الأساس الذي أقام عليه الإسلام شعائره التعبدية من خلال تفيؤ ظل من ظلال الشهيد سيد قطب رحمه الله

وأنا أتجول بين ظلال الشهيد سيد قطب رحمه الله تفيأت ظلا من ظلاله وقف فيه عند حدث تغيير المسلمين قبلتهم بأمر إلهي من رب العزة جل جلاله ، وهو حدث وسم الأمة الإسلامية بوسم ميزها عن غيرها من الأمم التي استحفظها الله عز وجل رسالاته ولم تحفظها ، فاستحفظ الأمة الإسلامية رسالته الخاتمة المصدقة لما بين يديها من الرسالات والمهيمنة عليها والتي بلغت بالبشرية كمال السمو والرقي الإنساني . ولقد وجدت في هذا الظل الوارف  لطيفة من اللطائف أسوقها بتعبير الشهيد وهي كالآتي :

" إن في النفس البشرية ميلا فطريا ـ ناشئا من تكوين الإنسان ذاته من جسد وروح مغيب ـ إلى اتخاذ أشكال ظاهرة للتعبير عن المشاعر النفسية المضمرة . فهذه المشاعر المضمرة لا تهدأ أو لا تستقر حتى تتخذ لها شكلا ظاهرا تدركه الحواس ، وبذلك يتم التعبير عنها . يتم الحس كما تم في النفس ، فتهدأ حينئذ وتستريح ، وتفرغ الشحنة الشعورية تفريغا كاملا ، وتحس بالتناسق بين الظاهر والباطن ، وتجد تلبية مريحة لجنوحها إلى الأسرار والمجاهيل ، وجنوحها إلى الظواهر والأشكال في ذات الأوان . وعلى هذا الأساس الفطري أقام الإسلام شعائره التعبدية كلها . فهي لا تؤدى بمجرد النية ، ولا بمجرد التوجه الروحي ، ولكن هذا التوجه يتخذ له شكلا ظاهرا قياما ،واتجاها إلى القبلة ، وتكبيرا ، وقراءة ، وركوعا ، وسجودا في الصلاة ، وإحراما من مكان معين ، ولباسا معينا ، وحركة ، وسعيا ، ودعاء ، وتلبية ، ونحرا ، وحلقا في الحج ، ونية ، وامتناعا عن الطعام والشراب والمباشرة في الصوم . وهكذا في كل عبادة حركة ،وفي كل حركة عبادة ليؤلف بين ظاهر النفس وباطنها ، وينسق بين طاقاتها ، ويستجيب للفطرة جملة بطريقة تتفق مع تصوره الخاص .

ولقد علم الله أن الرغبة الفطرية في اتخاذ أشكال ظاهرة للقوى المضمرة هي التي حادت بالمنحرفين عن الطريق السليم ، فجعلت جماعة من الناس ترمز للقوة الكبرى برموز محسوسة مجسمة من حجر وشجر ، ومن نجوم وشمس وقمر ، ومن حيوان وطير وشيء ... حين أعوزهم أن يجدوا متصرفا منسقا للتعبير الظاهر عن القوى الخفية ، فجاء الإسلام يلبي دواعي الفطرة بتلك الأشكال المعينة لشعائر العبادة ، مع تجريد الذات الإلهية عن كل تصور حسي وكل تحيز لجهة ، فيتوجه الفرد إلى قبلة حين يتوجه إلى الله بكليته ، بقلبه وحواسه وجوارحه فتتم الوحدة والاتساق بين كل قوى الإنسان في التوجه إلى الله الذي لا يتحيز في مكان ، وإن يكن الإنسان يتخذ له قبلة من مكان .

ولم يكن بد من تمييز المكان الذي يتجه إليه المسلم بالصلاة والعبادة ، وتخصيصه كي يتميز هو ويتخصص بتصوره ومنهجه واتجاهه ، فهذا التميز تلبية للشعور بالامتياز والتفرد ، كما أنه بدوره ينشىء شعورا بالامتياز والتفرد .

ومن هنا كذلك كان النهي عن التشبه بمن دون المسلمين في خصائصهم ، التي هي تعبير ظاهر عن مشاعر باطنة كالنهي عن طريقتهم في الشعور والسلوك سواء ، ولم يكن هذا تعصبا ، ولا تمسكا بمجرد شكليات ، وإنما كان نظرة أعمق إلى ما وراء الشكليات . كان نظرة إلى البواعث الكامنة وراء الأشكال الظاهرة . وهذه البواعث هي التي تفرق قوما عن قوم ، وعقلية عن عقلية ، وتصورا عن تصور ، وضميرا عن ضمير ، وخلقا عن خلق ، واتجاها عن اتجاه في الحياة كلها عن اتجاه . فعن أبي هريرة  ـ رضي الله عنه ـ قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن اليهود والنصارى لا يصبغون ، فخالفوهم ) . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد خرج على جماعة  فقاموا له : ( لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضها بعضا ) . وقال صلوات الله وسلامه عليه : ( لا تطروني كما أطرت النصارى  ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله ) .

نهى عن تشبه في مظهر أو لباس ، ونهى عن تشبه في حركة  أو سلوك ، ونهى عن تشبه  في قول أو أدب ، لأن وراء هذا كله ذلك الشعور  الباطن  الذي يميز تصورا عن تصور ، ومنهجا في الحياة  عن منهج ، وسمة  للجماعة عن سمة ، ثم هو نهى عن التلقي من غير الله ومنهجه الخاص  الذي جاءت هذه الأمة لتحققه في الأرض ، نهى عن الهزيمة  الداخلية أمام أي قوم آخرين في الأرض ، فالهزيمة الداخلية تجاه مجتمع معين هي التي تتدسس في النفس لتقلد هذا المجتمع المعين . والجماعة المسلمة قامت لتكون في مكان القيادة للبشرية ، فينبغي لها أن تستمد تقاليدها كما تستمد عقيدتها من المصدر الذي اختارها للقيادة . والمسلمون  هم الأعلون ، وهم الأمة الوسط ، وهم خير أمة أخرجت للناس . فمن أين إذن يستمدون تصورهم ومنهجهم ؟ ومن أين إذن يستمدون تقاليدهم ونظمهم ؟ إلا  يستمدونها من الله ، فهم يستمدونها من الأدنى الذي جاءوا ليرفعوه .

ولقد ضمن الإسلام للبشرية أعلى أفق في التصور ، وأقوم منهج في الحياة ، فهو يدعو البشرية كلها أن تفيء إليه . وما كان تعصبا أن يطلب الإسلام وحدة البشرية على أساسه هو لا على أساس آخر ، وعلى منهجه هو لا على أي منهج آخر  ، وتحت رايته هو لا تحت أية راية أخرى . فالذي يدعوك إلى الوحدة في الله ، والوحدة في الأرفع من التصور ، والوحدة في الأفضل من النظام ، ويأبى أن يشتري الوحدة بالحيدة عن منهج الله ، والتردي في مهاوي الجاهلية ليس متعصبا  أو هو متعصب  ولكن للخير والحق والصلاح . والجماعة المسلمة تتجه إلى قبلة مميزة يجب أن تدرك معنى هذا الاتجاه . إن القبلة ليست مجرد مكان أو جهة تتجه إليها الجماعة في الصلاة ، فالمكان والجهة ليس سوى رمز ، رمز للتميز والاختصاص ، تميز التصور ، وتميز الشخصية ، وتميز الهدف ، وتميز الاهتمامات ، وتميز الكيان .

والأمة المسلمة اليوم بين شتى التصورات الجاهلية التي تعج  بها الأرض جميعا ، وبين شتى الأهداف الجاهلية التي تستهدف الأرض جميعا ، وبين شتى الاهتمامات الجاهلية التي تشغل بال الناس جميعا ، وبين شتى الرايات الجاهلية التي ترفعها الأقوام جميعا . الأمة المسلمة اليوم في حاجة إلى التميز بشخصية خاصة لا تتلبس بشخصيات الجاهلية  السائدة ، والتميز بتصور خاص للوجود والحياة لا يلتبس بتصورات الجاهلية السائدة ، والتميز بأهداف واهتمامات تتفق مع تلك الشخصية وهذا التصور ، والتميز براية  خاصة تحمل اسم الله وحده فتعرف بأنها الأمة الوسط التي أخرجها الله للناس لتحمل أمانة العقيدة وتراثها .

إن هذه العقيدة منهج حياة كامل . وهذا المنهج هو الذي يميز الأمة المستخلفة  الوارثة لتراث العقيدة ، الشهيدة على الناس ، المكلفة بأن تقود البشرية كلها إلى الله . وتحقيق  هذا المنهج في حياة الأمة المسلمة هو الذي يمنحها ذلك التميز في الشخصية  والكيان ، وفي الأهداف  والاهتمامات ، وفي الراية والعلامة ، وهو الذي يمنحها مكان القيادة الذي خلقت له ، وأخرجت للناس من أجله ، وهي بغير هذا المنهج ضائعة في الغمار ، مبهمة الملامح ، مجهولة السمات ، مهما اتخذت لها من أزياء ودعوات وأعلام). انتهى كلام الشهيد سيد قطب.

وأنا  بدوري أدعو الأمة إلى هذا الظل الوارف لتستعيد شيئا من معالم  وجودها الضائع في هذا الزمان العصيب  .

وسوم: العدد 719