قدوة القيادة في الإسلام 38

قدوة القيادة في الإسلام

الحلقة الثامنة والثلاثون:

وفاءُ القائد لجنوده، واعترافُه بفضلهم، وشكرُه لمعروفهم

د. فوّاز القاسم / سوريا

الوفاء جزء لا يتجزأ من الإيمان ، وهو شيمة من شيم الرجال الشجعان ، وخصلة من خصال القادة الراشدين .

ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مضرب المثل في الوفاء ، سواء مع أصحابه ، أو مع أعدائه .!

ولقد رأينا في القسم الأول من هذه الدراسة ، كيف كان يطلق عليه المشركون ، قبل البعثة وبعدها ، الصادق الأمين ، من شدّة وفائه .!

ولعل من أهم ما لفت نظري في سيرته المباركة ، من مظاهر وفائه لأعدائه ، ما يلي 1. وفاؤُه في صلح الحديبيه :

قال ابن إسحاق يحدث عن بعض لقطات الصلح الذي أبرم بين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبين أهل مكة : فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يكتب الكتاب هو وسهيل بن عمرو ، إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو ، يرسف في الحديد ، قد انفلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما رأى سهيل أبا جندل ، قام إليه فضرب وجهه ، وأخذ بتلبيبه ؛ ثم قال : يا محمد ، قد لجَّت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا ؛ قال : صدقت ، فجعل ينتره بتلبيبه ، ويجرّه ليردّه إلى قريش ، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته : يا معشر المسلمين ، أَأُردّ إلى المشركين يفتنوني في ديني .!؟ فزاد ذلك المسلمين إلى ما بهم من الهم والغم .!

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( يا أبا جندل ؛ اصبر واحتسب ، فإن الله جاعلٌ لك ولمن معك من المستضعفين ، فرجاً ومخرجاً ، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحاً ، وأعطيناهم على ذلك ، وأعطونا عهد الله ، وإنا لا نغدر بهم  )) هشام 2 (318)

2. وفاؤُه يوم الفتح :

قال ابن إسحاق يصور بعض لقطات هذا الفتح العظيم :

ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ، فقام إليه عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه ، ومفتاح الكعبة في يده ، فقال : يا رسول الله ، اجمع لنا الحِجابة مع السِّقاية ، صلى الله عليك ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أين عثمان بن طلحة ؟ فدُعي له (وكان هو حاجبها في الجاهلية ) ، فقال :

(( هاك مفتاحك يا عثمان ، اليوم يوم برٍّ ووفاء )). هشام 2 (412)

3. وفاؤُه لأهل العهود والعقود من المشركين :

لقد ذكرنا في الفصول السابقة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان من الفطنة والعبقرية ، بحيث لا يعامل المشركين كلهم معاملة واحدة ، بل كان يفرّق بين المحاربين ، والمسالمين .

ولذلك فقد أبرم مع المشركين من قبائل العرب ، ما عدا قريش ، العشرات من مذكرات التفاهم ، وعقود الصلح والسلام ، وعدم الاعتداء .

وكان حريصاً جداً على الوفاء بها ، مهما تكن الظروف والملابسات،  

حتى لو حصل في أعرافهم هم أنفسهم ، ما يستدعي هذا النقض .!

فقد أورد ابن إسحاق قصة عمرو بن أمية الضَّمري ، الذي نجا من غدر قبائل نجد ، الذين قتلوا رفاقه ، في بئر معونة ، ثم تمكن من رجلين عامِريّيَن ظنهما من القبائل الغادرة ، فقتلهما خطأً ..

قال ابن إسحاق : حتى نزلا معه في ظلٍّ هو فيه ، وكان مع العامريَّيْنِ عقد من رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوار ، لم يعلم به عمرو بن أُميّة ، وقد سألهما ، حين نزلا ، ممن أنتما ؟

فقالا : من بني عامر ( وهي نفس القبيلة التي غدرت بإخوانه ) ، فأمهلهما ، حتى إذا ناما ، عدا عليهما فقتلهما ، وهو يرى أنه قد أصاب بهما ثؤرةً ، من بني عامر ، فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأخبره بالخبر ، قال :

((لقد قتلت قتيلَيْنِ لأديَنَّهما )). هشام 2 (186)

وحتى بعد أن منّ الله عليه بالعز والتمكين ، وفتح مكة ، وخضعت له الجزيرة العربية ، وأنزل الله عليه سورة براءة ، فإنه لم ينقض تلك العهود والعقود ، وإنما آذن الناس ، وانذر المشركين ، على مسمع من الدنيا كلها ، وأمهل أصحاب العقود المحددة إلى مددها ، وأعطى مهلة أربعة أشهر لمن ليس لهم عهود وعقود ، فأنشأ بذلك قيم عسكرية ، وأخلاق حربية ، هي الأولى في تاريخ البشرية على الإطلاق .! قال تعالى في سورة براءة : (( براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين ، فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ، واعلموا أنكم غير معجزي الله ، وأن الله مخزي الكافرين ، وأذانٌ من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أنَّ الله بريء من المشركين ورسولُه ، فإن تبتم فهو خير لكم ، وإن تولَّيتم فاعلموا أنَّكم غيرُ معجزي الله ، وبشِّر الذين كفروا بعذاب أليم ، إلا الذين عاهدتم من المشركين ، ثم لم ينقصوكم شيئاً ، ولم يظاهروا عليكم أحداً ، فأتمٌّوا إليهم عهدهم إلى مدَّتهم ، إن الله يحب المتَّقين . فإذا انسلخ الأشهر الحُرُم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ، وخذوهم ، واحصروهم ، واقعدوا لهم كلَّ مرصد.  فإن تابوا وأقاموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ، فخلٌّوا سبيلهم ، إنَّ الله غفور رحيم . وإن أحدٌ من المشركين إستجارك ، فأجرْه حتى يسمع كلامَ اللهِ ، ثمَّ أبلغْه مأمنَه ، ذلك بأنهم قومٌ لا يعلمون )). التوبة(1)

4. وفاؤه لليهود :

ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفيّاً  ، حتى لليهود ، وهم أساطين الغدر ، وأساتذة الخيانة ،  في هذه الأرض .!

قال ابن إسحاق يحدث عن أحد أفراد بني قُرَيْظَةَ ، الذي رفض الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم ، عندما نقضوا عهدهم معه يوم الأحزاب : وخرج في تلك الليلة ( وهي الليلة التي نزلوا فيها على حكم الله ورسوله ) ، عمرو بن سُعدى القُرَظي ، فمرَّ بحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعليه محمد بن مَسْلَمة تلك الليلة ، فلما رآه قال : من هذا .!؟ قال : أنا عمرو بن سُعدى _ وكان عمرو قد أبى أن يدخل مع بني قُرَيْظَة في غدرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : لا أغدر بمحمَّدٍ أبداً _فقال محمد بن مسلمة حين عرفه : اللهم ، لا تحرمني إقالة عثرات الكرام ، ثم خلى سبيله .

فلما ذُكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال :

(( ذاك رجلٌ نجَّاه الله بوفائه )). هشام 2 ( 238 )

* وأما وفاؤه صلى الله عليه وسلم ، لجنوده وأصحابه فقد كان من لون خاص ، وطعم مختلف ، وهذه بعض نماذجه :

1. وفاؤه لأبي بكر رضي الله عنه :

قال ابن إسحاق ، يحدّث عن مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذي قبضه الله فيه : قال الزُّهريُّ : حدثني أيوب بن بشير : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، خرج عاصباً رأسه حتى جلس على المنبر ، ثم كان أول ما تكلَّم به ، أنه صلى على أصحاب أُحُد ، واستغفر لهم ، فأكثر الصلاة عليهم ، ثم قال : إنّ عبداً من عباد الله ، خيره الله بين الدنيا ، وبين ما عنده ، فاختار ما عنده ، قال : ففهمها أبو بكر ، وعرف أن نفسه يريد ، فبكى وقال : بل نحن نفديك بأنفسنا وأبنائنا ، فقال : على رسلك يا أبا بكر ، ثم قال : (( انظروا هذه الأبواب اللافظة في المسجد ، فسدُّوها ، إلا باب أبي بكر ، فإني لا أعلم أحداً كان أفضل في الصحبة يداً منه )). هشام 2 (649)

2. وفاؤه للأنصار رضوان الله عليهم :

لقد رأينا في القسم الأول من هذه الدراسة ، كيف وقف أبو الهيثم بن التيهان ، في بيعة العقبة الثانية وقال : يا رسول الله ، إن بيننا وبين الرجال حبالاً ، وإنا قاطعوها ، يعني اليهود ، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ، ثم أظهرك الله ، أن ترجع إلى قومك وتدعنا .!؟

قال : فتبسَّم رسولُ الله صلى الله عليه وسلَّم وقال : (( بلِ الَّدمُ الدَّمَ ، والهدمُ الهدمَ ، أنا منكم ، وأنتم منّي ، أُحاربُ من حاربتم ، وأُسالمُ من سالمتم )).  هشام 1 (446)

ولقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قولَه فعلُه ، فلقد أمضى حياته بين جنوده ، وعلى رأس دعوته ، ولم يتخلَّ عنهم في يوم قط ، حتى بعد أن فتح الله عليه مكة المكرمة ، وطنه الحبيب ، ومسقط رأسه ، ومهبط وحيه ، وأحب بقاع الأرض إلى قلبه ، لكنه لم يؤثرها في الإقامة والسكن على بلد مهاجره ، وموطن أحبابه وأنصاره .

قال ابن هشام : وبلغني عن يحيى بن سعيد ، أن النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح مكة ودخلها ، قام على الصفا يدعو ، وقد حدقت به الأنصار ، فقالوا فيما بينهم : أترون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ فتح الله عليه أرضه وبلده يقيم بها ؟ فلما فرغ من دعائه قال : ما ذا قلتم ؟ قالوا : لا شيء يا رسول الله ؛ فلم يزل بهم حتى أخبروه ،  فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( معاذ الله .! المحيا محياكم ، والممات مماتكم )) .  هشام 2 ( 416 )

ولقد رأينا في الصفحات السابقة ، كيف وقف يخاطب الأنصار _ عندما وجدوا عليه في أنفسهم أثناء قسمته لغنائم هوازن _ بكلمات تقطر بالحب والطهر والوفاء : (( أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لُعاعةٍ من الدنيا تألفت بها قوماً ليسلموا ، ووكلتكم إلى إسلامكم ، ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير ، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم .!؟

فوالذي نفس محمّدٍ بيده ، لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار ، ولو سلك الناس شِعباً ، وسلكتِ الأنصارُ شِعباً ، لسلكت شِعب الأنصار .

اللهمَّ ارحمِ الأنصارَ ، وأبناءَ الأنصارِ ، وأبناءَ أبناءِ الأنصار .!!!

قال : فبكى القوم حتى اخضلُّوا لحاهم ، وقالوا : رضينا برسول الله قسماً وحظاً . هشام 2 ( 500 )

ولم يكن وفاؤه صلى الله علي وسلم لأصحابه يقتصر على الأحياء فقط ، بل تعداهم إلى الأموات والشهداء أيضاُ .

قال ابن إسحاق : ابتُديء رسول الله صلى الله عليه وسلم بشكواه الذي قبضه الله فيه إلى ما أراد به من كرامته ورحمته ، في ليالٍ بقين من صفر ، أو في أول شهر ربيع الأول ، فكان أول ما ابتُديء به من ذلك ، أنه خرج إلى بقيع الغرقد ( وهي مقبرة أهل المدينة ) ، من جوف الليل ، فاستغفر لهم ، ثم رجع إلى أهله ، فلما أصبح ، ابتُديء بوجعه من يومه ذلك . 

وقال أيضاً : قال الزهري : حدثني أيوب بن بشير : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، خرج عاصباً رأسه ، حتى جلس على المنبر ، ثم كان أول ما تكلَّم به ، أنه صلى على أصحاب أُحُد ، واستغفر لهم ، فأكثر الصلاة عليهم …الخ . هشام 2 ( 649 ).