهذه الآية كقوله تعالى " تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا " وكقوله" وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون ".

ولمّا وصفهم تعالى بالقيام بهذه الصفات الحميدة والأفعال الرشيدة " قال أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون " .

مهما عاش المرء في دنياه فإن نسبة حياة الدنيا إلى الآخرة الخالدة كنقطة في مستقيم لا نهاية له، فمن باع آخرته بدنياه معتوه لايدري من أمره شيئاً ولو حاز علوم الدنيا كلها.ومن باع دنياه بآخرته فاز بالنعيم المقيم ، نسأل الله تعالى حسن الختام

إنه سبحانه ينادينا ، فهل سمعنا النداء ووعيناه؟!