الإسراء والمعراج: رمز ومفهوم!

ياسين السعدي

في سورة الإسراء، افتتح الله سبحانه وتعالى هذه السورة المباركة بقوله تعالى: (((سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله، لنُريه من آياتنا، إنه هو السميع البصير))). وفي هذه الآية نصٌ واضح وصريح إلى مكانة القدس وما حولها من الديار المقدسة.

في كل عام تطل علينا هذه المناسبة المباركة، فتتبارى فيها الأقلام، وتُكتب المقالات، وتُنشأ الخُطب، وتُقام الاحتفالات، ثم ينتهي كل شـيء بعد إلقاء آخر خطيب كلمتـه، ويُطوى الموضوع إلى العام الذي يليـه، وهكذا دواليك.

لا أعرف بالضبط متى بدأ المسلمون احتفالات الإسراء والمعراج. لكن المؤكد أنها لم تكن احتفالاتٍ وأعياداً أيام الخلفاء الراشدين، والصحابة والتابعين؛ بل كانت مناسـبـة عِبرة وتبصر، وذكرى تكريم الرسـول الكريم، صلى الله عليـه وسـلم، من الله جل جلالـه.

ففي العام الحادي عشر للبعثة المحمدية، شاء الله تكريم نبيه ورفع شأنه، فطلبه إلى رحابه؛ حيث أرسل إليه البُراق؛ سفينة الفضاء الربانية، يقودها جبريل عليه السلام.

وفي القدس كان بدء الاحتفال: هناك استقبله الرُسُل، موفدين من رب العزة الإلهية، وبهم صلى سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم، إماماً. هناك في القدس، كانت المحطة الأولى في الرحلة، ومنها كان المعراج إلى السماء؛ حيث كانت حفلة التكريم لمحمد، صلى الله عليه وسلم.

هناك التقى الرسول إخوانه الأنبياء والرسل، وتعرف عليهم. وهناك التقى ربه، وقارب سِدرة المنتهى؛ حيث تفيأ ظلال العرش، وهو تتلى عليه تعاليم الله، وعاد يحمل للمسلمين هدية الرحمن؛ ألا وهي الصلاة، التي هي عمود الدين، والتي هي الصلة المباشرة بين المسلم وربه.

عاد محمد، صلى الله عليه وسلم، من رحلته يقص على أصحابه ما رأى، ويُحدثهم عن الرحلة ودقائقها: عن هدية السماء إلى الأرض، فقام الخرّاصون من حوله يتهكمون، وقام المرجفون يبثون التشكيك والتكذيب في كل مجلس. وفي الجانب المقابل، قام الذين أنار الله قلوبهم بهدي النبوة، وفتح بصائرهم على نور الحكمة؛ قاموا يُنافحون عن الرسول، صلى الله عليه وسلم، ويَصْدقونه الوعد بنصرته. فقد كان أبو بكر يقول: صدقت يا رسول الله، والرسول يصف رحلته المباركة وعودته المظفرة.

المشككون الحاقدون على الإسلام، والمرجفون المارقون، يحاولون خلخلة العقيدة عن طريق طرح علامات استفهام خبيثة حول الإسراء والمعراج. لكن الإسلام الذي يزيده العلم تألقاً في القلوب، وتكسبه المعرفة ترسيخاً في النفوس، يدحر الزنادقة والملحدين.

إن رحلة البُراق هي برنامج رباني يفوق ما نراه اليوم من البرامج العلمية لغزو الفضاء بمراحل ومراحل! برامج غزو الفضاء، للوصول إلى كواكب وأقمار بعيدة عنا يقبلونها؛ لأنهم يلمسون أثر ذلك، أما المعراج، فهو عندهم من باب الخرافة!

اليوم أطلق العلم الأقمار الصناعية والسفن الفضائية تدور حول الأرض، تجوب آفاق الفضاء لسبر أغوار المعرفة الإنسانية المحدودة، والتي ستظل محدودة، مهما علا شأنها قياساً؛ على الذي (((علَّم الإنسان ما لم يعلم))).

لقد كانت رحلـة الإسـراء والمعراج بمثابـة الخط الواصل بين الأرض والسـماء. وقد قام بتدشـين هذا الخط، رسـولنا الكريم، وحبيب رب العالمين، وأفهمنا أن اسـتعمال هذا الخط هو للذين يسـيرون على نهجـه الكريم، ويتفانون في محبـة القدس.

إن رحلـة الإسـراء والمعراج، هي رمز للعلاقـة الأزليـة، والرابطـة الأبديـة بين القدس وهذا الدين؛ بين القدس وقلوب المسـلمين في كل بقاع الأرض. إنها مفهوم من الله ورسـولـه إلى المسـلمين؛ أنَّ القدس هي عروس إسـلامكم، وليست (عروس عروبتكم) فقط، كما يقول الشاعر المعاصر، مظفر النُّواب.

القدس هي محطـة محمد، صلى الله عليـه وسـلم، في معراجـه إلى السـماء. وفي هذا مفهوم للمسـلمين؛ في كل العصور؛ أنَّ القدس هي (المحطـة الأرضيـة) التي اختارها الله، ليكون منها منطلق الرسـول إلى لقاء ربـه، وفي هذا تكريم للقدس، وأي تكريم! وعلى هذا الأسـاس يفهم المسـلمون مكانـة القدس. فهم ينظرون إليها على أنها أخت مكـة وتوأم المدينـة، ولذلك فإن لها في نفوسـهم مكانـة مميزة.

حدثني صديق ذو ميسرة، منّ الله عليه بأداء فريضة الحج، أنه التقى هناك حاجاً باكستانياً فقيراً. وعندما تم التعارف، وأيقن الباكستاني أن محدثه من فلسطين، أخذ يُقبله ويتمسح به وهو يبكي، ويُردد متسائلاً بلهفة: من القدس!؟ من القدس!؟ وأخرج من جيبه ريالاً يريد أن يتقرب به إلى الله بتقديم الصدقة إلى من يُجاورون الأقصى، وأبى إلاّ أن يُعطيه الريال؛ رغم كل محاولات إفهامه أنه ميسور الحال.

وحدثني طبيب قريب لي كان يدرس في تركيا؛ بأنه سكن مع عائلة تركية كانت تنظر إليه نظرة الاحترام والتبجيل؛ لأنه من فلسطين، لأن فلسـطين عندهم هي القدس.

هذا هو المفهوم الفطري الذي فهمـه المسـلمون؛ وهو ليـس المفهوم الذي يفهمـه الحُكام والرؤسـاء. إنـه الرابطـة الأبديـة بين هذا الدين والقدس، وإن المسـجد الأقصى ليـس الحجارة المبنيـة منها أركانـه، وإن الصخرة المشـرفـة، ليسـت القبـة المذهبـة، والبناء الرائع الهندسـة والزخرفـة. إن القدس هي المكانـة الروحيـة عند المسـلم، والتي يتجلى معناها في أجلى صوره في هذه المناسـبة المباركـة.

-- -------------------------

ملاحظة 1 ـــــ أُلقيت بعد صلاة المغرب في احتفال بمناسبة الإسراء والمعراج في مسجد جنين الكبير يوم الأربعاء بتاريخ 25\03\1987م، الموافق 25 رجب 1407هـ.

ملاحظة 2 ـــــ نُشرت في جريدة القدس العدد 6315 بتاريخ 27\03\1987م الموافق 27 رجب 1407هـ.

ملاحظة 3 ـــــ استُدعيت لمقابلة ضابط التربية والتعليم، أسعد عرايدي، على أثرها؛ يوم الخميس بتاريخ 02\04\1987م، وقد حذّرني بأني موظف، ولا يُسمح لي بالاتصال مع وسائل الإعلام بدون إذن رسمي. ولذلك كتبت تحت اسم "واصف الشيباني" بعد ذلك.

ملاحظة 4 ـــــ يؤلمني جداً أنه بعد نشر النقال تم أخذ الفكرة من قِبل كثير من الكُتاب وحتى خطباء المساجد دون الإشارة إلى صاحب الفكرة أو التطرق إلى مصدرها.