نجوى أهل القلوب

د. عبد المجيد البيانوني

قال الإمام الرفاعي رحمه الله تعالى: 

أي بني ، اعلم أن أهل المعرفة يبكون إذا ضحك أهل الغفلة ، ويحزنون إذا فرح أهل الغِرَّة ، قال الله تعالى : {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ، وقوله : {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ } ، وأن الله تعالى ذكر من دلائل المعرفة ومن علامات العارفين كثرة البكاء وسيل الدموع ، قال : {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ} ، وذم أهل الغفلة بالضحك وترك البكاء في قوله : {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ ) . 

واعلم أنّ البكاءَ بكاءُ العين ، وبكاءُ القلب ، وبكاء السرّ . 

فأمّا بكاءُ العين فهو لأهل المعرفة من المنيبين ، وأمّا بكاء القلب فهو لأهل المعرفة من المريدين ، وأمّا بكاء السر فهو لأهل المعرفة من المحبّين .

واعلم أنّ لأهل المعرفة هموماً مخبوءة تحت أسرارهم ، مستورة عن أفكارهم ، فكلّما هاج من أسرارهم رياح خشية الهيبة ، ومن قلوبهم لهب نيران الأحزان ، أحرقت ما عليها من هشيم الغفلة والنسيان. 

قال الإمام الروّاس :

وَتَمَلْمَلُوا لَيْلًا عَلَى مِحْرَابِهِمْ * * *   بِمَدَامِعٍ كَسَوَاجِمِ الْأَمْطَارِ

فَكَأَنَّمَا نَوْحُ الْحَمَامِ زَجِيلُهُمْ * * *   جُنْحَ الْدُّجَى بِعَجَائِبِ الْأَذْكَارِ

يَبْكُونَ قَدْ رَقَّ الْجَمَادُ لِحَالِهِمْ * * *   خَوْفَ الْمُهَيْمِنِ لا لِخَوْفِ الْنَّارِ

وقال :

يتَمَلْمَلونَ توَجُّعًا وتَفَجُّعًا * * *   وتَخَشُّعًا وتَخَضُّعًا والدَّمعُ دَمْ

يَبْكونَ حتَّى أن يمَلَّهُمُ البُكا * * *   والحِلُّ يعذُرُهُمْ لذلكَ والحَرَمْ

تَشْتاطُ بالحزنِ المُلحِّ قُلوبُهُمْ * * *   ويَحُفُّ أرجُلَهُمْ بموقِفِها الوَرَمْ

وإذا النَّهارُ بَدا ثَوَوْا فكأنَّما * * *   لا الحربُ صارَ ولا أَخو الجُبْنِ انْهَزَمْ 

وسوم: العدد 705