قدوة القيادة في الإسلام 27

قدوة القيادة في الإسلام

الحلقة السابعة والعشرون

د. فوّاز القاسم / سوريا

تحديد جبهة العدو الرئيسي ، وتحييد بقية الجبهات الأخرى :

لقد كانت واحدة من أهم ملامح النبوغ القيادي للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، هي في تحديد جبهة العدو الرئيسي المحارب ، وهي جبهة قريش ومن تحالف معها أو ناصرها من قبائل العرب ، وإقفال أو تحييد بقية الجبهات الأخرى ، الأقل أهمية ، والأخف خطورة ، بالنسبة للظرف الذي كان يعيشه ، والمرحلة التي يمر بها .

ولقد طبق هذه الخطة الحكيمة من خلال الإجراءات التالية :

أ. تحييد اليهود في المدينة :

لم تكن للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، غداة هجرته إلى المدينة المنورة ، أية مصلحة في إثارة اليهود ، أو تأليبهم على دولته الوليدة فيها ، بل على العكس تماماً ، فلقد كانت المصلحة في أن يهادنهم ، ويسالمهم ، ويتعاون معهم أيضاً .!

ولذلك فقد بادر فور وصوله ، إلى توقيع مذكّرة تفاهم ، وحسن جوار، وتعاون معهم . على أن يحتفظوا بعقيدتهم إن شاؤوا ، وتكون لهم كامل حقوق المواطَنة ، بشرط أن لا يعتدوا على المسلمين ، ولا يظاهروا عليهم ، وأن يشاركوا المسلمين في الدفاع عن وطنهم ، وأن تكون الكلمة العليا في البلد ، لله ولرسوله .

وكتب بذلك كتاباً هذه بعض نصوصه :

* لليهود دينهم ، وللمؤمنين دينهم ، ومن أسلم من يهود فقد صار من المؤمنين، إلا من ظلم وأثم فلا يُوتِغُ (يُهلك) إلا نفسه وأهل بيته .

* إن علـى المسلمين نفقتهم ، وعلـى اليهود نفقتهم ، وإن بين المسلمين وبين اليهود النصر علـى مـن حـارب أهل هذه الصحيفة.

* المرجع الأول في هذه المدينة هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكل مـا كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخــاف فسـاده ، فـان مرده إلى الله عز وجل ، وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ب. تحييد المشركين في المدينة :

وكذلك فعل مع من تبقى من أهل الشرك في المدينة ، وتعامل معهم كأفراد ، ولم يتعامل معهم كتجمّع ، وخصَّهم بمادة واحدة من مواد الدستور ، فقال : ((..وأنه لا يجير مشركٌ مالاً لقريش ولا نفساً ، ولا يحول دونه على مؤمن )).

وجعل الكلمة العليا في المدينة لله ولرسوله ..

وفي الوقت الذي وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هؤلاء اليهود والمشركين في المدينة ، وأخرجهم من طريقه ، ليتفرَّغ لعدوه الرئيسي ، قريش ومن تحالف معها ، إلا أنه لم يكن يغفل لحظة واحدة عن دسِّهم ، وكيدهم ، وتآمرهم ، لأنه كان يقدّر أن قلوبهم الحاقدة ، ونفوسهم المريضة والموتورة ، لا يمكن أن تدعه وشأنه ، دون أن تتآمر عليه وعلى إخوانه ودعوته ، ولقد حدثتنا كتب السيرة عن محاولات عبد الله بن أُبَيّ بن سلول ، زعيم الشرك في المدينة لهذه المرحلة ، ثم زعيم النفاق فيما بعد ، المستميتة لإيقاع الفتنة بين  صفوف المجتمع المدني ، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان له بالمرصاد ، فقد روى أبو داوود عن إحدى هذه الفتن المبكرة التي أراد أن يوقع فيها بين المشركين والمسلمين ، من أبناء المدينة أنفسهم: ( فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، لقيهم ، فقال :

لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ ، ما كانت تكيدكم بأكثر مما تريدون أن تكيدوا به أنفسكم ، تريدون أن تقاتلوا أبناءكم وإخوانكم؟

فلما سمعوا ذلك من النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، تفرَّقوا ..) غضبان (221)

وهكذا يكون الرسول صلى الله عليه وسلم ، قد أخمد فتنة الحرب الأهلية المقيتة ، بين الإخوان وأبناء الوطن الواحد ، بعد أن حرَّك فيهم مشاعر الوحدة الوطنيّة ، وضرب على أوتار البطولة والشجاعة والحميّة ، ثم تفرَّغ بكل طاقاته وإمكاناته ، للعدو الخارجي المتربِّص. 

ولما كرَّر اليهود مؤامرة الفرقة والشرذمة في المجتمع المدني، ونقلوها إلى داخل الصف المسلم هذه المرَّة ، بما عهد عنهم من خبث وغدر ودهاء ، كانت عيون القائد الساهرة دوماً لهم بالمرصاد كذلك، فقد روى ابن اسحاق : ( ومرَّ شاس بن قيس ( اليهودي ) ، وكان شيخاً قد عتا ، عظيم الكفر ، شديد الطعن على المسلمين ، شديد الحسد لهم ، على نفرٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من الأوس والخزرج ، في مجلس قد جمعهم يتحدَّثون فيه .

فغاظه ما رأى من أُلفتهم وجماعتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام،  بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية . فقال : قد اجتمع ملأ بني قيلة ( الأوس والخزرج) في هذه البلاد ، لا والله ، ما لنا إذا اجتمع ملؤهم فيها من قرار .! ثم أمر فتىً شابَّاً من يهود ، كان معه ، فقال : إعمد إليهم ، واجلس معهم ، ثم ذكِّرهم يوم بُعاث وما كان قبله، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار ، وكان يوم بُعاث ، يوماً اقتتلت فيه الأوس والخزرج في الجاهلية .

قال ابن اسحاق : ففعل الفتى  …) وكادت تحدث الفتنة التي أرادها اليهودي الحاقد ، لولا عناية الله ، وعيون القائد الساهرة .

قال ابن اسحاق : فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين من أصحابه حتى جاءهم فقال :

(( يا معشر المسلمين ، اللــــــهَ …اللــــــــه ..!!

أبدعوى الجاهلية ، وأنا بين أظهركم ، بعد أن هداكم الله للإسلام ، وأكرمكم به ، وقطع عنكم الجاهلية ، واستنقذكم من الكفر ، وألَّف بين قلوبكم .!؟)) فعرف القوم ، عندها ، أنها نزعة من الشيطان ، وكيدٌ من عدوِّهم ، فبكوا ، وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضاً ، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سامعين مطيعين ، وقد أطفأ الله عنهم كيد عدوِّ الله وعدوِّهم .

غضبان (226)

ج. تحييد القبائل العربية المشركة من غير قريش  :

لقد كان من براعته القيادية صلى الله عليه وسلم ، ومن صميم فقه الواقع ، وترتيب الأولويات ، في بداية العهد المدني ، وبداية تشكيل الدولة الإسلامية ، أن يغلق كل جبهات القتال غير الضرورية ، وأن يُخرج من ساحة المعركة كل القوى التي ليس لها ضرر مباشر عليه.

ولذلك فقد بادر إلى موادعة ومسالمة الكثير من القبائل العربية المحيطة بمكة أو المدينة المنورة ، كقبائل :

خُزاعة ، وبني ضُمرة ، وبني مُدلج ، وغيرهم …

وكان يهدف من وراء هذه الخطة الحكيمة ، إلى تركيز جهده القتالي على عدوه الرئيسي في مكة ، وفرض العزلة عليه ، وتهديد تجارته ، التي هي شريان حياته ، وأن لا يشتت فكره وجهوده وإمكاناته.

ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مضرب المثل في الوفاء  لمن عاهده وسالمه من تلك القبائل .

ويكفي لكي ندلل على هذه الحقيقة الرائعة ، أن نذكِّر بأن واحداً من أهم الأسباب المباشرة لفتح مكة ، إنما كان وفاء النبي الكريم صلى الله عليه وسلم لحلفائه من بني كعب ، وهي قبيلة خزاعة .

قال ابن إسحاق : فلما تظاهرت بنو بكر وقريش على خزاعة ، وأصابوا منهم ما أصابوا ، ونقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهد والميثاق ، بما استحلوا من خزاعة، وكانت قد دخلت في عقد رسول الله وعهده يوم الحديبية ، خرج عمرو بن سالم الخزاعي ، حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، فوقف عليه وهو جالس في المسجد بين ظهراني الناس، فقال : يا رب إني ناشدٌ محمّدا        حلفَ أبينا وأبيه الأتلدا

وظل يحث النبيَّ صلى الله عليه وسلم على النصرة ، إلى أن قال :

فانصر هداك الله نصراً أعتدا    وادعُ عبادَ الله يأتوا مددا …

فأجابه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قائلاً :

(( نُصرتَ يا عمرو بن سالم )) . وفي رواية :

(( لا نصرني اللهُ  ، إن لم أنصر بني كعب )) .

وكان ذلك مما هاج فتح مكة ...       هشام 2 (394)

وكذلك كان قد وادع بني ضُمرة في أول غزوة غزاها في سبيل الله بعد مقدمه المدينة المنورة .

قال ابن اسحاق يروي قصة هذه الموادعة :

خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم غازياً في سبيل الله ، يريد قريشاً وبني ضُمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة ، فوادعته بنو ضُمرة ، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يلق كيداً .

ثم وادع بني مُدلج كذلك في إحدى غزواته التي تسمى العُشَيْرة .

وهكذا فعل مع بقية القبائل المحايدة ، أوغير المحاربة له ، وغير المعتدية عليه ، كلما وجد إلى ذلك سبيلاً .

د. محاولة تفتيت الجبهة المحاربة والمعتدية نفسها :

لم يكتف النبي القائد صلى الله عليه وسلم ، بتحييد الجبهات العربية غير المعادية له ، وإخراجها من طريقه .

بل كان يحاول جاهداً تفتيت الجبهة المعادية والمحاربة له نفسها ،

عندما كان يجد ذلك ضروريأ وممكناً ، كما فعل يوم الأحزاب ، عندما فاوض غطفان ، على أن يعطيهم ثلث ثمار المدينة ، إذا رجعوا عنه ، وخلوا بينه وبين قريش .

وذلك عندما رأى أن العرب كانت قد رمت المسلمين  في المدينة عن قوس واحدة ، وغدر بهم اليهود ، واشتد عليهم الخطب ، حتى زاغت الأبصار ، وبلغت القلوب الحناجر ، كما صور القرآن الكريم نفسه .

ه. مهادنة الأعداء المحاربين أنفسهم :

لقد كانت الهدنة التي أبرمها النبي القائد صلى الله عليه وسلم ، مع أعدائه المحاربين من قريش ومن تحالف معهم ، في صلح الحديبية ،  لفتة قيادية بمنتهى الروعة والذكاء .

فقد أعطت الفرصة للجماعة المسلمة لالتقاط أنفاسها ، وتنظيم صفوفها ، بعد سلسلة طويلة من الحروب والمواجهات العسكرية المتتالية ، عبر ما يزيد على ستة أعوام ، كان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم قد قاد بنفسه فيها أكثر من عشرين غزوة ، وسيَّر قريباً من هذا العدد من البعوث والسرايا  .  

كما مكنتها من التفرغ الكامل للدعوة إلى ربها ، ونشر أفكارها ومبادئها ، في أجواء سلمية هادئة ، بعيداً عن صليل السيوف ، وأزيز السهام ، وقرع الرماح ، وصهيل الخيول .

ولذلك فقد وصف القرآن العظيم ، هذه الهدنة بأنها كانت فتحاً عظيماً، ونصرأ مؤزراً 

قال ابن اسحاق : وقفل رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعاً إلى المدينة ، حتى إذا كان في منتصف الطريق ، نزلت عليه سورة الفتح التي يقول الله فيها : (( إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ، ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، ويتم نعمته عليك ، ويهديك صراطاً مستقيماً ، وينصرك الله نصراً عزيزاً )) .الفتح (3)