الإسلام منهاج حياتي 7-18

بسم الله الرحمن الرحيم

قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ

كان ذو القرنين ملكاً صالحاً عادلاً، سعى إلى تنفيذ حكم الله ومنهجه ودستوره في الأرض، وركنه الأساس هو: (قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُكْراً)، أي: الاقتصاص من المشرك الظالم بمن في ذلك الفاسد والخائن والمنافق، وإبعادهم عن مواطن المسؤولية والقرار، وعن مواقع التحكم بعباد الله بغير حق، مع الابتعاد عن موالاة الأعداء الطغاة المجرمين الظالمين.. وبالمقابل: (وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً)، أي: تقريب المؤمن المحسن المجاهد الصالح التقيّ النقيّ الأمين.. المخلص لبلده وأمته، ووضعه في مواقع المسؤولية التي يستحقّها، ليحملَ أمانة الأمة من موقع اتخاذ القرار، وليحكمَ بما أنزل الله عزّ وجلّ، بهدف عمارة الوطن والأرض لصالح الإنسان والشعب والأمة والإنسانية كلها!..

لكن حين تختلّ الموازين، وتسير الأمور بغير ما أمر به الله جلّ وعَلا.. ما الذي يحصل؟!..

يختلّ كل شيء، وتضطرب الأمور، فيصبح المشركون الظالمون الفاسدون الخائنون المجرمون.. هم المقرَّبين الحاكمين المتسلّطين على الناس، فيوضع هؤلاء في المواقع الحسّاسة، بالأساليب الملتوية والانقلابات العسكرية، وبالإجراءات التي تضمن تسلّط الحكام وأذنابهم على رقاب الشعوب، كمهازل الانتخابات والاستفتاءات الصورية المكشوفة الممجوجة، التي يقوم بها الحكام الدكتاتوريون هذه الأيام!.. وبالمقابل يصبح المؤمنون المخلصون الأوفياء الصالحون.. هم المبعَدين المنبوذين المحارَبين المضطَهَدين!.. عندئذٍ، ستتحوّل السلطات إلى أدواتٍ للشرّ والقهر والفساد والظلم والعذاب.. ويختل بذلك نظامُ الأمة والوطن، وتَعمّ الفوضى، وينتشر الشرك والظلم، وتهوي الأمة إلى هاويةٍ ليس لها قرار، ويهوي الوطن إلى قبضة العدوّ وأعوانه وأذنابه، فتفقد الأمة والوطن هويّتهما وحرّيتهما وكرامتهما!.. وخير دليلٍ على ما نقول، هو ما نشهده اليوم بأم أعيننا في وطننا وبعض أوطان العرب والمسلمين.

*     *     *

ثلاثية التمكين: 1- الإيمان بالله، والالتزام بمنهجه القويم، وبالأخلاق الفاضلة. 2- والقوّة المادية والعلمية الممكنة. 3- والتوكّل على الله وحده.

حين يصل ذو القرنين إلى منطقةٍ بين السدّين، يلتقي قوماً متخلّفين حضارياً، يُعانون من عدوان قوم يأجوج ومأجوج، وطغيانهم وفسادهم.. فيطلب هؤلاء القوم المتخلّفون الضعفاء من الملك الصالح القويّ، أن يجدَ لهم الحلَّ الأمثلَ لمنع عدوان المعتدين المفسدين في الأرض (يأجوج ومأجوج):

(قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً) (الكهف:94).

ويرفض الملك الصالح أن يتقاضى أي مالٍ، أجراً على بناء السد الذي سيحمي القومَ من المفسدين الطغاة، لأنه صاحب رسالة، وسبق أن أعلن أنه يسير على منهج الله عزّ وجلّ في إحقاق الحق وإبطال الباطل، فهذا واجبه بل فرضٌ من الله عليه، وهي مهمةٌ أوكلها سبحانه وتعالى إليه، لتحقيق العدل بين الناس، وتحريرهم من الخوف والاستعباد والظلم والعبودية لغير الله، وانتزاع حقوقهم، ومعاقبة المعتدين المتجبّرين عليهم، وصَد أذاهم وطغيانهم، والقضاء على فسادهم!..

وهكذا.. فصاحب الرسالة ليس مرتزقاً، وأجره الأعظم على جهاده وعمله الدائب لإحقاق الحق وإبطال الباطل.. يناله من الله عزّ وجلّ وحده، فهو لا يجاهد في سبيل أحدٍ من البشر، بل في سبيل الله وحده لا شريك له، لذلك، فالأجر يُستوفى من الذي كلّفه بمهمة الجهاد والعمل الهادف، وهو الله سبحانه وتعالى:

(قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً) (الكهف:95).

فالتمكين هو من الله عزّ وجلّ أولاً وآخراً، وكذلك الأجر منه أيضاً، وليس من أحدٍ سواه!..

نلاحظ هنا، أنّ الملك الصالح ذا القرنين استخدم وسائل علميةً متقدمةً للتغلب على العدو المفسد، ومن ذلك، أنه استخدم النحاس المذاب مع الحديد، وقد اكتشف الخبراء في عصرنا هذا، أنّ هذه الطريقة تُضاعف من صلابة الحديد ومقاومته إلى درجةٍ كبيرة، فهل نتعلّم ونتّخذ العبرة بل العِبَر؟!..

(آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) (الكهف:96).. [قِطْراً: نُحاساً مُذَاباً].

*     *     *

وبعد أن تغلّب ذو القرنين على العدوّ، لم يُصِبْه الغرور، ولم يشعر بالجبروت، ولم يتكبّر على القوم الذين حماهم وصدّ عنهم ظلم الظالمين وفساد المفسدين وعدوان المعتدين.. بل أرجع ذلك كله إلى فضل الله عزّ وجلّ عليه وعليهم، لأنّ القوّة هي قوّة الله، والعلم هو علم الله، والنصر هو نصر الله وحده لا شريك له، الذي نصرهم على الطغاة المجرمين المعتدين الجبارين الفاسدين، الذين كان يظن الناس أن لا قوّة ستردّهم أو تردعهم وتقف في وجوههم:

(قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً) (الكهف:98).

ما أعظم هذه الأخلاق، وما أروع هذه الرسالة.. فهل نستوعب الدرس!..

*     *     *

لنلاحظ هنا أمراً في غاية الأهمية، هو أنّ أولئك القوم الضعفاء، انتصروا على عدوّهم على الرغم من ضعفهم، وذلك لأسبابٍ مهمةٍ جداً من المفيد أن نستعرضها بإيجاز، أهمها:

1- إنهم سلّموا أمرهم لقيادةٍ حكيمةٍ.. قادرةٍ.. قويةٍ.. واثقةٍ.. تحكم بما أنزل الله!..

2- إنهم امتثلوا إلى شرع الله عزّ وجلّ، ثم توكّلوا عليه وحده، واقتنعوا بأنّ النصر من عنده فحسب!..

3- إنهم فعلوا ما طُلِبَ منهم، وبذلوا ما عليهم من جهد، واتخذوا كل الأسباب الممكنة التي توافرت لهم (على تواضعها)، لردّ العدوان عن ديارهم ووطنهم، ولصدّ الجبّارين في الأرض ودَحْرهم وإسقاطهم!..

4- إنهم لم يستكينوا لعدوّهم مطلقاً، ولم يتخاذلوا، ولم يضيِّعوا الأوقات في مفاوضة هذا العدوّ، ولم يُلدَغوا من جحرٍ مرتين أو أكثر، ولم يتآمروا على أنفسهم وعلى قومهم، ولم يخونوا وطنهم وشعبهم وأمتهم تحت أية ذريعةٍ من الذرائع، بل استمروا في البحث عن تحرير أنفسهم من سطوة عدوّهم الفاسد وتسلّطه عليهم، إلى أن وجدوا الحلَّ الأمثلَ المجدي، من غير أن يقعوا في حبائل عدوٍ آخر، أو يرهنوا أنفسهم وقواهم لجهةٍ أخرى تزعم دعمهم!..

5- إنهم اعترفوا بقوة ربهم العظيمة، وأنها هي الأساس في عملية تحرير أنفسهم، وكذلك هي الأساس في إعادتهم إلى ضعفهم وذلّهم إن تخلّوا عن الالتزام بمنهج الله عزّ وجلّ.. وقد سلّموا بذلك على لسان الملك الصالح ذي القرنين: (.. فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً)!..

فاعتبروا يا أولي الأبصار والألباب!..

ألا هل نعتبر؟!.. وهل نتعلّم؟!.. وهل نستوعب سنن الله عزّ وجلّ في أرضه وعباده، تلك السنن الإلهية التي لا تتغيّر، ولا تتبدّل، عبر الأزمان والقرون، ومهما تطاولت السنون؟!..


بسم الله الرحمن الرحيم

ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ

لا يمكن للمسلمين أن يسيروا خطوةً واحدةً باتجاه تحقيق أهدافهم إلا بشروطٍ موضوعيةٍ عليهم أن يعملوا بها، ويسيروا إليها، ويُقدّموا التضحيات لبلوغها.. ولا بدّ أن يحققَ بناءُ المسلمين شرطين أساسيين:

الشرط الأول: قوّة لبناته ومتانتها.

الشرط الثاني: قوّة الروابط التي تربط بين هذه اللبنات.

أي إنّ قوة اللبنات، تساوي خمسين بالمئة من شروط صنع القوّة الحقيقية للبناء القويّ، فيما تساوي قوّة الروابط والعلاقات بين اللبنات.. الخمسين بالمئة الباقية من تلك الشروط، فلنتأمّل!..

إنّ قوّة اللبنات لا تتحقق إلا بالتربية العملية الصحيحة، فيما قوّة الروابط بينها لا تتحقق إلا بالتنظيم المحكم مع التربية الحقة، وغني عن الذكر أنّ كل ذلك لا يتحقق إلا بالتخطيط العلميّ السليم المواكب لروح العصر!..

قوّة اللبنات وقوّة الروابط بينها تجعل البناء قوياً محكماً مَنيعاً: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضُهُ بعضاً).. (متفق عليه)، وأي خللٍ في أي لبنةٍ أو رابطةٍ، ستوهن البناءَ في الموضع الذي تشغله تلك اللبنة أو الرابطة، وكلما اشتدّ الخلل واتسع.. وَهَنَ البناءُ وتداعى.

الإنسان المسلم هو اللبنة في بناء المسلمين وأمّتهم.. وبناؤه بناءً جيداً صحياً سليماً.. سيؤدي إلى قطع نصف الشوط لقيام بناءٍ قويٍ متكامل، وعماد بناء الإنسان المسلم هو: (الأخلاق) الإسلامية الحسنة.. فحُسن الخُلُق، هو الأساس الذي يؤدي إلى لبنةٍ سليمةٍ قويةٍ متينة.. والأساس لتحقيق الشرط الثاني من شروط البناء القويّ المتماسك المتراصّ، ذلك الشرط هو (كما ذكرنا آنفاً): (قوّة الروابط بين اللبنات)، أي بمعنىً آخر: تحقيق قوّة العلاقات والروابط، بين الإنسان المسلم وأخيه المسلم الآخر، ضمن النسيج الاجتماعيّ للأمة المسلمة!..

لذلك، لا بد لنا أن نُذكِّرَ ببعض معالم (حُسن الخُلُق)، الذي يجب أن يتحلّى به كل فردٍ منا، ليكون عند حسن ظنّ الناس به، وعند حسن ظن أمّته به كذلك، فضلاً عن حُسنِ ظنّ ربه به!..

*     *     *

يقول سبحانه وتعالى في محكم التنـزيل:

 (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (فصلت:34و35).

تدبّروا في الآيتين السابقتين جيداً، لتستمتعوا بعظمتهما وعظمة كلمات الله عزّ وجلّ!.. فما يُستنتج من قول الله العظيم هو:

1- أمرٌ بالصبر عند الغضب، وبالعفو عند الإساءة (كما يقول ابن عباس رضي الله عنه).

2- أحسِن إلى مَن أساء إليك.

3- خالِف نفسك، إن أمَرَتْك بما يتعارض مع حُسن الخلق الذي يجب أن تكونَ عليه.

مَن يمكنه أن يقومَ بذلك؟!.. إنهم بلا شك:

- المتّقون، الذين يتمتّعون بأعلى درجات حُسن الخُلُق، إنهم المحسِنون كذلك، الذين يعملون بموجب الآية الكريمة: (.. وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران: من الآية 134).

- وإنهم الذين يتخلّقون بالإحسان، ويقابلون إخوانهم بالعفو والرحمة!..

يقول أنس رضي الله عنه: (كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أحسنَ الناس خُلُقاً) (متفق عليه).

ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتّقِ اللهَ حيثما كنت، وأتْبِع السيئةَ الحسنةَ تَمْحُهَا، وخالِقِ الناسَ بِخُلُقٍ حَسَن) (الترمذي).

*     *     *

في الخُلُق، والخُلُق الحسن

الخُلُقُ هو:

(الطبع أو السجيّة، ومجموعة المعاني والصفات المستقرّة في النفس الإنسانية، التي تتولَّد عنها الأفعال والأعمال).

فبقدر ما يمتلك الإنسان من الطبع الراقي والسجايا العالية والصفات الحميدة.. فإنه يقترب من الدرجات الراقية لـحُسن الخُلُق، في أعماله وأفعاله.. وكلما كثرت أعماله وأفعاله التي تتّصف بـحُسن الخُلُق.. كان مؤهّلاً ليكون لبنةً صالحةً متينةً في بناء المسلمين، فيتقوّى البناء به، ويصبح متيناً، ويحقِّق خطوةً إضافيةً باتجاه الهدف السامي العظيم لدينه!.. وهذه الحقيقة تُبيّن لنا بوضوح: كم هي ثقيلة الأمانة التي يحملها كل منا، من أجل إنجاح مشروعات أمّته، وتحقيق أهدافها العظيمة، ودعم صمودها وصمود أبنائها.. فلنتأمّل!..


بسم الله الرحمن الرحيم

رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا

أنت –أيها المسلم المؤمن- عندما تكون مؤمناً حقاً، ولديك الفكر الإيمانيّ الإسلاميّ الصحيح.. فعليكَ أن تتحلّى بأعلى درجات الأخلاق العالية الكريمة، في علاقاتك العملية كلها مع الناس، وإلا.. فابحث عن الخلل في نفسك، لتقويمه!..

ونوضّح ذلك بالمثال الآتي:

يقول إبراهيم عليه السلام -كما جاء في محكم التنـزيل-:

(رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (الممتحنة:5).

أي: لا تجعل فعلي يخالف قولي.. فأكون فتنةً للكافرين.. الذين –عندئذٍ- سيُعرِضون عن الإيمان بك!.. فأكون أنا السبب في ذلك، لأنني لا ألتزم (عملياً)، بما أبشّر به، أو بما أدعو إليه (نظرياً)، ولا أقدِّم الصورة المشرقةَ للفكرة التي أؤمن بها وأسعى للدعوة إليها بين الناس!..

لذلك، فنجاح دعوة الدعاة إلى الله.. يتأسَّس على وعيهم التام بهذه الحقيقة، فأنت قد تمضي السنين الطويلة لدعوة الناس إلى الإسلام، وإلى الالتزام به، لكنّ موقفاً واحداً عملياً غير لائقٍ تقوم به، قد يأتي على كل ما بنيته!.. وبالعكس، قد يكون لموقفٍ واحدٍ أو سلوكٍ واحدٍ عمليٍ حميد، دالٍّ على مطابقة عملك قولَكَ.. قد يكون له أثره العظيم في بناء صرحٍ ضخمٍ قد لا تتوقّعه، وفي زمنٍ قياسيّ!.. إنها الدرجة العالية من الالتزام بما أدعو إليه.

*     *     *

1- لا نجاة يوم الحساب إلا بالتزام الـخُلُق الإسلاميّ الراقي:

فأنت عندما تقوم بالعبادات المعروفة من صلاة وصيامٍ وغيره.. فإنما تقوم بها لنفسك، ولتمتين علاقتك مع ربك.. لكنّ السلوك أو الخُلُق، يتعدّى تأثيره إلى الآخرين من الناس، وحَقّ هؤلاء عليك، وحَقّ دعوتك وإسلامك عليك أيضاً.. هو أن تعامِلَهم بالخُلُق الذي أمرك الله عزّ وجلّ، أن تلتزمَ به:

(قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: فلانةٌ تقوم الليلَ، وتصوم النهارَ،.. وتؤذي جيرانها، قال: دَعوها، إنها من أهل النار) (متفق عليه).

2- غايات الإسلام وأهداف المسلم شريفة سامية، فلا بد أن تكونَ وسائلُ الوصول إليها ساميةً شريفة:

فلا يجوز مطلقاً، ولا يمكن.. أن يصلَ المسلمُ إلى هدفه السامي، بوسيلةٍ خسيسةٍ أو وضيعة.. وعماد ذلك كله.. هي: أخلاق المؤمنين!..

3-الله عزّ وجلّ، يأمرنا بخُلُقِ الإسلام، وكذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا بذلك:

(لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (البقرة:177).

أي: إنّ التوسّع بأعمال الخير، والالتزام بأخلاق الإسلام.. هو الأساس والأصل!..

(إنّ من خِياركم.. أحسنَكم أخلاقاً) (متفق عليه).

(ما من شيءٍ أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حُسن الخُلُق، وإنّ اللهَ يُبغِضُ الفاحشَ البذيّ).. والبذيّ: هو رديء الكلام!.. (الترمذي).

(أكمل المؤمنين إيماناً.. أحسنُهُم خُلُقاً..) (الترمذي).

وفي هذا يقول عبد الله بن المبارك -رحمه الله- في شرح أخلاق المؤمنين أو حُسن الخُلُق:

[هو طلاقةُ الوجه (أي أن يبقى وجهك مع الناس مُتَهَلّلاً بسّاماً)، وبَذْلُ المعروف، وكَفُّ الأذى (قولاً وفعلاً)].


بسم الله الرحمن الرحيم

لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ

نؤكّد أنّ للقدوة الصالحة أثرها العميق في تهذيب النفس البشرية، وذلك على مستويين:

1- مستوى القدوة نفسها (الـمُربّــِـــــي): التي تصبح أكثر تهذيباً، وأعمق كفاءةً في مجال الالتزام بمنهج الإسلام وأخلاقه، لأنها تحرص على تنفيذ ما يدعو إليه، لكي تكونَ قدوةً صالحةً بحق، لغيرها من الناس!..

2- مستوى الإنسان العاديّ (الـمُرَبـَّـــــى): فلا أعظم من تأثير القدوة الصالحة عليه، حين تكون تلك القدوة أهلاً لهذا، فتأثير الأفعال خير ألف مرةٍ من تأثير الأقوال!..

أنت، على سبيل المثال: مهما ألقيتَ على أولادك في بيتك المواعظَ والدروسَ، بأن يبتعدوا عن الغيبة والنميمة مثلاً، فلن يكونَ لمواعظك أي أثرٍ، حين يجدونك تقترف هذا الذنب، ولو مرةً واحدة، بل سيفعلون مثلك، إن لم يسبقوك في اقتراف هذا الذنب الكبير!..

يقول الله عز وجل في محكم التنـزيل:

 (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) (الأحزاب:21).

(قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ) (الممتحنة: من الآية 4).

*     *     *

كيف يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوةً لنا؟!

1- باستشعار رقابة الله سبحانه وتعالى، والخشية منه.. دليل على حُسنِ الإيمان:

فعندما يعيش المسلم المؤمن بالله، أجواءَ الإيمان به، ويستشعر داخل أعماقه -في كل لحظةٍ من حياته-أنّ الله سبحانه وتعالى يراقبه، ويراقب كل حركاته وسكناته، وأنه عزّ وجلّ يعلم السرّ وما تخفي الصدور.. فسيكون لذلك أثره العميق، في صقل النفس البشرية، وتهذيبها، واختيارها طريقَ أخلاق الإسلام ومَنهجه، مع عباد الله الأقربين والأبعدين!.. وقد رُوِيَ في الأثر [.. أنّ الخليفةَ الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرّ بغلامٍ يرعى الغنم، فقال له: بِعْني واحدة، فقال الغلام: إنها لسيدي، فقال عمر: بعني إياها وخُذ ثمنها وقل لسيدك: أكلها الذئب (أراد الفاروق أن يمتحنَ الغلام)!.. فقال الغلام: فأين اللهَ يا سيدي؟!.. فبكى عمر رضي الله عنه، واشترى الغلام من سيده، وأعتقه قائلاً له: هذه الكلمة أعتقتك في الدنيا، وأسأل الله أن تُعتِقَ رقبتكَ يوم القيامة]!..

2- القرآن الكريم، خير منهجٍ لصقل النفس الإنسانية:

فهو المنهج الربّانيّ الذي يُربّي الأجيالَ ويوجّهُها إلى أحسن الأخلاق، ويُنشئها على الفضيلة والطَـيِّب من الخُلُق، والصلاح من الأعمال والأفعال والالتزام: (كان صلى الله عليه وسلم خُلُقُه القرآن)، كما قالت السيدة عائشة رضي الله عنها.. أي: كان صلى الله عليه وسلم مُلتزماً بآداب القرآن وأوامره ونواهيه، بشكلٍ صارمٍ لا حدود له، ولا مثيل له.

3- الخوف من عذاب الله عزّ وجلّ في اليوم الآخِر.. يُهذِّب النفس الإنسانية:

فخوف المؤمن من عذاب الله الذي ينتظر الخاطئين المذنبين، سيكون مـُحرِّضاً له للبقاء على الصراط المستقيم، وذلك في علاقاته كلها مع الناس، على مختلف درجاتهم وأصنافهم!.. وقد كان الرجل إذا ارتكب ذنباً أقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تائباً طالباً إقامة الحدّ عليه.. خوفاً من الله عزّ وجلّ، وابتغاء مرضاته سبحانه وتعالى، بعد اقتراف المعصية، وهَلَعاً من عذابه يوم القيامة!.. وكلنا يعرف قصة تلك المرأة التي أقبلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، طالبةً إقامة حدّ الزنا عليها!.. وكذلك حادثة (ماعز) رضي الله عنه، الذي أقام عليه رسول الله الحدَّ بناءً على رغبته:

[.. وبعد أن أقام رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الحدّ على (ماعز)، سمع رجلين يقولان: ما أحمق ماعزاً، ستره الله ففضح نفسه!.. فأنّبهما عليه الصلاة والسلام، ثم قال: (.. إنه الآن لمنغمس في أنهار الجنة)!..].

4- استشعار قدرة الله سبحانه وتعالى وعظمته.. يدفعك للالتزام بما يأمرك به:

فلا تغترّ بقوّتك أو سلطانك مهما كان، ولا بنفوذك مهما بلغ، وتذكّر أنّ الله أقدر منك قوّةً وبطشاً وسلطاناً ونفوذاً:

(رأى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم صحابياً، يضرب عبداً خادماً عنده، فقال له: اتّقِ مَن هو أقدرُ عليكَ منكَ عليه، فقال الرجل: هو حُرٌ لوجه الله، فقال عليه الصلاة والسلام: والله لو لم تقلها لـَمَسَّتكَ النار)!.. (رواه مسلم).


بسم الله الرحمن الرحيم

قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا

تَــــذَكَّرْ دائماً الآيةَ العظيمة:

(خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (الأعراف:199).

فهذه الآية العظيمة تقول لك:

1- اتّبع سبيل المساهلة مع الناس القريبين منك، واقبل أعذارَهم، واعفُ عمّن ظلمَك منهم، وصِلْ مَن قطعَك، وأعطِ مَن حرمَك.. وبذلك تُقابِل الإساءة بالإحسان، والأذى بأخلاق الكرام.

2- قم بما يـُمْليه عليكَ شرعُ الله، الذي عاهدتَه على الالتزام به.. وائتمر بأمره.

3- ابتعد عن السفهاء والحمقى، الذين يضرّون ولا ينفعون، ويوقعونك في المحاذير.

*     *     *

زَكِّ نفسَك باستمرار، وارتقِ إلى أخلاق الإسلام

1- بالعِلم واليقين:

أي أن تعلم وتتيقّن، بإمكانية (التخلّي) عن أي خُلُقٍ سيّئٍ مهما كان، وإمكانية (التحلّي) بالخُلُق الراقي مهما بلغ، والأمر يتطلّب الاعتماد على الله عزّ وجلّ أولاً، وعلى امتلاك الإرادة الحازمة منك ثانياً.

(وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا*فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا*قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا*وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (الشمس:7-10).

2- اتّبِـــع سبيل مُغَالَبة الأخلاق التي تريد التخلّص منها:

أي: مراغمة الشيطان، وسلوك كل السبل لإرغامه على الابتعاد عنك، بالصبر، والتمسّك بأخلاق المسلم القويّ العزيز الكريم!..

وهكذا.. قابِل القسوةَ بالرحمة.. والبخلَ بالسخاء والكرم والعطاء.. والتكبّرَ بمخالطة الضعفاء والفقراء!.. وذلك كله مراغمةً للشيطان، وإغاظةً له.. إلى أن ييأس من غوايتكَ.. فينصرف عنك!..

(شكى رجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قسوةَ قلبه، فقال له: امسح على رأس اليتيم، وأطعِم المسكين).

3- المبادرة إلى إنجاز الأعمال الإيجابية الصالحة:

فأنت مسؤول عن نفسك، وعن تزكيتها، فبادِر إلى كل عملٍ صالحٍ يقرّبك من ربك، واعلم أنك مُطالَب بالإقدام على مثل هذا العمل، فلا تُفَكر هل ستعمل عملاً صالحاً أم لا.. بل فكّر بأفضل السبل لإنجاز الأعمال الصالحة:

[عن أبي موسى رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: على كل مسلمٍ صدقة، قال: أرأيت إن لم يجد؟!.. قال: يعمل بيديه فينفع نفسَه ويتصدّق، قال: أرأيت إن لم يستطع؟!.. قال: يُعين ذا الحاجة الملهوف، قال: أرأيت إن لم يستطع؟!.. قال: يأمر بالمعروف أو الخير، قال: أرأيت إن لم يفعل؟!.. قال: يُمسِكُ عن الشرّ فإنها صدقة] (متفق عليه).

4- صَاحِب الصديقَ الصدوق، وخَالِط كرامَ الناس، الذين يحرصون على تعريفكَ بعيوبِك:

فمثل هؤلاء يحرصون عليك كما يحرصون على أنفسهم، ورضي الله عن الفاروق عمر رضي الله عنه حين قال: (رَحِمَ اللهُ امرءاً أهدى إليَّ عيوبي)، وكان رضي الله عنه يسأل أمينَ سرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم (حذيفة بن اليمان) باستمرار: (يا حذيفة: هل ذكرني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في المنافقين؟!..).

5- كُن مِلحاحاً في الدعاء، فالله عزّ وجلّ يـُحبّ منك ذلك:

إذ كل أمرٍ بيد الله عزّ وجلّ، ولا بد من الالتجاء إليه في تزكية نفسك، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو اللهَ قائلاً:

(اللهم اهدِني لأحسنِ الأخلاق لا يهدي لأحسنِها إلا أنت، واصرف عني سَيّئها لا يصرف عني سَيّئها إلا أنت).. (رواه مسلم).


بسم الله الرحمن الرحيم

إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ

الإنسان المسلم يتمتّع بالأخلاق الفاضلة، المستمدّة من تعاليم الإسلام وروحه ومنهجه.. والصالحات من الأعمال، هي محور الخُلُق الإسلاميّ الرفيع.. إذ حولها تتجمّع كل الأعمال التي تُرضي الله عزّ وجلّ، فَتُشكِّل حزمةً من الاستقامة والصلاح والتعامل الراقي الحضاري بين البشر، لا هدف لها إلا إرضاء الخالق تبارك وتعالى، وبالتالي تحقيق السعادة والعدل بين الناس.

*     *     *

مفهوم العمل الصالح

هو كل ما يتقرّب به الإنسانُ إلى ربه عزّ وجلّ: نيّةً، أو قولاً، أو فعلاً.. وبالمقابل، ينبذ أو يترك كل ما يُسبِّب سخط الله عزّ وجلّ، ويُغضبه.

*     *     *

الإيمان والعمل الصالح قرينان

(وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (سورة العصر).

- فقد كان الرجلان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.. لا يفترقان إلا أن يقرأ أحدُهما على الآخر (سورة العصر).. لما فيها من معاني المحبة والألفة، والعلاقة الوثيقة بين المؤمنين.

- وكان الشافعي، رحمه الله ورضي عنه، يقول: (لو تدبّر الناسُ هذه السورة (العصر) لَوَسِعَتْهُم)!..

فليعلم كل مسلمٍ أنه لا قيمة لأي عملٍ من غير إيمان.. فمن قام بأي عملٍ مهما كان يحتوي على الخير.. فإنه إن لم يكن صادراً عن روحٍ مؤمنةٍ بالله، ومن منطلق أنّ هذا العمل يُبذَل لوجهه الكريم، ولإرضائه، ولتنفيذ مَنهجه الذي ارتضاه للناس.. فإنما هو عملٌ من الأعمال، لا قيمة له في ميزان السماء، مهما كان ذا قيمةٍ في موازين الأرض وأهلها.

*     *     *

المآلات العظيمة للعمل الصالح

أ- عمل الإنسان لا يُقبَلُ إلا بشرطين اثنين:

1- الإخلاص لله عزّ وجلّ.

2- والتوافق مع شرعه القويم سبحانه وتعالى.

ب- الصالحات من الأعمال، سببٌ قويٌ من أسباب دخول الجنة، والنجاة من النار:

- (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ) (الزلزلة:7 و8).

- (ما منكم من أحدٍ إلا سيكلّمُهُ ربُهُ، ليس بينه وبينه تُرجمان، فينظرُ أيمن منه فلا يرى إلا ما قدّم، وينظرُ أشأمَ منه فلا يرى إلا ما قدّم، وينظرُ بين يديه فلا يرى إلا النارَ، فاتقوا النارَ ولو بِشِقِّ تمرة).. (متفق عليه).

ج- الصالحات من الأعمال تُنجي من مَقْتِ الله سبحانه وتعالى:

فالإنسان المسلم المؤمن، عليه الالتزام تماماً وبحزمٍ وقوّة.. بما عاهدَ اللهَ عليه، حين دخوله صف الإيمان والمؤمنين.. وأول ما يعاهد الإنسان ربه.. يعاهده على التزام العمل الصالح، فإن نكث بوعده، وأطاح بعهده.. فإنه لن يكسب إلا مَقتَ الله عزّ وجلّ، الذي عاهده ولم يوفِ بعهده إليه.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ) (الصف:2).

د- اللهُ عزّ وجلّ، جَعَلَ البركةَ، في الكلمة المقترنة بالعمل المخلص والفعل الحقيقيّ الملموس:

فالمسلم قدوة لغيره، إذا دعا إلى أمرٍ فإنه سيكون أول الملتزمين بهذا الأمر.. وإذا نصح أحداً، فعليه أن يكونَ ملتزماً تماماً بما ينصح به، وهكذا..

*     *     *

إذا فُقِدَ العملُ، حَلَّ محلّه الكلام بدون رصيد، والثرثرة والعبث

عندما تُفقَد الأعمال الصالحات بين الناس، فإنّ أمراضاً عديدةً ستنشأ، وتنمو بينهم.. بعضُها مدمِّرٌ للعلاقات بين المسلمين.. بل بين البشر كلهم.. فما الذي سيحصل عندئذٍ؟!..

1- سيصبح الإنسان مُحِباً للعلم والمعرفة فحسب، من غير عملٍ يُصدّق ما تعلّمه.. ليقالَ عنه: عالِمٌ وعارفٌ ومتعلّمٌ.. فحسب.

2- ستكثر الرغبة في الجدال بين المتعلّمين غير العاملين بعلمهم.. فلا نشهد إلا السفسطة الفارغة، وتضييع الأوقات بالكلام الفارغ، والجدالات العقيمة.

3- سيصبح الناسُ متتبّعين بعضهم لعيوب بعض، جاهلين بعيوبهم: (إنَّ أحدَكم لَيَرى القذاةَ في عينِ أخيه، ولا يرى الجذعَ في عينه)!..

4- سيصبح بعضُ الناسِ منتقصينَ بعضَهم الآخر، وهم، في الوقت نفسه، لا يُقدِّمون شيئاً مُهمّاً لدعوتهم: (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (التوبة:79).. وهذه الآية الكريمة، نزلت في المنافقين الذين سخروا من الصحابيّ الجليل (عبد الرحمن بن عوف) رضي الله عنه، حين تصدّق بأربعة آلاف درهم، فقال المنافقون عليهم من الله ما يستحقّون: (ما أعطى إلا رياءً)!..

*     *     *

الرياء، والـمَنُّ، يتناقضان مع جوهر العمل الصالح

- فالرياء، وحُب، الظهور، وطلب السُمعة بسريرةٍ سيئة.. يُذهِب أجرَ الأعمال الصالحات:

فبعضُ الناسِ لا يبتغون من أعمالهم (حتى الصالحة) إلا الظهور ولفت الأنظار إليهم.. وهذا هو الرياء الذي يـَحرِمُ صاحبَه أجر الله عزّ وجلّ وثوابَه، وهذه صفة من صفات النفاق والمنافقين الذين قال الله سبحانه وتعالى عنهم: (يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً) (النساء: من الآية142).

[عن جندب بن عبد الله بن سفيان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَن سَمَّع (أي أظهر عمله رياءً) سمَّعَ الله به (أي فضحه)، ومَن يُرائي.. يُرائي الله به (أي يُظهِر سريرته على رؤوس الأشهاد أو الناس)].

- والمَنّ على الله سبحانه وتعالى بالطاعة، يهدر الأجر والثواب، وكأنّ الطاعة ليست للمسلم ولصالحه:

(يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (الحجرات:17).. وهذه الآية الكريمة نزلت في (بني أسد)، الذين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (قاتَلَكَ العربُ ولم نقاتلك)!..

- والمَنّ على الناس، سبب لبطلان الأعمال، وزوال بركتها وثوابها:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) (البقرة:264).

*     *     *

نسأل الله عز وجل، أن يجعلَ أعمالنا كلها خالصةً لوجهه الكريم، لا نبتغي منها إلا رضاه سبحانه وتعالى، وصلاحَ أنفسنا والناس من حولنا.. ونسأله جلّ وعلا، أن يُطهِّر قلوبَنَا وأسماعَنا وأبصارَنا وأعمالَنا، من كل ما يشوبها أو يلطّخها، ومن كل ما يبعدها عن الصدق والإخلاص والصفاء والنقاء.. إنه سميع قريب مجيب.


بسم الله الرحمن الرحيم

تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً

خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان، وأودع في نفسه الاستعداد للصلاح من جهة، وللفساد من جهةٍ ثانية، ثم دلّه على طريق الخير، وحذّره من طريق الشرّ، فدعاه إلى تزكية نفسه، وتنقيتها، وإبقائها متوهّجةً لفعل الخير، مستعدّةً للعمل الصالح، متحفّزةً لرفض كل شرٍّ أو فساد!..

(وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا*فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا*قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا*وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (الشمس:7-10).

لاحظوا كيف ربطت الآيات الكريمات: الفلاح بالتزكية والطاعة، والخيبة والفشل والخسران بالغواية والإضلال!.. أي: تزكية النفس لا يمكن إلا أن تؤدي إلى النجاح والفلاح، وإضلالها وإغواؤها لا يمكن إلا أن يؤديا إلى الخيبة والخسران!..

لكن هل يبقى الخائب خائباً؟!.. ألا من حلٍ له، يستطيع أن يعودَ به إلى طريق الخير والفلاح والصلاح، بعد الإمعان في طريق الضلال والمعصية والخسران؟!.. الحلّ أو العلاج هو: التوبة!..

التوبة تعني: الرجوع، والمقصود بها هنا الرجوع إلى الله عزّ وجلّ بعد ابتعادٍ عنه، أو بعد معصيةٍ أو خطيئة.. فقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله:

(كلُّ ابن آدم خطّاءٌ .. وخير الخطّائين التوّابون) (الترمذي) .. وكذلك قوله:

(إنّ الله يبسطُ يَدَهُ بالليل ليتوبَ مُسِيءُ النهار، ويبسطُ يَدَهُ بالنهار ليتوبَ مُسيءُ الليل، حتى تَطْلُعَ الشمسُ من مَغربها) (مسلم).

*     *     *

(وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (آل عمران:135).

لنتدبّر الآية الكريمة أعلاه، فماذا نستنتج؟!..

1- الفاحشة أو الغواية تُبعِد الإنسان عن طريق الله عزّ وجلّ.

2- ارتكاب الفاحشة يؤدي إلى الظلم.

3- التوبة تُعيد الإنسان إلى صوابه، وإلى طريق الخير، فينتهي الظلم.

4- الله سبحانه وتعالى وحده، هو الذي يغفر الذنوب ويقبل التوبة.

5- قبول التوبة مشروط بعدم الإصرار على فعل الشرّ.

*     *     *

كيف تكون التوبة؟.. وما شروطها؟..

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (التحريم:8).

فالمطلوب إذاً: التوبة النَصوح!.. فما التوبة النصوح؟!..

يقول ابن كثير رحمه الله: (التوبة النَصوح: أن تَبْغُضَ الذنبَ كما أحببتَه، وأن تستغفرَ منه كلما ذكرتَه)!..

ويقول الفاروق عمر بن الخطاب رضوان الله عليه: (.. أن يتوبَ الرجلُ من العمل السيّئ، ثم لا يعود إليه أبداً)!..

على هذا، فالتوبة النَّصوح (أي: الصادقة الخالصة لله عزّ وجلّ)، هي التي تُحقِّق الشروط الآتية كلها:

1- الإقلاع عن الذنب أو المعصية.

2- الندم والحسرة، على ما مضى من تفريطٍ بسبب المعصية.

3- رَدّ الحقوق إلى أصحابها، إن وجدت.

4- العزم على عدم العودة إلى الذنب أو المعصية، ومعاهدة الله عزّ وجلّ على ذلك.

*     *     *

ضمان استمرار التوبة

لا بد لاستمرار التوبة، والاستقرار على طريق الفلاح، من توافر بعض الأمور المساعدة، منها:

1- البيئة المحيطة الصالحة، التي تُعينُ على طاعة الله عزّ وجلّ، وخير بيئةٍ لذلك هي البيئة الصالحة للبيت، والصديق أو الصاحب الصالح.

2- الحرص على اغتنام الوقت، قبل أن يمضيَ العمر كله. وإشغال النفس بالطاعات:

(اغتنم خمساً قبل خمس: شبابكَ قبل هرمك، وصحّتكَ قبل سَقَمِك، وغِناكَ قبل فقرك، وفراغكَ قبل شُغلِك، وحياتكَ قبل مماتك) (ابن أبي الدنيا، حديث حسن).

3- الحرص على ألا تكون صلتنا بالله عزّ وجلّ.. صلة مواسم، فطاعة الله ليست موقوفةً على رمضان أو على يوم الجمعة أو ما شابه.. وخير سبيلٍ لتحقيق ذلك، هو ذكر الموت والحساب والقيامة باستمرار، فهذا مما يجعل صلتنا بالله دائمةً في كل نهارٍ وليلٍ وساعة!.. وقد (سُئِلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيّ المؤمنين أكيس؟.. قال: أكثرهم للموت ذِكراً، وأحسنهم لما بعده استعداداً.. أولئك الأكياس) (ابن ماجة).

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من التوّابين.


بسم الله الرحمن الرحيم

هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ

المنافقون!.. صنف وضيع من الناس، يتغلغلون في صفوف المؤمنين، ويتّخذون لأنفسهم أقنعةً متعددة، ويسعون إلى تفتيت الأمة وتفريق الصف وخَلخَلَته من الداخل، بكل ما أوتوا من مَكرٍ ودهاء، أولئك العيون الضّالة، عيون الكفار والأعداء ومُـمَالئوهم على المسلمين.. مُفسدون خطِرون على الأوطان والأرواح والخطط.. هؤلاء أخطر أهل الأرض على الإسلام وأهله وجنده!.. ماذا قال الله عزّ وجلّ عنهم في محكم التنـزيل؟!..

 (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (المنافقون:4).

(هُمُ الْعَدُوُّ)، لأنهم العدو الحقيقيّ الخطير، الذي ينبغي كشفه وفضحه والقضاء عليه، قبل تمكّنه من المسلمين وأوطانهم، فيعمل على تدميرهم وتدميرها من الداخل!..

*     *     *

الإيمان نعمة عظيمة، يهبها الله سبحانه وتعالى لمن يريد من خَلْقه، ومن غير الإيمان لا معنى لهذه الحياة، ولا معنى لحياة الإنسان.. هذا الإنسان الذي إذا أشرق سنا الإيمان في قلبه، وبلغ من أغوار نفسه مَداها، وتدفّق بقوّةٍ من جوانحه ووجدانه.. فإنه سيجعل منه مخلوقاً حياً يقظاً قوياً، لا تهزّه الأعاصير، ولا تخيفه قوى الدنيا كلها، وتتفجّر طاقاته المكنونة في نفسه.. فيحقِّق عمارة الأرض على أسسٍ أخلاقيةٍ قويمة، على منهج الله عزّ وجلّ، ويبني الحضارة الراقية التي كل شيءٍ فيها يسبّح بحمد ربه!..

الإيمان هو النعمة الأعظم من الله عزّ وجلّ، تَلِجُ إلى العقل، وتَـهزّ القلب، وتوجّه الإرادة.. فتتحرّك الجوارح للعمل بلا تردّدٍ ولا ضَعف، فينجز الإنسان المؤمن الحق، ما لا يمكن أن ينجزَه أي إنسانٍ آخر لم يتمكّن الإيمان منه، وأي وهنٍ أو ضعفٍ أو تردّدٍ في إيمان المسلم، سيجعله عرضةً لمرض النفاق، فما أشقاه عندئذٍ، وما أتعسه، وما أعمق خَيْباته!..

*     *     *

مفهوم النفاق في الإسلام

النفاق هو، بإيجازٍ شديد: التظاهر بالإسلام، وإخفاء الكفر!..

المنافق يُظهِر الإسلام ويُبطِن الكفر، فهو غير مؤمن، هدفه الإفساد والفتنة والإضرار بالمسلمين، وهو فاقد المروءة، خطير على المسلمين وأوطانهم، وخطره أعظم بكثيرٍ من خطر العدو المعروف الواضح، لذلك وَصَفَ الله عزّ وجلّ المنافقين، بأنهم هم العدوّ: (..هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ)، فهو، سبحانه وتعالى، لم يقل: هم أعوان العدو، ولا: هم من العدو، بل قال: هُمُ الْعَدُوُّ، فلاحظوا دقّة الوصف!.. وقد أجمل عزّ وجلّ وصفه للمنافقين، بالآية الكريمة الآتية، في سورة البقرة:

(يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) (البقرة:9).

*     *     *

أهم أوصاف المنافقين وصفاتهم

المنافقون لهم صفات كثيرة، وقد وصفهم الله عزّ وجلّ في أكثر من موضعٍ من القرآن العظيم، ولن ندخلَ في تفصيل ذلك كثيراً، بل سنتعرّض لأهم صفاتهم، التي تميّزهم عن غيرهم من الناس، وسنحاول إبراز الصفات الخطيرة، التي تجعل من هذه الشريحة الخسيسة في المجتمع المسلم والأمة المسلمة.. فئةً أخطر على المسلمين من العدوّ الظاهر نفسه، وذلك بالإسقاط على واقع المسلمين اليوم، وعلى محنهم التي يمرّون بها، سواء في سورية أو العراق أو فلسطين، أو في بقية أقطار الأمة العربية والإسلامية!..

على ذلك، يمكن أن نحدّد أهم صفات المنافقين بما يأتي:

1- في قلوبهم مرض: فالمنافقون لا يمتلكون الشجاعة الكافية لإعلان موقفهم الحقيقيّ الذي يواجهون به أهل الإيمان.. فليسوا قادرين على إعلان الإيمان الصريح الواضح، وليسوا قادرين كذلك.. على إعلان إنكارهم للحق، وسبب ذلك، هو المرض الذي يتمكّن من قلوبهم، فيحرفها عن طريق الإيمان:

(فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) (البقرة:10).

2- مفسدون في الأرض يزعمون الإصلاح: وهل بعد النفاق فساد وإفساد؟!.. إنهم مفسدون في الأرض، يسعون لتخريب كل بذرة خير، وكل نبتةٍ طيبة.. وبعد هذا كله، يزعمون أنهم مصلحون، يسعون إلى خير الناس، ذلك لأنّ الموازين عندهم، قد اختلّت، حين أبعدوها عن المقياس الربانيّ الصحيح!.. وهؤلاء المفسدون الذين يزعمون الإصلاح، كثيرون في وقتنا الحاضر.. كثيرون.. كثيرون:

(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) (البقرة:11).

لكنّ الله عزّ وجلّ يفضح حقيقتهم بقولٍ قاطعٍ واضح، فهم -في حقيقة الأمر- المفسدون، الذين يحاربون الإصلاح والصلاح والمصلحين:

(أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ) (البقرة:12).

3- سفهاء زائفون: يتعالون على الناس، ويعتبرون الإيمان والإخلاص لله عزّ وجلّ، ضَربٌ من السفاهة، لكنهم أيضاً في حقيقة الأمر.. هم السفهاء المنحرفون، وهل يعلم السفيه أنه حقاً سفيه؟!..

(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ ..) (.. أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ) (البقرة:13).

4- مخادعون متآمرون: فهم أصحاب مَكرٍ سيئ، يتصفون بالخسّة واللؤم والجبن والخبث، يتلوّنون حسب الظروف، إذ تراهم أمام المؤمنين متستّرين بالإيمان، وأمام الكافرين وشياطين الإنس يخلعون ذلك الستار عن كاهلهم، فيظهرون على حقيقتهم الخسيسة.. وهم في كل ذلك إنما يرومون النيلَ من المؤمنين والإيقاع بهم، والتحريض عليهم، وإلحاق أقصى درجات الأذى بهم، تحت ذرائع خبيثةٍ مختلفة:

(وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ) (البقرة:14).

لكنّ الله عزّ وجلّ، يواجههم بتهديده الرهيب الذي يُزلزل كيانهم، فيزيدهم عمىً وتخبّطاً، ثم يتناولهم ليحشرهم إلى مصيرهم المحتوم، بعد أن يُـمهلهم ولا يُهملهم، ليزدادوا استهتاراً وضلالاً وشططاً وعدواناً على المؤمنين، إلى أن تحين ساعتهم، وعندئذٍ لات ساعة مندم:

(أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) (البقرة:16).

أليسوا هم الذين ارتضوا لأنفسهم هذا المصير؟!.. ألم يكن الإيمان والصلاح وطريق الخير في متناولهم؟!.. ألم يكن الهدى طوع قلوبهم وأنفسهم؟!.. فليذوقوا إذن تبعات مكرهم والظلام الذي ارتضوه لنفوسهم:

(مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ) (البقرة:17).

وليذوقوا وَبَالَ أمرهم ومَكرهم، قلقاً واضطراباً وتيهاً وضلالاً وفزعاً وحَيْرةً، وخُسراناً:

(أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ) (البقرة:19).

وليذوقوا وَبَالَ أمرهم ومَكرهم كذلك، ظلاماً وظُلُماتٍ وعمىً في البصر والبصيرة:

(يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (البقرة:20).

5- غادرون لا عهد لهم ولا ذمّة: يعاهدون الله على فعل الخيرات، ويعاهدون أمّتهم على الالتزام بتحقيق مصالحها، وبما يأمرهم به ربهم، لكنّ قلوبهم خواء، وعقولهم هراء، وشياطينهم وأربابهم المزيَّفون مُتَمَكِّنون من رقابهم، فما أسهل عليهم نقض عهد الله عزّ وجلّ، والغدر بأمّتهم:

(وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ) (التوبة:75 و76 و77).

6- يتولّون الكافرين ويتنكّرون للمؤمنين: زاعمين أنّ العزة عند الكافرين، فيسعون لها عندهم، لكنهم لن يجدوها إلا عند الله العزيز الجبّار، وبالتحامهم بأمّتهم:

(الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) (النساء:139).

7- يتربّصون بالمؤمنين: طالبين الغنيمة إن فاز المؤمنون وانتصروا، ومُنقَلِبين عليهم مع الأعداء الكافرين ضدهم، إن كان الفوز من نصيب أهل الكفر:

(الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) (النساء:141).

8- يفرحون لما يصيب المؤمنين من سوءٍ ومحنة: وكذلك يحزنون لكل خيرٍ أو فرجٍ يمكن أن يتحقّق  لأهل الإيمان، وللمجاهدين في سبيل الله عزّ وجلّ:

(إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) (آل عمران:120).

9- مُرجِفون: فليس لهم من هَمٍ عند المحن والشدائد إلا الإرجاف، والتخويف، وتثبيط العزائم، وإرهاق الهِمَم.. إنهم السوس الذي ينخر في صفوف المؤمنين، محاولين تحقيق ما لم يستطع العدوّ تحقيقه في الأمة، فيشقّون الصفوف، ويثيرون الفتن، ويحاولون زعزعة أي تماسكٍ للمؤمنين:

(وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً) (الأحزاب:12).

10- يَتَوَلَّوْنَ يوم الزحف: فعند وقوع المحنة والبلاء، وحينما تحين ساعة الاستحقاق.. تراهم أول الفارّين، وفي طليعة الخائرين الخائفين، يُوَلّون الأدبار، ويتوارون عن ساحات النـزال الحقيقية، بكل أصنافها وأشكالها وألوانها:

(لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) (الحشر:12).

11- يرفضون الحكم بما أنزل الله ويتحاكمون إلى الطاغوت والأرباب المزيّفين: لأن الحكم بما أنزل الله لا يوافق أهواءهم، ولا يحقق مآربهم، ولا يستجيب لنـزواتهم ومؤامراتهم ومَكرهم.. فهم يؤمنون بما أنزل الله عزّ وجل باللسان والمظاهر الخادعة فحسب، لكنهم لا ينصاعون لحكم الله، بل يصدّون عنه ويحاربونه، ويتّخذون من قوانين البشر الوضعية دِيناً لهم، يأتمرون بأمرها، ويلتزمون بها، ويَذِلّون لأصحابها، لأنها وحدها، تتوافق مع شرورهم ومصالحهم، وسوء طويِّتهم، ووضاعة جِبِلّتهم:

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً) (النساء:60 و61).

*     *     *

اللهم أهلك المنافقين، وافضحهم، وخذهم أخذ عزيزٍ مقتدِر.. ونجّنا وأمّتنا وأوطاننا منهم، ومن مَكرهم ومَكائدهم وشرورهم ونذالتهم.. اللهم آمين.


بسم الله الرحمن الرحيم

قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ

قُبيل معركة (القادسية)، التي هَزَمَ المسلمون فيها الفُرسَ، أرسل القائد المسلم (سعد بن أبي وقّاص) رضوان الله عليه -فيما أرسل- (الـمُغِيرَةَ بن شُعْبة) إلى (رُسْتُم) قائد الفُرس.. ولما دخل (المغيرة) عليه، ورأى مظاهر العبوديّة والاستعباد بين (رستم) وحاشيته، قال لهم: [كانت تبلُغُنا عنكم الأحلام، ولا أرى الآن قوماً أسْفَهَ منكم، وإنا مَعْشَرَ المسلمين سواء، لا يستعبد بعضُنا بعضَاً، وكان أحسن لكم أن تخبروني أنّ بعضَكم أربابُ بعض.. اليوم علمتُ أنّ أمركم مضمحلّ، وأنكم مغلوبون، وإنّ مُلْكاً مثل مُلْكِكُم لا يقوم على هذه السيرة، ولا على هذه العُقول!..]. (أيام العرب في الإسلام، الطبعة الرابعة، ص264).

بعد أن انصرف (المُغيرة) رضي الله عنه، وخرج من عند (رستم)، خرج خلفه رجل من الفُرس ليقول له: [إنّ رستم رجلٌ منجّم، وإنّه إذ رآك حَسَبَ لك ونظر في أمرك، فوجد أنّك غداً تُفقَأ عَيْنك]، فأجابه (المُغيرة) بكل ثقةٍ واطمئنانٍ وعزٍّ: [والله لقد بشّرتني بخير، ولولا أن أجاهدَ بعد اليوم أشباهَكم من المشركين الظالمين، لتمنّيتُ أنّ عيني الأخرى ذهبت أيضاً في سبيل الله!..] . (المصدر نفسه، ص267).

*     *     *

بمثل (الـمُغيرة) رضي الله عنه، هزمَ اللهُ أقوى دولةٍ في الأرض آنذاك.. ولعلّ الهزيمة المنكرة التي لَقِيَها الفُرس وقعت لسببيْن رئيسيّين، حدّدهما بدقّةٍ البطلُ المسلمُ المجاهدُ (الـمُغيرة بن شُعْبة)، هما:

1- ابتعاد العدوّ عن منهج الله عزّ وجلّ، وبالتالي استعبادُ بعضُ الناس بعضَهم الآخر، وممارسةُ الظلم.

2- الإيمان المطلق لدى المسلم المؤمن، بأنّ الله عزّ وجلّ سينصره على أعدائه، بغضّ النظر عن عامل التوازن في القوّة الماديّة.

هكذا كان المسلمون يدكّون عروشَ الجبابرة ويهزمون المشركين، في القادسية واليرموك وحطّين وعين جالوت وبلاط الشهداء و.. وغيرها، إذ تحقّق في تلك المعارك الفاصلة ومثيلاتها، ما لم يعتقد أحد من البشر أن يتحقّق، وزالت دول وأمم كانت تظنّ أنها باقية أبد الدهر!..

*     *     *

في يوم (بَدْرٍ) كانت قوة المسلمين -الظاهرة- لا تعادل ثلث قوة العدوّ، ومع ذلك فإنّ بَدراً كانت (ذات الشوكة)، وكانت الفاصلة التي قصمت العدوّ، وهزمته شرّ هزيمة!.. ذلك العدوّ الذي قدِم إلى (يَثْرِب) وهو في أعلى درجات الثقة، بأنه سيسحق المسلمين، ويستأصل شأفتهم، معتمداً في ذلك على الحسابات الماديّة الصرفة!..

هُزِمَت الشيوعية، وهُزِم (الاتحاد السوفييتي)، وتفكّكت إمبراطوريته الأقوى في الأرض، بعد مقاومةٍ عظيمةٍ قدّم صفحاتها المجاهدون المسلمون الأفغان، على أيدي رجالٍ لا يجدون ما يأكلون، ولا يعثرون على ما يلبسون!..

وكانت قد هُزِمَت (بريطانية العظمى) شرّ هزيمة في أفغانستان كذلك، في أواخر القرن التاسع عشر.. عندما كانت أعظم دولةٍ على وجه الأرض، ولم تستطع السيطرة على البلد المسلم الصغير الفقير، بل خلّفت وراءها آلاف القتلى البريطانيين (الصناديد)!..

*     *     *

قد تمرّ على المؤمنين المجاهدين ظروف صـعبة، وليالٍ حالكات، وقد تُثقَل الكواهل بالأحداث الجِسام.. فما يزيدهم ذلك إلا تعلّقاً بالله عزّ وجلّ، وتَـحرّياً لنصره وحده، وتَوخّياً لتأييده!.. وقد يتآمر المتآمرون، ويتحالف أهل الباطل، ويبيعُ بعضُ الناس شرفَهم وأخلاقَهم ودينَهم بِعَرَضٍ من الدنيا، كما حدّثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنَّ بين يدي الساعة فِتَناً كقِطَع الليل المظلم.. يبيع أقوامٌ أخلاقَهم ودينَهم بِعَرَضٍ من الدنيا] (أخرجه أحمد والطبراني والحاكم).

وقد يدّعي الأشرارُ أنهم أهل خيرٍ يحاربون أهلَ الشرّ، حين تختلّ المعايير، فمثل هؤلاء ينطبق عليهم قوله صلى الله عليه وسلم: [من اقتراب الساعة، أن تُرْفَعَ الأشرارُ وتوضَعَ الأخيار..] (أخرجه الطبراني والحاكم).

وقد يتحالف مع الباطل وأهله أقوامٌ يزعمون انتماءهم إلى الإسلام.. فهؤلاء كذلك ذكرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: [لَيَأتِيَنَّ على الناس زمانٌ يؤمنون بالله ولا يُشركون به شيئاً، ويصومون رمضانَ، ويُصلّون الخَمسَ، وقد سُلِبوا دينَهم، لأنهم رأوا الحقّ فتركوه] (أخرجه ابن وضاح).

وقد تظهر دول وأنظمة، تتشدّق بالباطل، ويُهدِّد رجالُها رجالَ الحق ويتوعّدون، ويُنَظِّرون للهزيمة، ويفلسفون الاستخذاء، ويزوِّرون إرادة شعوبهم، ويتسلّطون على رقاب الناس بالقمع والاستبداد والحديد والنار، ويصادِرون حقوقهم المختلفة.. فهؤلاء أيضاً ذكرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: [سيأتي على الناس سنوات خدّاعات، يُصَدَّق فيها الكاذب، ويُكَذَّب فيها الصادق، ويؤتَمَن فيها الخائن، ويُخَوَّن فيها الأمين، وينطِق فيها الرُّوَيْبِضَة، قيل وما الرُّوَيْبِضَة؟.. قال: الرجل التافه ينطِق في أمر العامّة].

*     *     *

في (غزوة الخندق)، مرّت على المسلمين المجاهديـن في المدينة المنوَّرة أيامٌ عصيبة قاسية حالكة رهيبة: (إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا، هنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً) (الأحزاب:10و11).. مع ذلك، لم يتزحزح المؤمنون المجاهدون عن موقفهم الحق، ولم يتراجعوا أمام الباطل، ولم يساوموه على سلامتهم ونجاتهم.. بل لم يفقدوا ثقتهم بنصر الله عزّ وجلّ، الذي لا نصر إلا نصره: (وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً) (الأحزاب: 22).. بينما كان المنافقون المهزوزون الموتورون، ينظرون إلى القضية من مِنظارٍ آخر مُختَلٍّ قاصِر: (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً) (الأحزاب: 12).. وما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أن بشّر أصحابه المؤمنين.. بنصر الله عزّ وجلّ وتأييده: [أبشِروا بفتحِ اللهِ ونصرِهِ]!.. بل وَعَدَهُم -وهم في تلك الحال من الزلزلة الشديدة- بمُلْكِ كسرى وقيصر، وبفتح بلاد اليمن!..

وانتصر المسلمون المؤمنون المجاهدون في غزوة (الخندق)، بتأييد الله وعَوْنه!.. ثم زال كسرى، وزال قيصر، وفُتِحَتْ بلاد اليمن!..

*     *     *

إنّ القوة المادّية الغاشمة، لن تزيـد قادة الحملات الظالمة وأهلها وأذنابهم، إلا خساراً وهزيمة، مهما حشدوا من مكرٍ وجيوش، ومهما اقترفوا من جرائم واحتلالات، ومهما هدّدوا وتوعّدوا، ومهما تآمروا وكادوا وخطّطوا!.. لأنّ القوة الحقيقية هي قوة الله عزّ وجلّ، التي يَهَبُهَا للمؤمنين الصادقين المجاهدين في سبيله: (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ، بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ) (القمر: 45و46).

لقد كانت دولة الفُرس، التي يحاول أحفادها المجوس الصفويون اليوم، عبثاً، إعادة أمجادها على حسابنا وحساب شعوبنا وأوطاننا ومصالحنا.. كانت أعظم دولةٍ على وجه الأرض، فاستأصلها الله عزّ وجلّ من أرضه، على أيدي الرجال المؤمنين المجاهدين، الذين يعرفون هدفهم وطريقهم الإيمانيّ جيداً.. استأصلها الله في الوقت الذي كانت تنضح فيه جبروتاً وعنجهيةً وغطرسة، وكان هراطقتها يظنّون أنّ الدنيا كلها رهن إشارتهم، أو خاتم في إصبع كافرهم الأكبر كسراهم المدحور الخائب الذليل!..

قُبَيْلَ معركة (القادسية)، اختطف رجالٌ من جيش (رستم) رجلاً من عامّة المقاتلين المسلمين، وأدخلوه على (رستم) الذي سأله: [ماذا تطلبون؟.. قال الرجل: نطلب موعودَ الله، قال رستم: وما موعود الله؟.. قال الرجل: النصر أو الشهادة، قال رستم: فإن قُتِلْتُم قبل ذلك؟.. قال: في موعود الله، إنّ مَن قُتِلَ منا قبل ذلك أُدخِلَ الجنّة، وأنجزَ الله لمن بقي منا حيّاً ما قلتُ لك، فنحن على يقين!.. قال رستم هازِئاً: قد وُضِعْنا إذاً في أيديكم؟.. قال الرجل: وَيْحَكَ يا رستم، إنّ أعمالَكم قد وَضَعَتْكُم، فأسلَمَكُم اللهُ بها، ولا يَغُرَّنَّكَ ما ترى حولكَ، فإنّك لستَ تحاولُ الإنْسَ، وإنما تحاولُ القضاء والقدر!..] (أيام العرب في الإسلام، الطبعة الرابعة، دار الفكر، ص257).. فما أعظم أولئك الرجال، شموخاً وإيماناً وتربيةً وعِزَّاً وفَهماً للإسلام!..

*     *     *

لقد دالت دول، وزالت أمم، كانـت تظنّ أنّ قوّتها الماديّة ستخلّدها إلى يوم القيامة.. وقد كانت أوطاننا الإسلامية مقبرةً لبعض أولئك!.. وستكون بإذن الله مقبرةً أيضاً، لكل حملات العدوان الظالم، أكان هذا العدوان قادماً إلينا من الشرق، أم من الغرب، وذلك مهما حمل إلى عالمنا الإسلاميّ من دمارٍ وخرابٍ وهمجيةٍ وسفكٍ للدماء وقتلٍ وفتكٍ وإرهابٍ ونشرٍ للعقائد الهدّامة!.. ومهما زعم الحاقدون القتلة أنهم ينتمون إلى الإسلام وأهله، بينما هم متواطئون عليه وعلى أهله، مقوِّضون بعقائدهم الشاذّة أركانَه وأسُسَه، مُزَيِّفون لتاريخه المجيد، مُزَوِّرون لسيرة رسوله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم:

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (الروم: 9).


بسم الله الرحمن الرحيم

وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ..

قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً

ينبغي على الداعية المسلم أن يمارسَ العمل الدعويَّ الذي يُحقِّق الإنجازات والنتائج المرجوّة، ولو كرهته نفسه، لأنّ الخير فيه ولا خير في سواه.. فالمجاهد في سبيل الله عزّ وجلّ عليه أن يسيرَ في طريق الجهاد المثمر لا الجهاد الذي تميل نفسه إليه إنْ كانا يتعارضان.. فهناك جهاد منتِج قد لا نُحِبّه أو لا تميل إليه نفوسنا، لأنه شاق صعب مخطَّط، يتطلّب أعلى درجات التنظيم والالتزام والتضحية والصبر والمصابرة.. ولتوضيح هذه القضية سنتناول بالتحليل والشرح، مثالاً: غزوة تبوك.

أ- الظروف النفسية للمسلمين قبل غزوة تبوك:

1- المسافة بين المدينة المنوَّرة وتبوك طويلة، تصل إلى حوالي (700 كم).

2- والناس في شِدّةٍ من الأمر، في سنةٍ جَدْبة، وحَرٍّ شديد، وعُسْرٍ في الزاد والماء:

- حدّثنا بن هشامٍ عن محمد بن اسحق، قال: [إنّ رسولَ الله أمر أصحابَه بالتهيّؤ لغزو الروم، وذلك في زمانٍ من عُسْرة الناس، وشدّةٍ من الحرِّ، وجدبٍ من البلاد، وحين طابت الثمار، والناس يُحبّون الـمُقَامَ في ثمارهم وظلالهم، ويكرهون الشخوص على الحال من الزمان الذي هم عليه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلّما يخرج في غزوةٍ إلا كنّى عنها، وأخبرَ أنه يريد غير الوجه الذي يَصْمِدُ له (أي يقصده)، إلا ما كان من غزوة تبوك، فإنه بيّنها للناس، لبُعدِ الشُّقَّة (أي المسير)، وشدّة الزمان، وكثرة العدوّ، ليتأهّب الناس لذلك أُهبَتَه، فأمر الناسَ بالجِهاز، وأخبرهم أنه يريد الروم] (سيرة ابن هشام ج4 ص125).

- وقال قتادة: [خرجوا إلى الشام عام تبوكٍ في لُهبان الحرّ، على ما يعلم الله من الجَهد، فأصابهم فيها جَهد شديد (أي مشقّة)، حتى لقد ذُكِرَ لنا أنّ الرجلين كانا يَشُقَّان التمرةَ بينهما، وكان النفر (أي: عدد من الرجال) يتداولون التمرة بينهم، يَمُصُّها هذا ثم يشرَبُ عليها ثم يَمُصُّها هذا ثم يشرَبُ عليها] (حياة الصحابة ص563).

- وقال ابن جريرٍ - بإسناده - إلى عبد الله بن عباس، أنّه [قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: حدِّثنا عن شأن العُسْرة، فقال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوكٍ في قيظٍ شديد، فنزلنا منزلاً، فأصابنا فيه عطش شديد، حتى ظننا أنّ رقابنا ستنقطع، وحتى إن كان الرجل ليذهب يلتمس الماء فلا يرجع، حتى ليُظنّ أنّ رقبتَه ستنقطع، وحتى إنّ الرجل لَيَنحَر بعيرَهُ، فيعتصر فرثَهُ (أي: بقايا الطعام في معدته) فيشربه، ثم يجعل ما بقي على كبده] (الظلال ج3 ص1727+ صور من حياة الصحابة ص564).

- وكان الرجلان والثلاثة يتعاقبون على الراحلة الواحدة، ومعنى ذلك، أنّ الواحد منهم عليه أن يسيرَ على قدميه (300-400كم) ذهاباً، ومثلها في الإياب: روى الإمام أحمد قال: [خرجوا في غزوة تبوك، الرجلان والثلاثة على بعيرٍ واحد، وخرجوا في حَرٍّ شديد، وأصابهم عطش شديد، حتى جعلوا ينحَرون إبِلَهُم لينفُضُوا أكراشها ويشربوا ماءها، فكان ذلك عُسْرةً في الماء، وعُسْرةً في النفقة، وعُسْرةً في الظَّهر].

3- وكان المسلمون فقراء، ينتظرون الموسم الذي بذلوا له حتى شَقَوْا برعايته، وقد حلّ وقت القطاف وجَنْي المحصول: قال كعب بن مالك: [وغزا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة، حين طابت الثمار واُحِبَّت الظِّلال..] (ابن هشام ج4 ص137).

4- ومَن سيحارب المسلمون؟!.. سيحاربون (الروم) أو (بني الأصفر)، أقوى دولةٍ في الأرض آنذاك!.. ومما يدل على الرهبة العظيمة من الروم، ما قاله المنافقون الـمُرجِفون أثناء الإعداد للغزوة، إذ قالوا: [يغزو محمدُ بني الأصفر مع جَهدِ الحال والحَرّ، والبلد البعيد؟!.. أيحسب محمدٌ أنّ قتالَ بني الأصفر كقتال العرب بعضُهم بعضاً؟!.. والله لكأنّكُم بأصحابه غداً مُقَرَّنين في الحبال (أي: أسرى)!..] (صور من حياة الصحابة ص562).. كما قالوا: [لا تنفِروا في الحَرّ، شَكّاً في الحق، وزُهادةً في الجهاد، وإرجافاً برسول الله صلى الله عليه وسلم] (ابن هشام ج4 ص126).

لذلك كله، سمّى الله سبحانه وتعالى تلك المرحلة بـ (ساعة العُسْرَة) وسُمِّيَت الغزوة بـ (غزوة العُسْرَة): (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) (التوبة:117).. وقد بيّن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم للمؤمنين أنّ وجهة الجهاد هي تبوك لقتال الروم!..

الجهاد الذي أراده الله عزّ وجلّ ورسولُهُ صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، صعب جداً كما بيّنا، لذلك، فالنفس لا تميل إليه، لاسيما أنه يترافق مع ظروفٍ محيطةٍ قاسية.. لكنه مثمر كما سنرى، وفيه الخير العظيم.

*     *     *

ب- ماذا حصل بعد دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجهاد؟!..

1- لم يتخلّف من المسلمين المؤمنين الصادقين إلا أربعة من الصحابة، أما أولهم (أبو خيثمة)، فقد تغلّب على تثاقله، ولحق برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأدركه حين نزل تبوك، وذلك بعد أن حدّث نفسه قائلاً: [رسولُ الله في الضِّحِّ (أي: الشمس) والريح، والحَرّ!.. وأبو خيثمة في ظلٍّ باردٍ، وطعامٍ مُهَيّأٍ، وامراةٍ حسناء، في مالِهِ مقيم، ما هذا بالنَّصَفْ!.. ثم خرج في طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أدركَه حين نزل تبوك] (ابن هشام ج4 ص128).. وأما الثلاثة الآخرون، فقد بقوا في المدينة مع أكثر من سبعين منافقاً، متخلِّفين عن الجهاد وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومُرارة بن الربيع.

2- وحين فقدوا الماء أنزل الله عليهم -في ذلك الحَرّ الشديد- مطراً غزيراً لم يُجاوز حدودَ معسكرهم، وكان ذلك إكراماً من الله عزّ وجلّ للمؤمنين الصادقين، وذلك من سَحابةٍ بدأت تتشكل أمام نواظرهم: [فلما أصبح الناسُ ولا ماء معهم، شَكَوْا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ربَّــــه، فأرسل الله سبحانه سحابةً، فأمطَرتْ، حتى ارتوى الناس، واحتملوا حاجتهم من الماء] (ابن هشام ج4 ص130).. ويقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [ثم ذهبنا ننظر، فلم نجدها جاوزت العسكر!..] (صور من حياة الصحابة ص 564).

3- وحين فقدوا الزاد والطعام، أمرهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يجمعوا ما عندهم من فضل الزاد القليل، على بساطٍ بسطه أمامه، ثم باركه، فلما فعلوا ذلك، أمرهم أن يأخذَ كلٌّ منهم حاجته، فأخذوا جميعاً وملؤوا أوعيتهم حتى اكتفوا، وبقي منه فضلة: روى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: [لما كانت غزوة تبوك، أصاب الناسَ مجاعةٌ، فدعا عليه الصلاة والسلام بنطْعٍ فبسَطَهُ، ثم دعاهم بفضل أزوادهم، ثم دعا عليه بالبركة، ثم قال لهم: خذوا في أوعيتكم، فأخذوا في أوعيتهم، حتى ما تركوا وعاءً في المعسكر إلا مَلؤوه، وأكلوا حتى شبعوا، وفضلت منه فضلة..] (رواه أحمد في مسنده).

4- وَفَــــرَّ العدوُّ مُنسحباً، ولم يواجههم، فكان نصراً عظيماً مجيداً أمام رعايا إمبراطورية الروم، وأمام العرب كلهم: [قال عمرُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروم: يا رسول الله: إنّ للروم جموعاً كثيرةً، وقد دنوتَ منهم، وقد أفزعهم دُنُوُّكَ..] (صور من حياة الصحابة ص566).

5- وأَسَرَ المسلمون الملكَ أُكَيْدِر، ملكَ (دومة الجندل)، من غير قتال، وكان أقوى ملكٍ عربيٍ آنذاك، ومن أشدّهم وطأةً على المسلمين، ما أرهب قبائل العرب كلها، وأصبح هذا الملك حليفَاً للمسلمين، يدفع الجزيةَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صاغر، ويكفّ أذاه عن المسلمين.

6- وصَالَـحَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم نصارى العرب التابعين لدولة الروم: (أيْلة وأذرُح وجَرباء ودومة الجندل..)، على أن يدفعوا الجزيةَ، ويدخلوا في أمان الإسلام وعَهْده، وأمّن بذلك -عليه الصلاة والسلام- حدودَ الجزيرة العربية (الدولة الإسلامية) من ناحية الشمال.

7- وعاد الجيش الإسلاميّ فوق ذلك كله، من غير أن يُخْدَشَ منه رجل واحد، ومن غير أن تُبذَلَ قطرة دمٍ واحدة!..

*     *     *

ج- النتائج:

1- إنّ هذه المسيرةَ التي لا نظير لها في تاريخ الإنسانية، قد علّمت الصحابةَ، وكلَّ مسلمٍ إلى يوم الدين، أنّ الجهاد الذي يُحِبّونه ولا تميل أنفسهم إليه، بتأخير الغزوة حتى تنضجَ الثمار، ويخفَّ الحَرّ، ويكثر الزاد والظَّهر، ليس -بالضرورة- هو الجهاد المثمر.

2- وإنّ عليهم أن يخرجوا إلى الجهاد المنتج المثمر، ولو كان جهاداً لا تهواه أو لا تميل إليه نفوسهم في ذلك الظرف، وذلك مهما تحمّلوا من مشقةٍ نفسيةٍ ومادّية.. فالمنافق وحسب، هو الذي يتخلّف عن الجهاد وعن العمل في سبيل الله، ويضع لنفسه العراقيل والأعذار: (وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ) (التوبة:81).

3- وقد خرج عن إجماع المسلمين، الذين بلغ عددهم في تلك الغزوة (تبوك) ثلاثين ألف مجاهد.. خرج عن إجماعهم ثلاثة رجالٍ فحسب، كاد يُخرِجهم تخلّفهم عن دينهم وإسلامهم، عندما حكم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عليهم بالمقاطعة، ثم بتفريقهم عن زوجاتهم (ولا يفرَّق عن زوجته المؤمنة إلا الكافر)، وذلك حتى يَبُتَّ اللهُ عزّ وجلّ في أمرهم.. ولولا صدق توبتهم، وسابقتهم العظيمة في صف المؤمنين وميادين الجهاد، وحُسن إيمانهم، ومعاهدتهم الله على ألا يكرّروا تخلّفهم.. لما تاب الله عليهم: (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (التوبة:118).

4- وقد فضح الله سبحانه وتعالى المنافقين المتخلِّفين عن الجهاد، الذين تقاعسوا وأرجفوا وخذَّلوا.. فضحهم فضيحةً كبرى، ووبَّخهم، وقرّعهم، ووصفهم بالسقوط والخِسّة وتفاهة الغرض، لأنهم لا ينشطون إلا للأغراض الزائلة والمنافع العاجلة: (لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) (التوبة:42).. كما وصفهم الله عزّ وجلّ بالجبن والخَوَرِ والعجز وانعدام المروءة: (وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ*لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ*.. رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) (التوبة:56،57، 87).

*     *     *

د- النتيجة النهائية: القاعدة الأساسية في بناء الأخ أو الإنسان المسلم:

1- إنّ المسلمَ، قد يقوم بأعمالٍ دعويةٍ جهاديةٍ يُحِبّها، لسهولتها وطراوتها وإمكانية أدائها من غير مَشقّة، لكن عليه أن ينبذَ هذه الأعمال من غير تردّد، إن كانت غير العمل المثمر الذي تقرّره خطّته وتطالبه به أمّته، مهما كلّفه ذلك من عناءٍ نفسيّ، وجهدٍ شاقٍ مضنٍ، جسدياً كان أم نفسياً أم مادياً.

2- ومن غير هذا الالتزام الدقيق بالجهاد المثمر المنتِج المقرَّر بالخطط والبرامج العلمية، لن يتحقّق نصر، ولن تقوم للإسلام قائمة، إذ تصبح الأهواء المتقلّبة والأمزجة هي الطاغية، وهي صلب العمل والتنفيذ.. والأهواء لا تُنتِج خيراً، ولا تُقَدِّم للإسلام نصراً، ولا تدفع عنه نكبةً أو خطةَ عدوّ، أو مكرَ الماكرين المتربِّصين: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ*التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ، وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (التوبة:111، 112).


بسم الله الرحمن الرحيم

فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً

إن كان علينا أن نلتزمَ بنوعٍ من الدعوة أو الجهاد، فعلينا أن نلتزمَ بالعمل الدعويّ أو الجهاد المثمر، ولو كنا لا نُحِبّه أو لا تميل إليه نفوسنا، فطريق الدعوةِ متشعّب واسع، واختيار السبيل المنتِج هو المهم، لأنه وحده الذي يوصِلنا إلى الهدف المنشود.. علينا أن نمارسَ العملَ المثمر، الذي قد لا نُحبّه مع أنّ فيه الخير الكبير، ونبتعدَ عن الأعمال العقيمة غير المثمرة، التي قد تُحبّها نفوسنا، وتميل إليها، وتَنجرّ لممارستها، مع أنها لا تُفضي إلى ما نهدف إليه من نتائج مهمةٍ مدروسة.

*     *     *

لقد أخبر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أصحابَه في المدينة المنوّرة، أنّ الله عزّ وجلّ سيفتح عليهم مكة، وذلك بعد رؤيا رآها، إذ رأى أنه يدخلُ مكةَ ويَطَّوَّفُ بالبيت العتيق.. فامتلأت نفوسُ المسلمين بالغبطة والسعادة لأسبابٍ متعدّدة:

1- فالمهاجرون من وطأة الظلم والعذاب، سوف يعودون إلى وطنهم، وسيعودون إلى أهليهم الذين ابتعدوا عنهم، وسيعود إليهم ما فقدوه في الوطن، من الأرض والمال والمتاع.

2- والمستضعَفون من إخوانهم، الذين لم يتمكّنوا من الهجرة، أو الذين منعتهم قريش عنها، وسلّطت عليهم ألوان العذاب.. هؤلاء، سوف يلتحمون مع إخوانهم المهاجرين، وستعمّ الفرحةُ مكةَ، وكذلك المدينةَ المنوَّرة، وسيتخلّص المظلومون من الظلم والأذى والطغيان والعذاب.

3- وستزول من وجه الإسلام والمسلمين أعظمُ عقبة، تَحول دون دخول الناس في هذا الدين الجديد العظيم، هي عقبة قريشٍ ومكّة: عاصمة الجزيرة العربية، وحاضرة العرب وقائدتهم.

4- وسوف تصبح مكةُ التي فيها قِبلة المسلمين.. تحت نفوذهم، يؤدّون فيها شعائر الحج والعمرة متى أرادوا.

5- وسوف يُحَجِّم المسلمون المؤمنون نفوذَ معذِّبيهم ومشرِّديهم من كفار قريش، الذين ما تركوا وسيلةً لإيذائهم إلا اتّبعوها، سواء أكان ذلك في مكة نفسها، أو من خلال العدوان العسكريّ في بدرٍ وأُحُدٍ والخندق وغيرها.

لذلك كله، كانت فرحة المسلمين عارمةً، وكان الهدف كبيراً، وبما أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم هو الذي أخبرهم، وبشّرهم بأنّ الفتح حاصلٌ لا شكّ في ذلك، فالنتيجة إذن مؤكدة لا ريب فيها.

*     *     *

الجهاد لفتح مكة يُحبّه المؤمنون المسلمون الأطهارُ كلهم، لذلك فهم يمتلئون شغفاً وحماسةً لممارسة هذا النوع من الجهاد المبارك..

لكن ما الذي حصل؟!..

أ- لقد وقّع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم معاهدةَ صُلحٍ مع قريشٍ ومشركي مكة، مدّتها عشر سنوات، فلم تُفتَح مكة، بل حسب بنود الصلح، لن تُفتحَ خلال السنوات العشر التالية للتوقيع.. على الإطلاق.

ب- وأصيب المسلمون بصاعقةٍ نفسيةٍ مروّعة:

1- فالمهاجرون لن يعودوا إلى وطنهم، ولن يعود إليهم ما فقدوه هناك.

2- ومكة، حاضرة العرب، ستبقى يحكمها طغاة قريشٍ المشركون، وقِبلةُ المسلمين ستبقى بأيديهم.

3- ولن تزولَ من وجه الإسلام والمسلمين تلك العقبة الكأداء، التي تَحول دون دخول الناس في الإسلام، هي عقبة قريشٍ ومكة.

4- والمستضعفون لن ينضمّوا إلى إخوانهم المهاجرين، بل الأشدّ من ذلك، أنه –بموجب بنود الصلح- يتوجّب على المسلمين، أن يُعيدوا مَن يَفــرّ من إخوانهم الذين يؤمنون ويدخلون الإسلام في مكة.. إلى قريشٍ ومشركيها، بينما بالمقابل، لن يُعيدَ مشركو قريشٍ إلى المسلمين، مَن يمكن أن يفرَّ إليهم، مرتداً عن دينه من المسلمين!..

*     *     *

لتوضيح عِظَمِ الصاعقة النفسـية التي أصابت المسلمين، نتيجة هذا الصلح (الحديبية) نذكر بعض المواقف المؤثرة، لنتأمّل فيها:

الموقف الأول: الفاروق عمر بن الخطاب مع أبي بكرٍ الصدّيق رضي الله عنهما:

[فلما التأم الأمرُ، ولم يبقَ إلا الكتاب، وثبَ عمر بن الخطاب فأتى أبا بكرٍ، فقال: يا أبا بكر، أليس برسول الله؟.. قال: بلى، قال: أوَلَسْنا بالمسلمين؟.. قال: بلى، قال: أوَلَيسوا بالمشركين؟.. قال: بلى، قال: فعَلامَ نُعطي الدَّنِيَّةَ (أي: الذل والهوان والصَّغَار) في ديننا؟.. قال أبو بكر: يا عمر، إلزم غَرْزَه (أي: لا تَحِد عن طريقه صلى الله عليه وسلم، ولا تختر لنفسك إلا ما اختاره) فإني أشهدُ أنه رسول الله، قال عمر: وأنا أشهدُ أنه رسول الله] (سيرة ابن هشام، ج3 ص247).

الموقف الثاني: الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم:

[ثم أتى عمرٌ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ألستَ برسول الله؟.. قال: بلى، قال: أَوَلَسنا بالمسلمين؟.. قال: بلى، قال: أَوَلَيسوا بالمشركين؟.. قال: بلى، قال: فَعَلامَ نُعطي الدَّنِيَّةَ في ديننا؟.. قال: أنا عبدُ الله ورسوله، لن أخالِفَ أمرَه، ولن يُضَيِّعَني] (سيرة ابن هشام ج3 ص247).

وفي روايةٍ ثانيةٍ في الصحيحين [أنّ عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه قال: فأتَيتُ نَبيَّ الله صلى الله عليه وسلم فقلت: ألستَ نبيَّ الله حقاً؟.. قال: بلى، قلت: ألستَ على حقٍّ وعدوّنا على باطل؟.. قال: بلى، قلت: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟.. قال: بلى،.. قلت: أوَلَستَ كنتَ تُحَدِّثنا أنّا سنأتي البيتَ فنطّوَّف به؟.. قال: بلى، أفَأخبرتكَ أنّك تأتيه العام؟.. قلتُ: لا، فقال صلى الله عليه وسلم: فإنك آتيه ومُطَّوِّف به]!.. (متّفق عليه – مختصر ابن كثير ص1748).

يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [ما زلتُ أتصدَّقُ وأصوم وأصلّي وأعتِق، من الذي صنعتُ يومئذٍ، مخافة كلامي الذي تكلمتُ به، حتى رَجَوتُ أن يكونَ خيراً] (سيرة ابن هشام ج3 ص247). ويقول ابن كثير: [فلما ساروا عامَ الحديبية، لم يَشُكّ جماعةٌ منهم، أنّ هذه الرؤيا تتفسّر هذا العام، فلما وقع ما وقع من قضية الصلح، ورجعوا عامَهم ذلك، وقع في نفس بعض الصحابة رضوان الله عليهم من ذلك شيء]!.. (مختصر تفسير ابن كثير ص1749).

الموقف الثالث: بعد توقيع الكتاب (المعاهدة):

[فلما فرغ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من قضية الكتاب قال لأصحابه: قوموا فانحروا ثم احلقوا، فَوَالله ما قام منهم رجل (من شدّة الصاعقة النفسية التي ألَـمَّت بهم بتوقيع الصلح)، حتى قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ذلك ثلاث مرات!.. فلما لم يَقُم منهم أحد، دخل صلى الله عليه وسلم على أمّ سلمة رضي الله عنها، فذكر لها ما لقيَ من الناس، فقالت له: يا رسول الله: أتُحِبّ ذلك؟.. أُخْرُج ثم لا تُكلِّم أحداً منهم كلمةً، حتى تنحرَ بُدْنَكَ وتدعو حالِقَكَ فيحلِقَكَ، فخرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فلم يكلِّم أحداً منهم حتى فعل ذلك، نحرَ بُدْنَهُ ودعا حالِقَهُ فحلقه.. فلما رأوا ذلك (أي الصحابة)، قاموا فنحروا، وجعل بعضُهُم يحلِقُ بعضاً، حتى كاد بعضهم يقتلُ بعضاً غمّاً] (مختصر ابن كثير ص1748).

ثم عاد الجيشُ من غير فتحٍ ولا نصرٍ (على ما يراه الناس).

وفي الطريق بين مكة والمدينة، نزلت سورة الفتح تُبَشِّر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ومَن معه من المسلمين، بأنّ النصر سيتم لا محالة: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) (الفتح:1).. فكان الفتح في صُلح الحديبية، كما قال المفسرون، وكما قال ابن مسعودٍ رضي الله عنه: [ونحن نَعُدّ الفتحَ صُلح الحديبية]. (مختصر ابن كثير ص1735). إلى أن قال سبحانه وتعالى: (لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيبا ً* هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً) (الفتح:27 و28). 

لقد كان صُلحُ الحديبية هو الفتحُ القريب الذي قدَّره الله عزّ وجلّ، وأكّده سبحانه وتعالى في سورة الفتح، بأنّ رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم ستتحقّق بإذن الله، إذ كانت بشارةً بالنصر المبين، وبأنّ هذا الدين (الإسلام) سينتصر على جميع الأعداء والمشركين، وسيُظهِره اللهُ على الدين كله، ودَعَّم ذلك بكفالته سبحانه وتعالى، وبشهادته على أنّ هذا الأمر سيحصل لا ريب في ذلك: (وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً).

*     *     *

ما الذي حصل بعد ذلك؟!..

1- بدأت قبائلُ الجزيرة العربية تدخل الإسلام: [فلما كانت الهدنة، ووُضِعت الحرب، وأمِنَ الناس بعضُهم بعضاً، فلم يُكلَّم أحدٌ بالإسلام يَعقِلُ شيئاً إلا دَخَلَ فيه، ولقد دَخَلَ في تِينك السنتَيْن مثلُ مَن كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر] (سيرة ابن هشام ج3 ص25). ودليل ذلك، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في السنة السادسة للهجرة إلى الحديبية بألفٍ وأربع مئةِ رجلٍ مجاهد، ثم خرج بعد سنتين اثنتين فحسب، لفتح مكة (بعد نقض المشركين المعاهدة)، أي في السنة الثامنة للهجرة.. خرج في عشرةِ آلاف رجلٍ مجاهد، أي بأكثر من سبعة أضعاف عددهم يوم الحديبية!..

2- وخلال هاتين السنتين، فُتِحَت خيبر وقُضِيَ على أعظم قوةٍ لليهود آنئذٍ في الجزيرة العربية وآخرها، وتمّت عُمرة القضاء التي أفقدت قريشاً هيبتَهَا، ووقعت غزوةُ مؤتة التي أرهبت الروم، وأُرسِلَت السرايا، وأُنجِزَت مُكَاتبة ملوك الأرض، لدعوتهم إلى الإسلام ودين الحق!..

3- بعد سنتين من معاهدة الحديبية، نقض المشركون تلك المعاهدة، وفُتِحَت مكةُ من غير إراقة دماء، وتحقَّق للمسلمين المؤمنين المجاهدين الأطهار أعظمُ مما أمِلوه:

إذ عادوا إلى وطنهم، وانضمّ المستضعَفون إليهم ينعمون بإخوانهم وأهليهم، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، بعد أن زالت العقبة الكأداء من أمامهم (عقبة قريش)، وعادت حاضرة العرب (مكة) إلى المسلمين، وأصبحت قِبلةُ المسلمين بأيديهم، يُقيمون عندها شعائرَ الحج والعمرة.. وهكذا، انتهى عَقْدُ الصلح بين المسلمين والمشركين بعد سنتين فحسب، وليس بعد عشر سنوات كما كان مقرَّراً، لأن قريشاً نقضت العهد كما ذكرنا!.. وبهذا، تبيَّن للمسلمين جميعاً، أنّ الجهاد المثمر كان صلح الحديبية أولاً، ثم فتح مكة من غير إراقة الدماء ثانياً، لا الجهاد الذي أحبّوه وأرادوه واستعجلوه، وهو فتح مكة بالحرب وإراقة شلالاتٍ غزيرةٍ من الدماء!..

*     *     *

إنه الجهاد المثمر الـمُنتِج، الذي ينبغي على الداعية المسلم أن يمارسَه، ولو كرهته نفسه، لأنّ الخير فيه، ولا خير في سواه.


بسم الله الرحمن الرحيم

فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّه

حين ينشط الثوار، فإنهم ينشطون بنفسٍ يملؤها الأمل بالنجاح والفوز والنصر.. لكن حين لا تحمل الأماني الإحساسَ بثقل الواجب وما يحتاجه من تضحيات.. فإنّ بعضَ هؤلاء الأبناء تنحني نفوسهم أو تنكسر، تحت صدمة المعوّقات التي تُعرقل حركتهم ونشاطاتهم ومشروعهم الحق، فتتراخى وتيرة أعمالهم، أو يغادرون الصفوف قانطين مُحبَطين مُستسلمين لنتائج الامتحان الذي يمرّون به!.. وهل المعوّقات قليلة في طريق الحرية والتحرير؟!..

مَن منا لا يتشوّق للانتصار؟!.. ومَن مِن أبناء الثورة السورية لا يَحِنّ إلى نصرٍ عزيزٍ كريمٍ، يهبه الله عزّ وجلّ للعاملين في سبيله وحده لا شريك له؟!..

إنّ مشروعات التغيير وترسيخها ونشرها واستمرارها.. تحتاج إلى نوعٍ من الرجال، ثقيل القيمة، عظيم الهمّة، يحلو لهم الموت على طريق التحرّر من الاستبداد والعبودية لغير الله عزّ وجلّ، ويعملون لهدفٍ واضحٍ بعيداً عن الشعور بالعجز، وعن استبعاد النصر.. فالمخلصون الثابتون على الحق لا يشغلهم إلا تأدية رسالة، مع السعي لنيل رضى الله عزّ وجلّ في الدنيا والآخرة.

عندما يتهاوى أصحاب النـفوس الهشة، الذين يَضيقون ذرعاً بالصبر ويضيق الصبرُ بهم، لا يثبت في صفوف العاملين تحت لواء التحرير إلا أبناء العقيدة الصافية والنفوس المتينة الصلبة، الذين تُبنى على أكتافهم الأمم، وتُحمَل على كواهلهم رفعة الأوطان والشعوب.. فهؤلاء وأمثالهم، يكون جهادهم وبذلهم أغلى عندهم من حياتهم، وتكون أهدافهم أثقل في نفوسهم من أرواحهم، ويكون مصير وطنهم وأمّتهم وشعبهم شغلهم الشاغل!..

*     *     *

لقد أخبرنا القرآن العظيم في محكم آياته، أنه حين استيقظ الإيمان في نفوس بني إسرائيل، وانتفضت العقيدة في قلوبهم، واشتاقوا لقتال عدوّهم.. طلبوا من نبيّهم أن يجعلَ لهم مَلِكاً يقودهم لمواجهة أعدائهم في سبيل الله عزّ وجلّ، وذلك بعد أن ضاع مُلْكُهُم، وذلّوا لعدوّهم الذي استباح أرواحَهم وأبناءَهم وأموالَهم وأعراضَهم، فذاقوا الويل، وضاعت مقدّساتهم: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ..) (البقرة: من الآية246).. لكنّ نبيّهم خشي ألا يثبتوا على هذه الحال الإيمانية الجديدة المشرقة، فسألهم: (.. قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا؟!..) (البقرة: من الآية246).. فأجابوه بالحجة المقنِعة وبشكلٍ قاطع، بأنهم سيقاتلون في سبيل الله لـِمَحْوِ العار الذي لحق بهم: (.. قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا؟!..) (البقرة: من الآية246).. لكن بعد أن كُتِبَ عليهم القتال، فأصبح فرضاً عليهم.. بدأت صفوفهم تختلّ، فنقض معظمهم العهدَ، ونكصوا بوعدهم: (.. فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)!.. (البقرة: من الآية246).. فتساقط الكثيرون منهم في أول امتحان، بمجرّد تلبية طلبهم وفرض الجهاد عليهم، فوصفهم سبحانه وتعالى بالظالمين، لأنهم عرفوا الحق وحادوا عنه، وعرفوا الباطل وتخاذلوا عن مواجهته، وتولّوا عن طريق الجهاد الذي طلبوه في ساعة (فورةٍ)، فظلموا أنفسهم، وخذلوا نبيّهم، وخانوا طريقَ الحق الذي تخلّوا عنه لصالح الباطل!.. وكان هذا هو التمحيص الأول لصفوفهم!..

ثم بعث الله عزّ وجلّ لهم مَلِكاً –بناءً على طلبهم- وطلب منهم نبيّهم أن يُطيعوه ويلتزموا بأمره ويقاتلوا تحت لوائه.. لكنهم تقاعسوا، واستنكروا أن يكونَ (طالوت) هو الملك المنتَظَر، لأنهم يرون –حسب عقليّتهم القاصرة- أنهم أحقّ منه بالـمُلْك، فهو ليس من سلالة الملوك الذين يدينون لهم بالوراثة، وكذلك ليس من أصحاب المال والجاه، فلم يقبلوا به: (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَال؟!..) (البقرة: من الآية247).. فبيّن لهم نبيّهم أنّ الله سبحانه وتعالى قد اصطفى (طالوتَ) عليهم، لامتلاكه ميّزاتٍ أهّلته أن يكون مَلِكاً مُنقِذاً لهم، سينقذهم مما هم فيه من الذلّ والضياع، فقد منحه الله عزّ وجلّ قوّةً في الجسم، وسعةً في العلم والعقل، وهما الأمران الأساسيان الضروريان لأيّ زعيمٍ أو قائدٍ يريد أن يواجه عدواً ظالماً وباطلاً عاتياً، ثم ذكّرهم بأنها مشيئة الله وإرادته أولاً وآخراً: (.. قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (البقرة: من الآية247).

*     *     *

بعد أن أعدّ الملكُ (طالوت) الجيشَ للجهاد في سبيل الله، سار به، وهو يعلم أنّ أساس النجاح في الحرب هو: الطاعة، لاسيما الطاعة على إهدار الشهوات في سبيل تحقيق أمر الله عزّ وجلّ، ورغب (طالوت) أن يختبِرَ ذلك فيهم، فقال لهم بعد سيرٍ طويلٍ شاق: نحن مُقبِلون على نهر، فلا تشربوا منه إلا بمقدار ما يملأ الكف، أي يشرب كل منهم قليلاً من الماء فحسب.. لكنّ معظمهم شربوا ما يحلو لهم، ولو استطاعوا ابتلاع النهر كله لما قصّروا!.. عاصين بذلك أوامر مَلِكهم وقائدهم (طالوت): (فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ..)!.. (البقرة: من الآية249).. فأصدر الملك القائد (طالوت) أوامره، أوجب بها مغادرة الجيش، على كل مَن شرب زيادةً عما سمح لهم به، لأنّ مَن لم يلتزم بالتعليمات، فقد أخفق في امتحان الطاعة لقائد الجيش.. وكان هذا هو التمحيص الثاني للصف!..

وعندما سار (طالوت) بمن بقي معه من الجيش، فزع بعضهم من ضخامة جيش العدوّ (جالوت)، وخافوا على دنياهم وأنفسهم، لأنهم يريدون نصراً هيّناً ليّناً سهلاً، وقالوا: لا قدرة لنا على مواجهة هذا الجيش العرمرم، فلنعد إلى حيث كنا، فهؤلاء قوم كثيرون أقوياء، ونحن قليلون ضعفاء!.. لكنّ المؤمنين الصادقين منهم أعلنوا رفضهم مغادرة الجيش أو التخلّي عن مواجهة العدوّ، حتى النصر أو الشهادة في سبيل الله، لأنهم كانوا يقيسون الأمور بمقياسٍ آخر، مقياس المؤمن الموقن أنّ النصر من عند الله عزّ وجلّ وحده، يمنحه لمن يشاء من عباده الصادقين المؤمنين الثابتين على الحق، الذين لا تهزّهم كثرة العدوّ ولا وطأة مؤامراته، ولا القوى التي تسنده وتدعمه، ولا الخذلان الذي يواجههم به مَن حَوْلَهم:

(.. فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (البقرة: من الآية249).

وهكذا، غادر الصفَّ فوج آخر من المواربين المتخاذلين، ولم يبقَ إلا الصابرون المؤمنون المجاهدون في سبيل الله حَقّ جهاده، الذين يستمدّون القوّةَ من الله عزّ وجلّ وحده، لأنهم يعلمون أنّ ميزان القوى ليس في أيدي الأعداء أو أحدٍ من البشر، وإنما بيده سبحانه وتعالى وحده، فطلبوا النصر من اليد التي تملكه وليس من الأيدي المزيَّفة الواهمة التي لا تملكه!.. فكان ذلك هو التمحيص الثالث للصفّ والجيش.

*     *     *

لم يبقَ في الصفّ أو الجيش إلا الفئـة القليلة الـمُمَحَّصة الواثقة المؤمنة الصابرة، الثابتة على الحق على الرغم من كل ما أحاط بها من إرجافٍ وعوامل إحباط.. هذه الفئة التي لم تزلزلها كثرة العدوّ ولا قوّته، هي التي توجّهت إلى الله عزّ وجلّ، خالقها، وربها، ومُدبِّر أمرها وأمر كل شيءٍ في هذا الكون، طالبةً منه النصرَ والفوز والدعم والتأييد: (وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) (البقرة:250).. إنها الفئة الربّانية التي قرّرت –بإذن الله- مصيرَ المعركة الفاصلة، بموازين السماء لا بموازين الأرض، بعد أن أعدّت ما تستطيع من عدّةٍ وعتاد: (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّه..) (البقرة: من الآية251).. فكانت نهاية الملك الجبار الـمُرعِب الظالم (جالوت) الذي أفزع أقوياء الرجال وأشدّاءهم.. كانت على يد الفتى الصغير (داوود) بإذن الله: (.. وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) (البقرة: من الآية251).

*     *     *

بذلك، فقد شاءت إرادة الله سبحانه وتعالى، أن يُعلِّمَ الفئةَ المؤمنةَ، في كل زمانٍ ومكان، أنّ الجبابرة الذين يُرهِبون الناسَ ويستبدّون بهم ويقمعونهم، هم أضعف الناس عندما يشاء الله عزّ وجلّ أن يقهرَهم، على أيدي الفئة المؤمنة الطاهرة، فلم تكن نتيجة الصراع بين قوم طالوتٍ وقوم جالوتٍ حدثاً تاريخياً عابراً، وإنما هي سنّة من سنن الله عزّ وجلّ في أرضه.. فهل نتعلّم، ونتدبّر، يا أبناء الثورة السورية المبارَكَة، المنتصرة بإذن الله الذي لا ناصر سواه؟!..

وسوم: العدد 724