دروس في فقه الجهاد والقيادة الراشدة 30

دروس في فقه الجهاد والقيادة الراشدة

خالد بن الوليد يقود جيوش الشام ( 30)

د. فوّاز القاسم / سوريا

عندما تواترت الأخبار القادمة إلى أبي بكر الصديق بحشد الروم لأعداد هائلة من المقاتلين تضيق بهم الأرض كما يقول الرواة ، ولما كان خالد بن الوليد رضي الله عنه قد أنجز مهمته في العراق على أحسن وجه ، فطهّر غربي نهر الفرات من أية قوّة فارسية ، واستقر به الأمر في الحيرة ، منتظراً إذن الخليفة بالانقضاض على المدائن عاصمة الفرس ...

لذلك رأي الخليفة الصدّيق رضوان الله عليه بنظره الستراتيجي الثاقب ، أن الموقف في الشام أكثر إلحاحاً ، وأشدّ حاجة لفكر خالد العسكري المبدع ، ولقيادته المتميّزة، فقرر تحريكه من العراق إلى الشام ، وهذا نص رسالته إليه :

( أما بعد ، فإذا جاءك كتابي هذا ، فدع العراق ، وخلّف فيه أهله الذين قدمت عليهم وهم فيه ( يقصد المثنى ومن معه من بني شيبان ) ، وامض  متخفّفاً  في أهل القوّة من أصحابك ، الذين قدموا العراق معك من اليمامة ، وصحبوك من الطريق ، وقدموا عليك من الحجاز ، حتى تأتي الشام ، فتلقى أبا عبيدة بن الجرّاح ، ومن معه من المسلمين ، فإذا التقيتم ، فأنت أمير الجماعة ، والسلام ...)

وفور وصول رسالة الصدّيق ، قال خالد رضي الله عنه : ( سمعاً وطاعة لخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلّم ).

وقسم جيشه إلى نصفين ، نصف معه ، ونصف أبقاه مع المثنى رضي الله عنه ، ثم التفت إلى من بقي في العراق مودعاً ومطمئناً فقال : ( إن في الشام أهل الإسلام ، وقد زحفت إليهم الروم ، وتهيؤوا لهم ، وإنما أنا مغيثٌ لهم ثم راجع إليكم ، فكونوا أنتم هاهنا على حالكم التي أنتم عليها ، فإذا فرغت مما أنا شاخص له ، فأنا منصرفٌ إليكم عاجلاً ، وإن أبطأت ، رجوت ألا تعجزوا ولا تهنوا ، فإن خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلّم ليس بغافل عنكم ، ولا بتارك أن يمدّكم بالرجال والجنود حتى يفتح الله عليكم هذه البلاد إن شاء الله )

فبكى القوم حزناً على فراق خالد لما كانوا يحبونه ويرجون النصر والفتح على يديه.

وخرج خالد من الحيرة في تسعة آلاف مجاهد ، وذلك في الثامن من شهر صفر للسنة الثالثة عشرة للهجرة ، وكتب من فوره إلى أخيه أبي عبيدة  رسالة تقطر بالأدب والتواضع قائلاً : (بسم الله الرحمن الرحيم ، إلى أبي عبيدة بن الجرّاح من خالد بن الوليد ( فقدّم اسم أبي عبيدة على اسمه معرفة لفضله ) سلام عليك ...

فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو .. أما بعد ، فإني أسأل الله لنا ولك الأمن يوم الخوف ، والعصمة في دار الدنيا .

لقد أتاني كتاب خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلّم يأمرني بالمسير إلى الشام ، والمقام على جندها ، والتولّي لأمرها .

و و الله ما طلبت ذلك ، ولا أردته ، ولا كتبت له فيه .

وأنت رحمك الله على حالك التي كنتَ بها ، لا يُعصى أمرك ، ولا يُخالف رأيك ، ولا يُقطع أمر دونك ، فأنت سيد من سادات المسلمين ، لا يُنكر فضلك ، ولا يُستغنى عن رأيك . تمّم الله ما بنا وبك من نعمة الإحسان ، ورحمنا وإياك من عذاب النار .

والسلام عليك ورحمة الله وبركاته ... )

ثم كتب رسالة أخرى إلى جنوده الجدد في الشام : ( من خالد بن الوليد إلى من بأرض العرب من المؤمنين والمسلمين ..سلام عليكم ...

فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو .. أما بعد ...

فإني أسأل الله الذي أعزّنا بالإسلام ، وشرّفنا بدينه ، وأكرمنا بنبيّه محمد صلى الله عليه وسلّم ، وفضّلنا بالإيمان ، رحمة من ربنا لنا واسعة ، ونعمة منه علينا سابغة ، أن يتم ما بنا وبكم من نعمته ... واحمدوا الله عباد الله يزدكم ، وارغبوا إليه في تمام العافية يُدمها لكم ، وكونوا له على نعمه من الشاكرين .

وإن كتاب خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلّم أتاني يأمرني بالمسير إليكم ، وقد شمّرت ، وانكمشت ( أسرعت ) ، وكأنّ خيلي قد أطلّت عليكم في رجال ، فأبشروا بإنجاز موعود الله ، وحسن ثوابه ، عصمنا الله وإياكم بالإيمان ، وثبّتنا وإياكم على الإسلام ، ورزقنا وإياكم حسن ثواب المجاهدين ، والسلام ...)

ولما عرف المسلمون بقدوم خالد فرحوا فرحاً عظيماً ، لما يعرفون عنه من شجاعة نادرة ، وبطولة خارقة ، وحسن القيادة ، وميمون النقيبة ...

وأما العملاق أبو عبيدة رضي الله عنه ، الذي كانت تولية خالد ، بمثابة عزل له ، فلم يتبين في وجهه ، ولا في سلوكه أية كراهة ، ولما قرأ  كتاب خالد رضي الله عنه إليه ، قال : ( بارك الله خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيما رأى ، وحيا خالداً بالسلام ) .

ولم يلبثوا إلا قليلاً ، حتى هبط عليهم خالد من صحراء السماوة كالصقر الجارح ، يسحق كل قوّة تقف في طريقه ، ويطهّر ما يمر عليه من البلدان ، فمر على عين التمر ، ثم أخذ على قراقر ، ثم شوا ، ثم اللِّوى ، ثم قُصم ، ثم مرّ على أرك ، ثم تدمر ، فافتتحها ، ثم أتى القريتين ، وحوارين ، ثم مرّ على أعراب غسّان ، فاجتمعوا له في مرج راهط ، فانتسف عسكرهم في يوم فصحهم ، حتى طلع على الجهة الشرقية من دمشق ، ونزل في غوطتها ، فدخل أهل دمشق المدينة رعباً منه  وأغلقوا عليهم أبوابها ، ثم تابع مسيره حتى نزل على أبي عبيدة في الجابية ...

يا للروعة ... و يا للعظمة ... و يا لألق التاريخ ...!!!

ومرّة أخرى ، شكراً ، وألف شكر ، لرواة التاريخ ، الذين أوصلوا إلينا هذه الكنوز الباهرة ...

ومرّة أخرى أقول : ما أجدرنا أن نحافظ على هذا الإرث الجهادي العظيم ، ونقتدي به ، ونسير على نهجه ، وننسج على منواله ...!!!