دروس في فقه الجهاد والقيادة الراشدة 26

دروس في فقه الجهاد والقيادة الراشدة

تحرك جيش يزيد بن أبي سفيان (26 )

د. فوّاز القاسم / سوريا

نظر أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى معسكر المسلمين في الجرف ، على أطراف المدينة المنوّرة ، فوجده يغصّ بالمجاهدين ، وهم في أحلى هيئة ، وأبهى صورة لهم ، فعقد أول لواء في فتوح الشام ، وكان من نصيب يزيد بن أبي سفيان  رضي الله عنه ، وأمره أن يتحرك بجيشه ، وحدد له مساره على طريق التبوكية ، كما حدد له وجهته النهائية ، وهي دمشق ...

وتحرك يزيد بجيشه في الثالث والعشرين من رجب ، لسنتة اثنتي عشرة للهجرة النبوية الشريفة ، وخرج أبو بكر رضي الله عنه يودّعه ، يزيد راكب ، وأبو بكر يمشي ...!!!

فقال يزيد : يا خليفة رسول الله ، لتركبنَّ ، أو لأنزلنَّ ، فإني أكره أن أركب وأنت تمشي ...!!!

فقال الصدّيق : ( والله لا تنزل ، و والله لا أركب ، وماذا عليّ أن أغبّر قدميَّ في سبيل الله ساعة ، ولقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول : ( من اغبرّت قدماه في سبيل الله ، فقد حرّمهما الله على النار )...!!!

ثم بدأ يودّعه ، ويوصيه ، فقال : ( يا يزيد ، إنّي أوصيك بتقوى الله وطاعته ، والإيثار له ، والخوف منه .

وإذا لقيت العدوّ فأظفرك الله بهم فلا تغلُل ، ولا تمثّل ، ولا تغدر ، ولا تجبن .

ولا تقتلوا وليداً ، ولا شيخاً كبيراً ، ولا امرأةً ...

ولا تحرقوا نخلاً ، ولا تعرّفوه ( أي تقشّروه وتفسدوه ) ، ولا تقطعوا شجرة مثمرة ، ولا تعقروا بهيمة إلا لمأكلة .

وستمرّون بقوم في الصوامع يزعمون أنهم حبسوا أنفسهم لله ، فدعوهم وما حبسوا أنفسهم له .

فإذا لقيتم العدوّ من المشركين ، فادعوهم إلى الإسلام ، فإن هم أجابوكم لذلك ، فاقبلوا منهم ، وكفّوا عنهم ، وإن هم أبوا أن يدخلوا في الإسلام ، فادعوهم إلى الجزية ، فإن فعلوا ، فاقبلوا منهم ، وكفوا عنهم ، فإن هم أبوا ، فاستعينوا الله عليهم وقاتلوهم ، ولينصُرنَّ اللهُ من ينصره ، ورسله بالغيب .

يا يزيد ، إذا قدمتْ عليك رُسُلُ عدوّك ، فأنزلهم في ثروة عسكرك ، وأكرم منزلتهم ، فإنه أول خيرك إليهم .

وأقلل حبسهم في معسكرك ، حتى يخرجوا وهم جاهلون بما عندك .

وامنع أصحابك من محادثتهم ، وكن أنت الذي تلي كلامهم .

ولا تجعل سرّك مع علانيتك ، فيمزج ( يختلط ) أمرك .

وإذا استشرت ، فاصدُق الخبر ، تُصدق المشورة ، ولا تكتم المستشار ، فتُؤتى من قبل نفسك .

وإذا بلغك عن العدوّ عورةً ، فاكتمها ، حتى تعاينها .

واستر في عسكرك الأخبار .

واسمر بالليل في أصحابك تأتك الأخبار ، وتنكشف عنك الأستار .

وأكثر حرسك ، وبدّدهم في عسكرك ،  وأكثر مفاجأتهم في ليلك ونهارك بغير علم منهم ، فمن وجدته غفل عن محرسه فأحسن أدبه ، وعاقبه في غير إفراط .

ولا تغفل عن أهل عسكرك ، فتفسدهم ، ولا تجسّس عليهم ، فتفضحهم .

وأصدق اللقاء إذا لقيت العدوّ ، ولا تجبن ، فيجبن من سواك ) ...

ثم أخذ أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه بيده ، وقال : ( أستودعك الله ، وعليك سلام الله ورحمته )...

ثم التفت أبو بكر رضي الله عنه إلى الجيش ، وقال : ( صفّوا إليَّ صفّاً واحداً حتى آتيكم ) ، فمرّ على أولهم ، حتى أتى على آخرهم ، يسلّم عليهم فرداً  ، فرداً ، ويودّعهم .

ثم رفع الصدّيق يديه إلى السماء ، بهذا الدعاء : ( اللهم ، إنك خلقتنا ولم نك شيئاً ، ثمّ بعثت إلينا رسولاً ، رحمة منك لنا ، وفضلاً منك علينا ، ، فهديتنا وكنّا ضُلّالاً ، وحبّبت إلينا الإيمان وكنّا كفاراً ، وكثّرتنا وكنا قليلاً ، وجمعتنا وكنّا أشتاتاً ، وقوّيتنا  وكنّا ضعافاً ...

ثمّ فرضت علينا الجهاد ، وأمرتنا بقتال المشركين ، حتى يقولوا لا إله ، إلا الله ، أو  يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون ...

اللهم ، إنا نطلب رضاك ، ونجاهد أعداءك ...

اللهم ، فانصر عبادك المجاهدين ، على عدوّك من المشركين ...

اللهم ، افتح لهم فتحاً يسيراً ، وانصرهم نصراً عزيزاً ، واجعل لهم من لدنك سلطاناً نصيراً .

اللهم ، أشجع جبنهم ، وثبّت أقدامهم ، وزلزل عدوّهم ، وأدخل الرعب في قلوبهم ، واستأصل شأفتهم ، واقطع دابرهم ، وأبد خضراءهم ، وأورثنا أرضهم وديارهم وأموالهم .

اللهم ، كن لنا ولياً ، وبنا حفيّاً ، وأصلح لنا شأننا كلّه ، واغفر لنا يا كريم )..

ثم خاطب الجيش فقال : ( ثبّتنا الله وإياكم بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة،  إنه بالمؤمنين رؤوفٌ رحيم ) ...

وتحرك الجيش الفاتح ، ووجهته النهائية دمشق ، وطريقه التبوكية كما ذكرنا ، أنظر الخارطة ... وفي نفس اليوم الذي تحرّك فيه جيش يزيد ، كان خالد بن الوليد ، وعياض بن غنم رضي الله عنهما يفتحان دومة الجندل ، ويطهران الطريق الشمالية أمام جيوش الشام الزاحفة ...

تُرى ... فأين جنرالات الحروب ، وقادة الفيالق ، ومنظّروا الستراتيجية ، وضباط أركان الأكاديميات العسكرية ، ومدرّسوا القيم والأخلاق الإنسانية ...

ليأتوا ، ويركعوا ، أمام هؤلاء الصحابة الكرام ، والقادة العمالقة ، رضوان الله عليهم ، فيتعلّموا : فنون الستراتيجية ، ودروس الحرب ، وأخلاق الفروسية ...

والله الذي لا إله إلا هو ، لو صنع الاسكندر المقدوني ، ونابليون بونابرت ، ورومل ، ومونتجمري ، وكلاوزفتز ، وغيرهم من ضباط أوربا ، عشر هذا التاريخ المشرق ، لصنع لهم الأوربيون تماثيل من ذهب ، وحجّوا إليهم كما يحج المسلمون إلى الكعبة المشرّفة ...!!!

فهل نقتدي بهم ، ونحن أولى الناس بهم ، ونتخلّق بأخلاقهم ، ونجاهد جهادهم ، ونسير على نهجهم ، حتى يحقق الله على أيدينا تحرير الشام الحبيبة من أرجاس اليهود ، والقرامطة والحشّاشين ، وأسيادهم المجوس الصفويين ، أو نلقى الله على ذلك ...!!!؟

هذا ما نرجوه مخلصين ، ونعمل من أجله جاهدين ، والله غالب على أمره ، ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون ...