دروس في فقه الجهاد والقيادة الراشدة 25

دروس في فقه الجهاد والقيادة الراشدة

أبو بكر الصدّيق يعقد مجلس شوراه (25)

د. فوّاز القاسم / سوريا

لقد رأينا في حلقة سابقة من هذه السلسلة ، كيف أن الخليفة الراشد أبو بكر الصدّيق ( رض ) أراد أن يستثمر الزخم الجهادي المتدفّق للعرب ، والروح المعنوية العالية للمسلمين ، بعد قمع الردّة في جزيرة العرب ، وإخماد نار الفتنة فيها ، فأصدر قراره التاريخيّ الرائع  ( الفتوحات الإسلامية ) وفتح له باب التطوّع ، وبدأ بالعراق ، فأوعز إلى قائده المبدع خالد بن الوليد  (رض ) _ وكان قد فرغ لتوّه من القضاء على المرتدّين ، وعلى رأسهم مسيلمة الكذّاب في اليمامة _ أن يدخل العراق من جنوبه الشرقي، كما كتب إلى عِياض بن غنم ، وهو قائد آخر يلاحق فلول المرتدّين في منطقة الحجاز ، قرب دومة الجندل ، وأمره أن يدخل العراق من شماله الغربي ، بحيث يطبقان على غربيّ نهر الفرات بفكّي كمّاشة ، وأمرهما أن يلتقيا في الحيرة ، وأيهما سبق إليها فيكون هو الأمير ، ومنها يزحفان إلى المدائن عاصمة الفرس.!

ورأينا أيضاً كيف تحرّك الأسطورة خالد ( رض ) على رأس ثمانية عشر ألف مجاهد لتطبيق الخطة المرسومة ، فدخل العراق في شهر محرّم سنة اثنتي عشرة للهجرة ، الموافق لشهر نيسان من سنة (633 م ) مبتدئاً بثغر العراق الجنوبي ( الأُبلّة ) التي كانت أشهر ميناء على شط العرب ، والتي تبعد عن موضع البصرة الحالية ( التي لم تكن موجودة ) حوالي أربعة فراسخ ( 22 كم ).

ولم تمض إلا ثلاثة أشهر فقط ، حتى حقّق خالد أهدافه ، ووصل إلى غايته ، ودخل الحيرة فاتحاً في منتصف شهر ربيع الأول من سنة اثنتي عشرة للهجرة النبوية الشريفة ، الموافق لشهر أيار سنة 633 ميلادية ، بعد أن خاض مع الفرس عدّة معارك عسكرية مظفّرة ، حطّم فيها جيوشهم ، وأرعب جندهم ، وكسر ظهرهم ، ودوّخ قياداتهم ، وكان يسبقه صيته مسيرة شهر .

ثم أرسل خالد رضي الله عنه الغنائم وبشرى النصر إلى الخليفة الصدّيق في المدينة المنوّرة مع شرحبيل بن حسنة ، فوصل المدينة في السابع والعشرين من نفس الشهر ، ففرح الصدّيق والمسلمون في المدينة فرحاً عظيماً بهذا الإنجاز العظيم ، وجمع الصدّيق من فوره مجلس المستشارين من كبار الصحّابة ، من وجوه المهاجرين والأنصار ، وممن شهد بدراً ، وقال لهم بعد أن حمد الله تعالى ، وصلى على نبيّه صلى الله عليه وسلّم :

( إن الله تعالى لا تُحصى نعمه عليكم ، فله الحمد كثيراً على ما اصطنع لكم ، فجمع كلمتكم ، وأصلح ذات بينكم ، وهداكم إلى الإسلام ، ونفى عنكم الشيطان ، فليس يطمع في أن تشركوا بالله ، وتتخذوا معه إلهاً غيره ، والعرب اليوم أمّة واحدة ، وقد أردت أن أستنفركم للروم في الشام ، ليؤيد الله المسلمين ، ويجعل كلمته هي العليا ، فمن هلك ، هلك شهيداً ، وما عند الله خيرٌ للأبرار ، ومن عاش ، عاش مدافعاً عن الدين ، مستوجباً من الله عزّ وجلّ ثواب المجاهدين ...

هذا رأيِ الذي رأيت ، فليشر عليّ كل امرئ بمبلغ رأيه )

فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فقال : ( الحمد لله الذي يخصّ بالخير من يشاء من خلقه ، واللهِ ما استبقنا إلى شيء من الخير ، إلا سبقتنا إليه ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم ...

والله لقد أردتُ لقاءك لهذا الرأي الذي ذكرت ، فما قضى الله أن يكون ذلك حتى ذكرته الآن ، فقد أصبت ، أصاب الله بك سُبُل الرشاد ، فسرّب إليهم الخيل في إثر الخيل ، وابعث إليهم الرجال تتبعها الرجال ، والجنود تتلوها الجنود ، فإن الله عزّ وجلّ ناصر دينه ، ومعزّ الإسلام وأهله ، ومنجزٌ ما وعد رسوله )

فسُرّ الصدّيق لكلام عمر رضي الله عنهما سروراً عظيماً ، ودعا له بخير ...

ولكنه أراد أن يسمع المزيد من الآراء ، فأردف قائلاً : ( ماذا ترون ، رحمكم الله .!؟ ).

فقام عثمان بن عفان رضي الله عنه ، فحمد الله ، وأثنى عليه ، وصلى على رسوله ، وقال : ( أنا أرى أنك ناصح لأهل هذا الدين ، عليهم شفيق ، فإذا رأيت رأياً فيه خيرهم ورشدهم وصلاحهم ، فاعزم على إمضائه غير ظنين (أي لست عندنا موضع شك واتهام وسوء ظن ) ولا متّهم ) ...

فقام طلحة والزبير وسعد وأبو عبيدة وسعيد بن زيد وغيرهم من الحاضرين فقالوا : ( صدق عثمان فيما قال ، ما رأيتَ من رأيٍ فأمضه ، فإننا سامعون مطيعون لك ، لا نخالف أمرك ، ولا نتهم رأيك ، ولا نتخلّف عن دعوتك ) ...

ففرح الصدّيق لكلامهم الرائع هذا فرحاً عظيماً ، ودعا لهم بخير ...

ولكنه نظر فرأي علياً صامتاً ، فقال : (ما ترى يا أبا الحسن .!؟ )

فقال عليّ رضي الله عنه : (أرى أنك مبارك الأمر ، ميمون النقيبة ، وأنك إن سرت إليهم بنفسك ، أو بعثت أحداً غيرك ، فإنك منصور بإذن الله )

فصاح أبو بكر بأعلى صوته : (الله أكبر ، بشّرك الله بالخير ، فمن أين عرفت هذا يا أبا الحسن .!؟ )

فقال عليّ كرّم الله وجهه : (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول : لا يزال هذا الدين ظاهراً على كلّ من ناوأه ، حتى يقوم الدين وأهله ظاهرين ).

فقال أبو بكر رضي الله عنه : (سبحان الله ، ما أحسن هذا الحديث ، لقد سررتني ، سرّك الله في الدنيا والآخرة )...!!!

وانتهى مجلس الشورى ، وخرج الصدّيق من فوره فجمع الناس في المسجد  وقام فيهم خطيباً فقال بعد أن حمد الله ، وصلى على رسوله صلى الله عليه وسلّم : ( أيها الناس ، إن الله قد أنعم عليكم بالإسلام ، وأعزّكم بالجهاد ، وفضّلكم بهذا الدين على أهل كل دين ، فتجهّزوا عباد الله لغزو الروم بالشام ، فإنّي مؤمّر عليكم أمراء ، وعاقد لهم ألوية ، فأطيعوا ربّكم ، ولا تخالفوا أمراءكم ، ولتحسن نيّتكم وسيرتكم ، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون )

ثمّ أرسل الصدّيق يستنفر العرب في أرجاء الجزيرة العربية ، فزحفت إليه جموع المؤمنين بالآلاف ، وعسكروا في معسكر الجرف على أطراف المدينة المنوّرة ، منتظرين إذن الخليفة لهم بالتحرّك ....!!!

يا للعظمة ...!!! و يا للروعة ...!!! و يا لألق التاريخ ...!!!

قد يظنّ ظان بأن إيراد هذه النصوص هو حشو زائد عن حاجة البحث ، ونحن نتحدث عن معارك حربية ... ولا والله ، ما هو بحشو ، ولا هو زائد عن حاجة البحث ، بل هو روح البحث ، وجوهره ...

وهو مفتاح ذلك السرّ العظيم ، لذلك التحول الكوني الهائل ، الذي أحدثه أولئك الصحابة العمالقة رضوان الله عليهم ، الذين رشّدوا بجهادهم العصر ، وعدّلوا بأخلاقهم مسار التاريخ ، وغيّروا بتضحياتهم خارطة العالم ، فمسحوا دولة الفرس من الوجود ، وأزاحوا حدود دولة بيزنطة إلى الشمال والغرب آلاف الكيلومترات ، كل ذلك في أقل من ربع قرن ، وهو عمل جبّار بكل المقاييس ، ويعجز غيرهم عن إنجازه في دهور وقرون ...

فرضي الله عنهم وأرضاهم ، وجزاهم عنّا وعن أمتهم خير الجزاء ، ورزقنا الله التأسي بهم ، والتخلّق بأخلاقهم ، والسير على نهجهم ، والجهاد على طريقهم ، حتى نحرر شامنا الحبيبة من أرجاس اليهود والقرامطة والمجوس الصفويين ...

(( ويقولون متى هو .. قل عسى أن يكون قريباً )) صدق الله العظيم.