الإنسان الكامل، هذا ما قالته زوجته !

كلّ الذين عرفوه أحبّوه ... كلّ الذين دنوا منه هاموا به ... كلّ الذين عاشروه سلبهم قلوبهم ... كلّ الذين رأوه خارج بيته أقسموا أنه بلغ من النُّبل حداً لا يستطيعه غيره، ومن المثالية درجة يستحيل أن يرقى لها سواه ! ولكنهم كانوا يريدون أن يعرفوا كيف هي حاله إذا دخل بيته وأغلق عليه بابه ... لم يكن ثمة سبيل سوى أن يسألوا زوجته، فالزّوجة في البيت كما الصّندوق الأسود في الطائرة، تحتفظُ بكلّ البيانات، وتسجل أدقّ التفاصيل !

أخبرتهم زوجتُه أنه لم يكن يدخل بيته إلا مبتسماً، وأنّ ثيابه كانت دوما نظيفة وإن لم تكن جديدة، ورائحته كلّ الوقت عطرة !

وأخبرتهم أيضاً أنه كان لطيفاً معها، إذا وجد في ثوبه عيباً أصلحه كي لا يرهقها، وإذا تشقق نعله خصفه بيده لأنه لم يكن يرى في هذا منقصة !

وأخبرتهم أنه كان يطعهما بيده، وأنه أحياناً يطعمها نصف اللقمة ويأكل نصفها الآخر، وأنها إذا شربتْ من الإناء، أخذه وأداره ووضع فمه حيث وضعتْ فمها وشرب ! كانت تلك طريقته ليخبرها أنه يُحبّها !

وأخبرتهم أنه كان يستمع لشكواها مهما كانت بسيطة، ويهتم بأمورها مهما كانت صغيرة، رغم أنه كان يحمل من الهم ما لو حملته الجبال لناءت تحته !

وأخبرتهم أنه كان يضع رأسه في حجرها كأنه طفل صغير، ما كأنه ذاك السياسيّ الذي يجهز الجيوش، ويعقد الأحلاف، ويقيم صلحاً هنا، ويغزو قوماً هناك !

وأخبرتهم أنهما إذا خرجا إلى الصحراء تسابقا، وأنها سبقته مرة فلم يجد حرجاً، فلم يكن يغار من نفسه!

وأخبرتهم أنه جعل لها اسماً يدللها به، لم يخطر حتى على بال أبيها الذي أحبها أن يناديها به، وأنه لم يكن يجد حرجاً أن يُخبر الناس أنه يُحبها، ويشهد عمرو بن العاص أنه سأله مرة : من أحبّ الناس إليك يا رسول الله ؟ فقال له : عائشة !

هكذا كان في بيته بأبي هو وأمي

إن كان عندك همّ فالأمة كلها كانت همّه، وإن كان عندك مسؤولية فالبشرية كلها كانت مسؤوليته، إن كنت تقارع في شركتك ومتجرك وورشتك ووظيفتك فقد كان يُقارع جزيرة العرب بالإضافة لإمبراطورتين قربها، إن كنت تُجالس الوزراء فقد كان يجالس جبريل، وإن كنت تفد على الملوك فقد صعد إلى السماء السابعة بدعوة ملك الملوك !

إنّ همومنا مقابل همومه صغيرة، ومسؤولياتنا مقابل مسؤولياته وضيعة، ولكنه كان يعرف أن واجب النبوة لا يُسقط واجب الزّوج، واهتمامه بالناس لا ينبغي أن يشغله عن الاهتمام بزوجته، لهذا لم يكن يحضر إلى البيت بجسده فقط، وإنما كان يحضر بقلبه، أراد أن يخبرنا أن الاهتمام يجعل البيوت دافئة، والتفهم والتسامح والتغاضي تجعل البيوت جنّة، أراد أن يخبرنا أن الدلال أهم من الستائر والطلاء والتحف والزخارف، لم يكن لديه الكثير من المال ليقدمه، ولكنه قدّم ما هو أهمّ، قدّم قلبه !

صلوا على صاحب الخلق الحسن شفيعنا يوم المعاد وعلى آله وصحبه اجمعين.

وسوم: العدد 732