مَكَّة المُكرَّمة مَدِينَةُ عِبَادَةٍ

د. حامد بن أحمد الرفاعي

في عام 2002م زارني في جدة المستر(Toms Fare) رئيس لجنة الأديان في وزارة الخارجية الأمريكية على رأس وفد رفيع المستوى..للتحاور حول بعض المسائل الدينية..ومنها سؤاله:"لِمَاذَا المَمْلَكَةُ العَرَبِيَّةُ السُعُودِيَّةُ تَمْنَعُ غَيْرَ المُسْلِمين مِنْ دُخُولِ مَكَة ..؟"فقلت:بداية لا بد من التأكيد أن مسائل التحريم والتحليل عند المسلمين تقررها نصوص من القرآن والسنة..وليست بحال قرارات سياسية..وشأنُ القيادةِ السعوديَّةِ تِجاه هذه المسائلِ الدِينيَّةِ شأنُ كُلِّ مُسْلمٍ..لا تَمْلِكُ إلا الالتزام والتنفيذ..والمبرراتُ الدينيَّةِ لِهذا المَنعِ هي:

مكة المكرمة مكان عبادة..لا يقصدها المسلمون من غير أهلها إلا للعبادة..أو لمهام تتعلق بالعبادة. لولا عِلَّة العبادة لوجود الكعبة بيت الله الحرام فيها،ولولا دعوة الله ـ جلّ شأنه ـ المسلمين للحج إليها..لَمَا طَمِع أحدٌ بِسكنى مَكَةَ أو زيارتِها،وَلَمَا قامت ولَمَا كان لِها وجودٌ،لأن المكان بكل المعايير لا يمتلك مقومات الحياة..فهو وادي قاحل تطوِّقه الجبال العالية الجرداء الموحشة من كُلِّ مكان. قُدسيَّةُ مكة المكرمة مُستمدةٌ من قُدسيَّةِ الكعبةِ البيتِ الحرامِ بَيتُ اللهِ تعَالَى في الأرضِ. فمبرِّرُ وجود مكة كان دينياً،وتطوُّرها عبر الزمان كان لحاجات دينية،وزيارتها والسكن فيها هو لأسباب دينية خالصة..وهاهي ماضية لتكون من أجمل وأقدس مدن العالم لمكانتها الدينيَّة. ولِعظمة هذا المكان وقدسيَّتِه الدينيَّة،فقد اختصه الله تعالى بآداب وأحكام محدَّدة..ورسم له حدوداً جغرافية دينيَّة..لكلِّ حدٍ أحكامه الشرعية..وهذا ما يمـكن تسميته بالإنجليزية (Georeligious Law) أي الأحكام الجغرافيَّة الدينيَّة على كل مسلم أن يلتزمها بدقة..وأيُّ انتهاكٍ لها يقابله عقوبات دينية ومادَّيةٍ محددةٍ.  والحدود الجغرافية الدينيَّة لمكة المكرمة هي:(حدود المسجد الحرام،الحدود المحليَّة للحرم،الحدود الدوليَّة للحرم)وبهذا تكون مدينة مكة بأي حال تكون عليها،والمسجد الحرام في أي حال يكون عليه،والمساحة الكبرى للحرم دون الحدود المحلية المحددة وحدة جغرافية متكاملة..وهي كل واحد في قداستها لا تتتجزأ..وأهل مكة هم من سكنَ ويسكنُ هذه المساحة الجغرافية الكبرى للحرم بأي شكل كان وبأي حال سيكون. كل مسلم يرغب زيارة مكة عليه أن يعرف حدود المنطقة التي سينطلق منها لأداء هذه الزيارة..ليعرف الأحكام الدينية المطلوب التزامها لتكون زيارته صحيحة..فلو كان مثلاً يعيش في دائرة ما وراء الحدود الدوليَّة..فعليه إذا وصل إلى الحد المحدد لتلك الجهة فعليه أن يقوم بالأعمال التالية:(يتجرد من ملابسه،يغتسل ويقص أظافره ويزيل الشعر من مواضع محددة من بدنه،يلبس لباس الإحرام المعروف،يصلي ركعتين،يعلن قصده من الزيارة أهي للعمرة أم للحج ؟،يبدأ بالتلبية ونصها:(لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ،لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ،إِنَّ الْحَمْدَ،وَالنِّعْمَةَ،لَكَ وَالْمُلْكَ،لاَ شَرِيكَ لَكَ).وبهذه الشروط تكون مكة المكرمة ليست مدينة مفتوحة (لأول مرة)على الإطلاق لدخول لمسلم نفسه،فمن باب أولى ألاّ تكون مفتوحةً لغير المسلم،فمن أراد دخولها فلابد أن يلتزم شروط وآداب الدخول إليها. فقال المستر تومس:لو قمت شخصياً بامتثال وتنفيذ هذه الشروط هل بإمكاني دخول مكة ؟قلت له:بكل تأكيد ولن يستطيع أحد أن يمنعك من دخولها..فنحن المسلمين لسنا مكلفين بتقصى حقيقة النوايا والدوافع..نحن مأمورون بالتعامل في قضية الإيمان مع ما يعلنه الإنسان بلسانه ويعمل به..أما حقيقة سريرته فأمر موكول إلى الله تعالى..قال المستر تومس:لقد بدأت أتفهم حقيقة موقفكم من منع غير المسلم من دخول مكة..إنه موقفٌ مبرَّرٌ دينيَّاً ومقنعٌ.

وسوم: العدد 716