الدعاء وأثره في تحقق النصر

هائل سعيد الصرمي

[email protected]

الدعاء واليقين به من أعظم أسباب النصر  

إن الدعاء إذا لم يصحبه اليقين ،  يفقد أخصّ مقوماته ومحتواه .وقد لا يجاب صاحبه . لكن الدعاء المصحوب باليقين تكون الإجابة فيه متحققة بإذن الله ، وقد بين لنا المصطفى e أن ندعو الله ونحن موقنون بالإجابة ؛ ذلك أن اليقين بالإجابة لا يكون إلا من مسلم عرف الله  - عز وجل - وعرف صفاته و أسماءه ، فوحّده التوحيد الكامل في قلبه ، فإن الإجابة مقدّرة بوقتٍ يجيب الله العبد فيه ؛ لأنه المجيب .ولذلك قال الشاعر ناصحاً الذي لا يصحيه اليقين في الدعاء بسب استعجاله للإجابة :

أتهزأ بالدعاء وتزدريه 
سهام الليل لا تخطىء ولكن 

 

وما تدري بما فعل الدعاء 
لها أمد وللأمد انقضاءُ

إن الداعي المؤمن يعلم علم اليقين أن الدعاء فضل من الخالق امتن به عليه ؛ حتى يحقق له الإجابة  ، فهو منحة من الله يمنحها العبد ابتداءً ؛كي تبنى النتائج به .

      فالدعاء من أقوى الأسباب التي يجعل الله النتائج بموجبها محققة ، وما من نبي إلا دعا على قومه فهلكوا ، أو دعا لهم ؛ فانتصروا ،  فكانت النتائج تبعاً للدعاء .

ثقْ بالدُّعاءِ فإنَّه لكَ نِعمةٌ     تنجُو به من فتنةِ الشَّيطان

ثقْ بالإجابةِ واستقمْ في شرعه     إن اليقينَ يزيدُ بالإيمانِ

          فالخالق جلت قدرته قد قدر الدعاء ، وقدر النتائج من قبل أن يخلق الخلائق ، وفي الحالات الشاذة والنادرة التي لا تتحقق بها النتائج ينتفع الداعي بدعائه ، ولا يخيب ، ولو بعد حين ، وكان عمر بن الخطاب يقول : إني لا  أحمل همّ الإجابة ، ولكن أحمل هم الدعاء فمن وفق للدعاء ؛ فالإجابة تبعاً لذلك متحققة دون شك ، بإذن الله. إلا فيما ندر كأن تتأخر الإجابة . لقوله عليه الصلاة والسلام (مامن داع إلا وهو بين إحدى ثلاث إما أن يعجل طلبه أو يدخر له ثوابها وأما أن يصرف عنه من السوء مثلها) رواه البهيقي في الشعب

     كما أن للدعاء سنناً : إن إبراهيم u لما أراد أن يدعو بالرزق لأهل مكة ، ويحصره على المؤمنين فحسب ، قال له الله - عز وجل-  (ومن كفر) ،  إن الله يتم للمؤمن نقصه ليوافق سنة الله .. إن الدعاء بالرزق شمل المؤمن والكافر ؛ فقد استوجبت الإجابة من الله،  وتحققت للبار والفاجر ، قال تعالى على لسان إبراهيم : ] وإذ قال إبراهئم رب اجعل هذا بلدا آمناً وارزق أهله ، من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلاً ثم أضطره إلى عذاب أليم [(126)البقرة . إن الدعاء مجاب مالم يكن فيه حرام أو قطيعة رحم  . هذا الخليل إبراهيم عليه السلام لما سأل الله الصلاح لذريته كلها الصالح وغيره : قال له الله ] لا ينال عهدي الظالمين [ البقرة ( 124) أجابه الله وفقاً للسنة ، وكذلك عندما اسغفر الله لأبيه المشرك لم يجبه ؛ لأن أباه مشرك  وفقاً للسنة ومن هنا جاءت حكمة ابن عطاء .

لا يكن تأخر الإجابة سبب لليأس منها فالله ضمن الإجابة فيما يختار لك لا فيما تختاره لنفسك.وعد المؤمن بالإجابة في الوقت الذي يريده الله ، لا في الوقت الذي يريده العبد . فمن الدعاء ما يُجاب بعد أربعين عاما وأكثر.

 لقد دعا إبراهبم عليه السلام بأن يبعث الله نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ليعلم الأمة الحكمة فأجاب الله دعاءه بعد قرون ، قال تعالى ] ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم[ البقرة(129) ، فالله يُجيب كما يشاء هو ، لا كما تشاء أنت ،  فليست أقداره على مزاجك ورغبتك ، فقد ضمن الله لك الإجابة في هذا الإطار كما يشاء ،  وفي الوقت الذي يشاء،    أحياناً يدخر لك الإجابة إلى يوم القيامة ، وقد يدفع عنك مكروهاً كان نازلاً بك ، 
وقد يجيبك كما تشاء ، وهذا الغالب . فثق بربك وأدعُ وأنت موقن بالإجابة.

إن الدعاء لـه مدىً في لوحه الـ ــمسطور قَبْلَ تكَوُّر الأكوانِ

واللهُ ليسَ على هَواكَ  لأنَّـهُ      يَختصُّ من يدعوهُ بالرِّضوانِ

فمتى يشاءُ وكيف شاءَ بحولِـه    سيجيبُ بعـدَ تطاولِ الأزمانِ

أو يدفعُ الباري بهِ عنكَ  الأذى   أو رُبَّمــَا تلقـاهُ في الميزانِ

لا تعجلنَّ بنيل ما تَدعُـــو به   فتبوءَ بالحرمانِ والعِصــيان

ستُجَابُ قَطْعاً لا تَشُكَّ  بوعـدِهِ        ِفهو المجيبُ على مدى الأزمــانِ

ثقتك بتحقق الوعد ، وإن حل زمن الموعود إشراق من نور بصيرتك

إن استمرار الإيمان بتحقق الموعود رغم عدم تحققه في الزمن الذي ينبغي فيه أن يتحقق،  لهو أعظم دليل على عمق الإيمان ، ومتانته ، ودليل على المعرفة العميقة بالله خالق السماوات والأرض الذي لا يخلف الميعاد ، وهو دليلٌُ على الثقة وحُسن الظن بالله أيضا، يتبين ذلك من خلال إدراكنا للسُنن والنواميس,  هذا مضمون الحكمة السابعة التي تقول:

« لا يشكّكنّك في الوعد عدم وقوع الموعود ، وإن تعين زمنه ؛ لئلا يكون ذلك قدحاً في بصيرتك ، أو إخماداً لنور سريرتك »

     كيف يمكننا أن نستمر بإيماننا بما وُعدنا به وقد حان زمان الموعود ولم يتحقق ؟

     والجواب بالبديهة أننا نقر بضعفنا ، وعجزنا عن إدراك الحقائق  ، والحكمة الإلهية في أرادته من قضائه وأقداره وتصريفه لشؤن خلقه ، فما أوتينا من العلم إلا القليل ، ينبغي أن تستمر عقيدة المؤمن بأن الموعود سيتحقق لا محالة ، ما دام لدينا بيان من الكتاب والسنة ووعد من الله ورسوله، علينا أن نوقن بأن الموعود سيتحقق ولكن الله أخَّرهُ لحكمة يعلمها هو ، فهو مطلق المشيئة ، يفعل ما يشاء ؛ ليبتلي المؤمنين ويمحص إيمانهم.

 لنـتأمل صلح الحديبية ، وموقف الصحابة منه   إنّ محمداً e أخبر الصحابة أنه سيزور البيت مع أصحابه معتمرين - ورؤيا الأنبياء وحي تأتي كفلق الصبح – فَـتَوَجَّهَ النبي والصحابة قاصدين البيت الحرام ؛ لأداء العمرة ، وليس معهم إلا السيوف في أغمادها - والقصة مشهورة في كُتب السِّير- والشاهد : أنه لم تتم العمرة في ذلك العام ، وتم الصلح بين رسول الله e ، وقريش ، كانت الشروط مجحفة - في نظر الصحابة حينها - والذي جعلهم مذهولين ؛ هو نقضها موعوداً في نظرهم - وهو العمرة - ، فكان لسان حالهم ، ومقالهم : لِمَ لَم يتحقق موعود رسول الله صلى الله عليه وسلم بدخولنا مكة معتمرين ؟ وتمثل هذا في موقف عمر بن الخطاب t وهو يخاطب أبا بكر t : أوليس رسول الله ؟ أو لسنا على الحق ؟ فلِم نعط الدنيّة في ديننا ؟َّ!.

     وتمثل في تأخر تنفيذ الصحابة لأمر الرسول e بالتحلل حلقا ، أو تقصيراً ، حتى دخل الرسول e على زوجته وهو يقول لها : « هلك القوم » - أي أنهم لم يمتثلوا أمره -  فقالت له : « هوّن عليك يا رسول الله : اخرج أنت أوّلا وتحلّل وستجدهم يتبعونك» فتحلل الرسول e ، وتبعه الصحابة - رضوان الله عليهم - وتحللوا ، وعادوا إلى المدينة ، ثم لما سئل الرسول e : ألم تخبرنا أننا سنـزور البيت الحرام معتمرين ؟ فكان رد القائد الرباني العارف بربه المدرك لسننه : « وهل أخبرتكم أننا نعتمر في هذا العام » وتمت العمرة فعلاً في العام القادم ، وتحقق صدق الموعود في الوقت الذي شاء الله وأراد ، لا في الوقت الذي أرادوه ، وهذا الابتلاء الذي مُحِّص فيه الصحابة ، وازدادوا به إيماناً من خلال تربية الله لهم ؛ لتزداد ثقتهم بربهم ، ولا يعني هذا عدم تصديقهم وثقتهم بصدق الموعود ، ولكنه استرجاع ظهر فيه تعجبهم ، وحيرتهم ، ثم توالت المعاني الإيمانية لديهم ، فحدث الثبات ،والتصديق ، واليقين بتصديق الوعد ، فالإيمان بصدق تحقق الموعود - وإن تعين زمنه لدى المسلم - من أوثق عرى الإيمان .

هذه أمّ موسى أمرها الله بأن تلقي ابنها الصغير الوليد موسى في اليم ، ووعدها بإعادته إليها ، يقول - عز شأنه - ] إنا رادّوه إليك وجاعلوه من المرسلين [ سورة القصص (7)  فألقَته في اليم ؛ لكي ينجو من بطش فرعون ، مؤمنة بعودته إليها كما وعدها الله ؛ ولكن شاء الله ابتلاء أمّ موسى ليزداد إيمانها ، فسار الصندوق ، ووقع في يد جواري زوجة فرعون ، ثم في يد فرعون ، كيف يكون حال أم موسى أمام هذا الابتلاء ؟ إن الذي كانت تخافه قد وقع ، وكيف سيعود ابنها إليها ولم ينجُ طفل وقع في يد فرعون ؟ ابتلاء عظيم ، حيث لا يوجد سبب ظاهر يمكن الاعتماد عليه لنجاة ابنها أمام هذا الموقف الرهيب الذي يفرغ الإيمان من قلب أمّ موسى معه بإمكانية عودة إبنها إليها ؛ لكن العناية الإلهية سرعان ما تتدارك المؤمنين أمام الابتلاءات والمحن ؛ ليثبت إيمانهم ، فربط الله على قلبها لتكون من المؤمنين ، أي قذف في قلبها الإيمان بعودته إليها رغم وقوعه في يد فرعون ؛ لأن الله لا يخلف وعده، فالله قادرٌُ على كل شيء.قال تعالى : ] وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين [ القصص(10).

   وحقق لها الله ما وعدها به ، أولاً بإبقائه حياً قال تعالى : ] وقالت امرأة فرعون قرت عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً وهم لا يشعرون [  القصص (9) ثم رده إليها ، قال تعالى :] فرددنه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن  ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون .. [ سورة القصص (13)  .

      وفي غزوة الأحزاب عندما شاهد المؤمنون الخطر محيطاً بهم ازدادوا إيماناً ، أما الضعفاء فقد تفلَّت الإيمان منهم بقولهم : أين وعود محمد وربه ، لن تتحقق ، وسيهلكون في هذه الغزوة . أما الطليعة المؤمنة فلم تزدهم هذه المواقف إلا ثباتاً وإيماناً ، فهذا رسول الله يبشرهم بمفاتيح كسرى ،وملك قيصر في أشد الظروف ، فكانوا واثقين بوعده ، ونصره ؛ لأنهم يقرؤون قوله تعالى:] إنّ الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور [ سورة الحج (38) .   ويصوِّر الله ذلك البلاء بقوله : ] إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا   هنالك ابتلي  المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً[ سورة الأحزاب ( 10 – 11) . ويصور ثباتهم بقوله ] الذين قال لهم الناس إنَّ الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل[ سورة آل عمران (173) والمواقف والشواهد أكثر من أن تحصى ، فعلينا بتصديق  الموعود ، مهما أوحت الظروف بخلاف ذلك ، ومن لم يؤمن بهذا فمعرفته ضعيفة ، وبصيرته كليلة . 

كل الرجاءِ بإذنه متحققٌ
حاشاه ربي أن يقنط  مهجةً
من ذا الذي يرجو وخاب رجاؤه
إن الذي يدعو ويرجو دائماَ
أفضاله ُ تترى على كل الورى 
ولذا يلوذ المذنبون ببابه 
أنت الرحيم وباب عفوك لم يزل 
ولئن شكرت فمنهٌ شكري منهَ 
سبحان معطي الفضل مانح شكره 
فله جزيل الشكر بل حمداَ على
ثم الصلاة على النبي محمد 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

من ذا رجاه وعاد بالحرمانِ
تدعوه في الإسرار والإعلانِ
ما خاب من يرجو من الديانِ
يأتيه ما يرجو من المنانِ 
البرُّ منهم والمسي سيانِ 
حتى وإن فروا من الميدانِ 
للمذنبين النور في الوجدان 
ليزيدني فضلا بما أعطاني 
هذا لعمري منه فضل ثانِ 
شكري لـه حمداَ مدى الأزمان
ما دارت الذرات في الأكوانِ[1] 

               

[1] زنبق الروح  مرجع سابق