الخاطرة ١٧٠ : الأنبياء ومراحل تطور الإنسانية الجزء ٢

خواطر من الكون المجاور

ذكرنا في الجزء الأول أن حياة النبي يوسف تمثل بداية ولادة الإنسانية وهي ترمز إلى مرحلة الطفل الرضيع حيث أن إدراكه في هذه المرحلة لما يجري حوله يكون بشكل كامل من خلال إحساساته الروحية فقط ، لأن إدراكه العقلي في بداية هذه الفترة يكون معدوم نهائيا ولكنه يبدأ في النمو تدريجيا ، وهذا هو سبب شدة غموض طبيعة عصر الأهرامات ، فنحن اليوم نحاول أن نفسر ألغازه عن طريق قاعدة علمية تعتمد على قوانين عقلية ، بينما عصر الأهرامات تم تشييده على قاعدة تعتمد على قوانين روحية .

للأسف إن نظرية داروين والتي تعتمد على مبدأ أن أصل الإنسان قرد جعلتنا ننظر إلى مراحل نمو الإنسان ( طفولة ، مراهقة ، شباب ، رشد ، شيخوخة ) بشكل مشابه لمراحل نمو الحيوانات ، حيث علماء النفس ينظرون إلى الطفل الرضيع وكأنه قرد صغير ، له مستوى إدراك بدائي لا يختلف عن إدراك بقية الحيوانات، ولكن الحقيقة مناقضة لهذا تماما ، لذلك جعل الله حياة يوسف نموذجا عن قوة الإدراك في مرحلة الرضاعة ، 

فلو وضعنا الإحساسات الروحية التي يملكها الطفل الرضيع في عقل رجل يملك معارف العصر الحديث لاستطاع أن يصنع معجزات يصعب تصورها ، وهذا تماما ماحصل مع النبي يوسف مؤسس عصر الأهرامات. ولكن بسبب وجودنا في عالم تحاول فيه روح السوء العالمية تشويه جميع عناصره فإن الانسان عند نموه يخسر قسما كبيرا من إحساساته الروحية ، وتأخذ مكانها تحليلاته العقلية فيتحول إلى إنسان طبيعي مشابه لإنسان العصر الحديث الذي يعتمد في مهاراته وإبداعه على قاعدة ثقافية تعتمد بمعدل ٩٩% على قوانين مادية ، وهكذا تماما ما حصل مع الإنسانية بمرور العصور، فوصلت اليوم إلى مستوى إدراك من النوعية الرديئة لأنه يعتمد فقط على الرؤية المادية للأشياء والأحداث. 

شيء آخر لا بد من ذكره أيضا عن مرحلة حياة النبي يوسف هو موضوع وفاة أمه راحيل أثناء إنجابها اخيه بنيامين، فهي من شدة ما عانت من العذاب اثناء الولادة سمت ابنها بن أوني ومعناه (ابن الألم ) ، ولكن يعقوب سماه بنيامين ومعناه( ابن اليمين) ، الإصحاح ٣٥ الآية ١٧و١٨ " وحدث حين تعسرت ولادتها أن القابلة قالت لها لا تخافي لأن هذا أيضا ابن لك . وكان عند خروج نفسها لأنها ماتت أنها دعت اسمه بن أوني. واما أبوه فدعاه بنيامين " .

هنا نجد أن الأم الحقيقية ليوسف وبنيامين تموت وتترك ابنيها في رعاية أم أخرى ، هنا يوسف هو رمز هابيل واخوه بنيامين هو رمز قابيل ، فقابيل هو الإبن الذي يدمر أمه وهكذا حصل تماما مع حواء فحملها لإبن مثل قابيل هو الذي سبب لها الطرد من الجنة ، فاسم بن أوني اي ابن الالم هو رمز قابيل ، ولكن يعقوب دعا اسم ابنه الثاني بنيامين أي ابن اليمين ليكون رمزا يعبر عن ولادة قابيل الجديد الذي يختلف في تكوينه عن قابيل الاول الذي قتل أخاه لأنه كان يحمل غريزة القتل في تكوينه الخلقي. هذه الحادثة المذكورة في سفر التكوين لم توضع بشكل عبثي ولكن وضعت لتكون حدث رمزي يعبر عن حقيقة ما يحدث كمبدأ عام في ولادة كل طفل مهما كان عرقه أو دينه أو لغته ، وهو أن كل طفل يولد هو أولا ابن حواء وثانيا ابن أمه التي أنجبته. 

القرآن الكريم أشار إلى هذه الفكرة في الآية ١٠٠ من سورة يوسف ( وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ۖ.....) فالمقصود هنا بمعناه العام ليس يعقوب وراحيل لأن في تلك الفترة التي أصبح يوسف فيها وزيرا لمصر كانت أمه راحيل متوفية ، والمقصود من (أبويه) هنا هو آدم وحواء لأن يوسف بإنشائه عصر الأهرامات أستطاع أن يضع الإنسانية في طريق تطور له نوعية مختلفة تماما عن تطور بقية الكائنات الحية ،حيث جعلته كائن فريد من نوعه لا يمكن مقارنته بأي كائن آخر.

أيضا في قصة النبي موسى عليه الصلاة والسلام نجد أن الله يؤكد مرة أخرى على هذا المبدأ ، فنجد أن موسى عاش وترعرع في أسرة فرعونية تحت رعاية وعطف أميرة من أسرة فرعونية بعيدا عن أمه الحقيقية ، فأمه اليهودية التي أنجبته هي رمز حواء التي لا تستطيع بنفسها ان ترعى وتربي أطفالها ، أما الأم التي أخذته من النهر والتي تبنته ورعته فهي رمز الأم الطبيعية التي أنجبته . 

حياة النبي موسى هي رمز لمرحلة الطفولة ما بعد الرضاعة، وهي مرحلة اتقان الكلام، فبشكل طبيعي تكون مدة الرضاعة تقريبا عامين ، وخلال هذه المرحلة يكون الطفل قد بدأ بتعلم نطق بعض الكلمات البسيطة ( ماما، بابا، دادا ..) ، ولكن في سن عامين يبدأ الطفل بالمحاولة الأولى في إتقان لغة التخاطب فنجده يبدأ بتكوين جمل بسيطة تتألف من كلمتين ، وفي سن ثلاث سنوات نجده يستطيع تأليف جمل من ثلاث كلمات ، وفي سن أربع سنوات يبدأ بسرد أحداث بسيطة ، وفي السادسة من عمره نجده يكتسب المقدرة على سرد الحكايات ، وفي الثامنة من عمره تظهر لديه المهارة في التعبير لما يريد ولما يشعر به .

حياة النبي موسى تمثل بداية مرحلة التكلم ، وهي المرحلة التي يبدأ بها الطفل بمحاولة سماع لفظ الكلمات وتعلمها ، وقد أشار الله إلى هذه الفكرة في الآية ١٦٤ من سورة النساء (وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ۚ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا). فالمقصود من هذه الآية أن كل ما يتعلمه الطفل من كلمات في هذه المرحلة هي من صنع الله عز وجل ، كما تذكر الآية القرآنية ٣١ من سورة البقرة (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ). 

جميع لغات شعوب العالم هي ليست من تأليف عقل بشري ولكنها أتت من عند الله عز وجل ، ولكن وبسبب تدخلات روح السوء العالمية ومحاولتها لتشويه معاني ولفظ هذه اللغات لتخسر طبيعتها الإلهية ، الله عز وجل من بين جميع هذه اللغات أختار لغتين وحافظ على نقائهما لتكونا لغة الكتب المقدسة وهما اللغة العربية وهي لغة القرآن ، واللغة اليونانية وهي لغة الإنجيل . وبسبب عدم فهم علماء الدين الإسلامي لهذه العلاقة بين رمز حياة موسى وعلاقتها بمرحلة تعلم النطق والكلام عند الطفل ، حدث سوء فهم لما هو مقصود بفكرة تحريف الكتب المقدسة ، فهم نظروا إلى هذه الفكرة بمعناه الحرفي وليس بمعناها الشامل . ( هذا الموضوع طويل ويحتاج إلى شرح مفصل عن تطور اللغات ، سنتكلم عنه في المستقبل إن شاء الله) .

في قصة النبي موسى ، نجد أنه عندما يطلب منه الله أن يذهب إلى فرعون ليطلب منه أن يترك قوم موسى ليخرجوا من مصر ، يقول موسى لله عز وجل بأنه ثقيل اللسان وانه يخاف من مواجهة فرعون لأنه لن يستطيع أن يقنعه بالكلام لذلك يطلب موسى من الله أن يرسل معه أخاه هارون ،كما تذكر الآية ٣٤ من سورة القصص (وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي ۖ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ) ، النبي هارون عليه الصلاة والسلام هو القسم العقلي من اللغة وهي تلك اللغة التي تم تشويهها والتي هي لغة فرعون الذي شوه تعاليم يوسف وجعلها تخرج عن الصراط المستقيم الذي رسمه الله للإنسانية ، لذلك لم يستطيع موسى التحاور بها ، لأنه رمز الطفل كما خلقه الله خال من أي شوائب، هكذا كانوا أطفال العالم في مرحلة طفولتهم في العصور الماضية، فكل ما يتعلموه في مرحلة الطفولة من كلمات كانت من عند الله لذلك كانوا في حماية إلهية كما هو مذكور عن النبي موسى في الاية ١٤٤ من سورة الأعراف (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ).

الألواح هنا هي رمز لكلمات الله في صنع لغة التخاطب عند الإنسان والتي تم وضعها ضمن قوانين محكمة يمكن من خلال فهم طريقة تكوين أسم الشيء أن يظهر دور هذا الشيء وسبب وجوده ومكانته في الخطة الإلهية في التطور الروحي والمادي للكون وللحياة وللانسانية. فنجد في سفر العدد في الإصحاح الثاني عشر ، أن الله يعاقب هارون وأخته مريم لأنهما إدَّعَيا بأن الله يتكلم معهما أيضا ، فنجد الرب يقول لهما في الآيات ٦-٧-٨ (فقال اسمعا كلامي أن كان منكم نبي للرب فبالرؤيا استعلن له في الحلم اكلمه. و أما عبدي موسى فليس هكذا بل هو أمين في كل بيتي. فما إلى فم وعيانا أتكلم معه لا بالألغاز وشبه الرب يعاين فلماذا لا تخشيان أن تتكلما على عبدي موسى). 

النبي موسى كما ذكرنا قبل قليل هو رمز الطفولة في مرحلة تعلم الكلام ، حيث الفترة التي ظهر فيها النبي موسى كانت شعوب العالم تحاول إنشاء لغة تخاطب تحقق الانسجام بين لفظ كلماتها وعدد حروفها مع معناها الحقيقي. لذلك ظهرت التوراة في هذه الفترة لتكون أول الكتب المقدسة.

الطفل في مرحلة تعلم الكلام لا يتعلم الكلمات بشكل ببغائي أي لا يعتمد التقليد الصوتي كما يحدث عند طيور الببغاء والماينا ، ولكن يتعلمها كإحساس روحي ، فكل كلمة لها إحساس يعبر عن مضمون هذه الكلمة ، ولكن ما يحدث بعد ذلك أن نمو الإدراك العقلي يجعله بالتدريج يخسر ذلك الإحساس وعندها تتحول الأسماء إلى مجرد كلمات تتألف من بضعة أحرف ، القرآن الكريم يشير إلى هذه الفكرة في سورة الكهف حيث تذكر قصة موسى ولقاءه بالعبد الصالح (الخضر) ليتعلم منه تفسير وتأويل الأحداث .

فتفسير كلمات الله لا يعتمد فقط على تفسير المعنى اللغوي لكلمات الآيات ، ولكن يعتمد على فهم التكوين الشامل لهذه الكلمات. لأن هذه الكلمات كما ذكرنا تم وضعها ضمن حكمة إلهية وليست من تأليف عقل بشري حتى نفسرها من خلال معناها اللغوي فقط. وما نحتاجه في عصرنا الحاضر الذي حصل فيه تشويه كبير في معاني الكثير من كلمات جميع لغات العالم فالكلمات التي تصل إلى آذان الطفل وهو في سن الطفولة أصبحت بلا مضمون وخسرت مصدرها الإلهي فجعلت الطفل يخرج من البيئة الروحية الملائمة لنموه كطفل ، وأجبرته أن يعيش في بيئة أخرى حيث كل شيء فيها يتبع قانون العشوائية فلا يوجد أي علاقة بين لفظ و أحرف الكلمات مع مضمونها، فكلمة ( جميل ) أصبحت تطلق على الأشياء القبيحة، وكلمة(قبيح ) أصبحت صفة للأشياء الجميلة... طيبة القلب أصبحت نوع من الغباء أما الإحتيال والنصب فأصبح نوع من الذكاء والمهارة.... غريزة العنف والوحشية أصبحت صفة الأقوياء والشجعان أما عاطفة السلام فأصبحت صفة الجبناء .... تشويه معاني الكلمات في روح الطفل يبرر سبب إنحطاط النمو الروحي عند أطفال اليوم، والذي كانت نتيجته ولادة ظاهرة ( الطفل المجرم ) والتي لم يعرف التاريخ مثلها من قبل. لأن أطفال اليوم أصبحوا تحت رعاية الإنسان وليس تحت الرعاية الإلهية كما كان في العصور الماضية. 

في المقالة القادمة إن شاءالله سنتابع تطور الانسانية في مراحل ما بعد مرحلة موسى عليه الصلاة والسلام.

وسوم: العدد 767