الخاطرة ١٧٣ : الأنبياء ومراحل تطور الإنسانية الجزء ٥

خواطر من الكون المجاور

ذكرنا في الأجزاء الماضية أن حياة النبي يوسف عليه الصلاة والسلام تمثل بداية ولادة الإنسانية وهي ترمز إلى مرحلة الطفل الرضيع حيث إدراكه في هذه المرحلة لما يجري حوله يكون بشكل كامل من خلال إحساساته الروحية فقط ، لأن إدراكه العقلي في بداية هذه الفترة يكون معدوم نهائيا ولكنه يبدأ في النمو تدريجيا. وذكرنا أيضا أن حياة النبي موسى عليه الصلاة والسلام تمثل مرحلة الطفولة ما بعد الرضاعة وهي مرحلة محاولة إتقان الكلام والتخاطب ، وأن المقصود ليس تعلم الكلمات بشكلها الببغائي ولكن بشكل إحساس روحي لمضمون هذه الكلمة ، فعلى هذا الإحساس تم تصميم كلمات لغات العالم من قبل الله عز وجل .

الفتيات الصغيرات في سن السادسة والسابعة عندما يكتسبن المقدرة على سرد الأحداث وكأنها حكايات ، يدخلن في مرحلة طفولة جديدة وهي مرحلة الأمومة الروحية ، حيث حياة مريم العذارء تمثل الإنسانية في هذه المرحلة من الطفولة.

حتى نفهم بشكل اوضح معنى مرحلة الأمومة الروحية، لا بد لنا أن نشرح الفرق بين عاطفة الأمومة وغريزة الأمومة :

غريزة الأمومة موجودة في الحيوانات جميعها وتتفاوت درجتها من صنف إلى آخر ، فكلما كان الحيوان اكثر تطورا زادت درجة إحساس الأنثى بهذه الغريزة لترعى صغارها بشكل افضل ، وتنتهي هذه الرعاية حين دنو الصغير درجة من النمو بشكل يسمح له بالاعتماد على نفسه. فغريزة الأمومة في أمهات الحيوان تحدث نتيجة تغيرات فيزيولوجية في أجسامها عقب الحمل ، هذه التغيرات تفرض عليها سلوكا معينا تجاه صغارها ، مثلها مثل الآلة الإلكترونية المبرمجة بأسلوب يحقق عملا معينا، لذلك نجد أنه مع زوال تلك التغيرات الفيزيولوجية في أنثى الحيوان تعود إلى طبيعتها الأصلية التي كانت عليها قبل الحمل ، ومن هنا نلاحظ انقطاع العلاقة بينها وبين صغيرها فلا تعود تذكر او تستشعر ان هذا الحيوان أو ذاك كان ابنها.

أما عاطفة الأمومة عند البشر فتختلف اختلافا كليا عن غريزة الأمومة الحيوانية ، فهي تبدأ بالظهور عند الفتيات قبل سنوات مديدة من الحمل، ففي عهد الطفولة تنصرف الطفلة إلى العناية بدميتها فتحرص عليها وتهدهدها مندفعة بحاجة عفوية ، وهذه الحاجة الروحية ليست إلا ردة فعل روحية حدثت نتيجة تراكم صور عديدة من الماضي.

فالطفلة حين تحنو على دميتها للعناية بها ، تسعى عبر ذلك إلى الاحتفاظ بالتصرفات الإيجابية التي قابلها بها الآخرون منذ أبصرت النور، وكذلك تسعى إلى تعديل التصرفات السلبية منها وتحسينها، فهي تدأب طوال فترة نموها وترعرعها على عملية تحليل وتركيب للصور المتعاقبة المتراكمة في ذاكرتها من الماضي ، إلى أن تصل إلى اللحظة التي ستغدو فيها أماً ، وقد إكتسبت خير وسيلة تمكنها من العناية بوليدها.

حياة مريم العذراء تمثل تلك الطفلة في سن السادسة والسابعة عندما تظهر في داخلها عاطفة الامومة الروحية ، فظهور هذه العاطفة عند الطفلة يجعلها مباشرة خليفة حواء في الارض ، او بمعنى آخر يصبح لأطفال العالم اماً جديدة اخرى تساهم في عناية وتطوير الإنسانية . فظهور هذه العاطفة الجديدة في الطفلة تخلق منها كائن إنساني يشعر بالمسؤولية نحو الإنسانية بأكملها . لذلك تعتبر هذه المرحلة حساسة وهامة جدا في حياة الفتيات الصغيرات .

الطفلة في هذه المرحلة بشكل طبيعي تحلم بأنها يوما ما ستكون أماً لطفل ، وهذا الطفل حسب تخيلاتها من خلال تلك الصور الروحية التي جمعتها في فكرها في سنوات طفولتها هو أقرب إلى الكائن المثالي ، فهي في هذه الفترة تشعر بإحساس المراة الحامل ولكن بشكل روحي وليس جسدي وهذا الشعور يجعلها تشعر وكأنها ستنجب في المستقبل كائن يملك الروح الإلهية تلك التي نفخها الله في الإنسان عندما خلقه .

ظهور هذا النوع من العاطفة الروحية في مرحلة الطفولة يحدث فقط في الفتيات الصغيرات ، فالصبيان الصغار في هذه المرحلة لا يشعرون بأي نوع من العاطفة الأبوية ، ولكنها تظهر عادة بعد الزواج، فهي عند الرجال مثلها مثل غريزة الأمومة عند الحيوانات ولكن عندما ينجب الرجل ويصبح أبا عندها يتحول هذا الإحساس من غريزة إلى عاطفة ويبقى معه طوال العمر ، فتحول هذه الغريزة إلى عاطفة عند الرجل سببه الأول ليس تكوينه الخلقي ولكن سببه وجود المرأة معه ، فرؤيته لها وشدة إهتمامها وحنانها على أطفالها يوقظ في داخله نوع من الشعور بالمسؤولية تجاه أبنائه لتأمين ظروف معيشية تضمن لهم حياة ومستقبل أفضل.

مرحلة ظهور عاطفة الأمومة الروحية عند الطفلة ، هي في الحقيقة رمز لذلك الإحساس الذي شعر به آدم في مرحلة إنقسامه إلى إثنين ( آدم وحواء) ولكن هنا بدلا من أن يكون هذا الشعور كحاجة لشريك يحطم الإحساس بالوحدة ، يتحول هذا الشعور إلى عاطفة أمومة هدفه إنجاب أفراد يضمن استمرار نسل الإنسانية عبر الزمن من أجل تطوير نفسها لتصل إلى الكمال الروحي والجسدي ليصبح أفرادها ملائمين للعودة ثانية إلى الجنة .

حادثة إنجاب مريم العذراء لعيسى عليه الصلاة والسلام بدون ان يمسها رجل ، هي رمز يعبر عن نوعية الأطفال التي تحلم بها الطفلة في هذه المرحلة، فسلوك الطفلة في هذه المرحلة كان في العصور الماضية يقع تحت الحماية الإلهية فطريقة إدراكها لكل ما يحدث حولها يتم بعين ترى مضمون الأشياء، فمهما كانت الظروف قاسية من حولها كان ظهور عاطفة الأمومة الروحية في داخلها يعطيها قوة روحية يجعلها تستطيع أن تتحمل وتصبر لأنها في داخلها تشعر وكأن مصير الإنسانية بأكملها يتوقف على مصير ذلك الطفل الذي ستنجبه يوما ما في المستقبل .

عيسى عليه الصلاة والسلام هو رمز لذلك الطفل التي تحلم بإنجابه الطفلة في مرحلة ظهور عاطفة الأمومة الروحية، لذلك نجد أن الله وهب عيسى المقدرة على صنع المعجزات ولعل أهمها معجزة إحياء الموتى ، فهذه المعجزة في الحقيقة هي رمز له معنى أن هذا النوع من الأطفال لهم المقدرة على العودة إلى الحياة من بعد الموت ليدخلوا جنة الفردوس ليعيشوا فيها خالدين مخالدين . والمقصود هنا هم الأطفال الذين يولدون من الإرتباط الروحي بين المرأة والرجل وليس بسبب العلاقة الجنسية بينهما كما حدث مع حواء وآدم فأدى إلى ولادة قابيل الذي ظهرت غريزة القتل في تكوينه الخلقي فقام بقتل أخيه هابيل .

المسيحيون يعتبرون ان حياة عيسى كانت بداية جديدة للإنسانية ، اليهود رفضوا هذا الرأي وظنوا أنه بهذا الإعتقاد يلغي دور جميع الأنبياء الذين عاشوا قبل عيسى ، ولكن في الحقيقة المقصود بهذه البداية الجديدة للإنسانية كمعنى روحي هي بداية مرحلة ظهور عاطفة الأمومة في الفتيات الصغيرات ، فظهور هذه العاطفة في الفتيات الصغيرات هو دليل رمزي له معنى تصحيح حواء لذلك الخطأ الذي إرتكبته فكانت نتيجته طرد الإنسان من الجنة . فإذا تمعنا جيدا في كتب العهد القديم والتي ظهرت بعد ظهور موسى عليه السلام وخروجه مع قومه من مصر ، نجدها لا تذكر أبدا عن ما بعد الموت وعن العودة إلى الجنة ، ففكرة يوم القيامة والعودة إلى الجنة ظهرت في الديانات السماوية لاول مرة في تعاليم عيسى ، فحتى ذلك الوقت كانت فكرة العودة إلى الحياة من بعد الموت فكرة وثنية بالنسبة لمعظم الطوائف اليهودية ، فقط قسم منهم تقبل هذه الفكرة بعد دمار هيكل سليمان على يد نبوخذ نصر عندما أصبحوا عبيدا في بابل ، فبسبب إحتكاكهم الثقافي بهذه الشعوب تقبلوا فكرة عودة الحياة بعد الموت ويوم الحساب.

فكما ذكرنا الإنسان ان ظهور عاطفة الأمومة الروحية في الطفلة والتي تمثلها حياة مريم العذراء هو بمثابة بداية جديدة للإنسانية ، والقرآن الكريم يؤكد على صحة هذه الفكرة من خلال معنى الآية ٥٩ من سورة آل عمران ( إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ ۖ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) فالمقصود من هذه الآية أن عيسى بمثابة آدم كما خلقه الله خالي من أي شائبة من تلك الشوائب التي نتجت عن أكل الثمرة والتي كانت سببا في طرد الإنسان من الجنة. فالطفلة في هذه المرحلة التي تظهر فيها عاطفة الأمومة الروحية هي بمثابة حواء عندما كانت في كامل طهارتها قبل إرتكاب الخطيئة. لذلك نجد أنه مثلما كانت ولادة عيسى غريبة عن الشكل المألوف كانت أيضا نهاية حياته غريبة عن المألوف حيث رفعه الله إليه وصعد إلى السماء . فصعود عيسى إلى السماء والعودة إلى الله هو رمز روحي يعبر عن نوعية الأبناء التي تحلم الطفلة بإنجابهم عند دخولها في مرحلة ظهور عاطفة الأمومة الروحية.

في الماضي كما ذكرنا كانت الأمور تسير تحت الرعاية الإلهية ، لأن الإنسانية كانت لا تزال في مرحلة الطفولة ، فمهما بلغت شدة سيطرة روح السوء على نظام المجتمع كان نمو أطفال هذا المجتمع يسير حسب المخطط الإلهي ، لذلك لم يسجل التاريخ اي حادثة عن إرتكاب طفل لجريمة قتل ، لأن الأطفال كان تكوينهم الروحي مشابه لتكوين عيسى عليه الصلاة والسلام حيث كانت تعاليمه ترتكز على تنمية المحبة والسلام ، ورغم مطاردة الحكومة الرومانية لأتباعه واضطهادهم وتعذيبهم ليزرعوا الخوف في نفوس بقية الناس ليمنعوهم إعتناق الدين المسيحي ، نجد أن أعدادهم بدلا من ان تنقص كانت تتزايد ولفترة دامت أكثر من ٣٥٠ عام، وبدلا من ان تنقرض الديانة المسيحية نجد ان الديانة الرومانية الوثنية هي التي إنقرضت وحلت محلها الديانة المسيحية حيث اصبحت الديانة الرسمية للأمبرطورية الرومانية بأكملها.

إنتصار المسيحيون بهذه الطريقة هو في الحقيقة معجزة إلهية لتكون رمزا روحيا يعبر عن حقيقة طبيعة أطفال عاطفة الأمومة الروحية ، فالمسيحي في تلك الفترة كان يتبع في سلوكه قانون الجنة والذي عبرت عنه الآية القرآنية (لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ۖ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ) . فعندما تستطيع الطفلة الحفاظ على عاطفة الأمومة الروحية بشكلها النقي كما وضعها الله فيها ، فإنها عندما تكبر وتتزوج سيكون أطفالها من هذا النوع . ولكن المشكلة ان روح السوء العالمية والتي تحاول دوما خلق ظروف قاسية امام المرأة كان يجعلها عندما تدخل في سن البلوغ أن تتأثر قليلا بتلك الظروف فتخسر هذه العاطفة قليلا من نقائها. ولكن ومع ذلك نجد ان الإنسانية كانت في تطور مستمر بشكل دائم نحو الأرقى.

يقول الحديث الشريف ( الجنة تحت أقدام الأمهات ) والمقصود بالأمهات في هذا الحديث الشريف هو عاطفة الأمومة الروحية التي تظهر في الفتيات الصغيرات في مرحلة الطفولة ، فهذه العاطفة هي التي ستجعل المرأة خليفة حواء على الأرض سواء أنجبت أطفالا ام لا ، فمسؤولية المرأة التي تحت أقدامها الجنة ليست تلك التي تقوم بحماية ورعاية أطفالها فقط فهذا العمل تقوم به أيضا أنثى الحيوانات ولكن أنثى الحيوان لا تذهب إلى الجنة ، لأن المقصود هنا هي تلك المرأة التي تشعر بآلام الأطفال مهما كان عرقهم أو دينهم ، فتحاول جاهدة أن تساهم في حماية حقوقهم لينمو في بيئة مناسبة لأرواحهم البريئة ليستطيعوا ان يصبحوا في المستقبل أفراد صالحين يعملون من أجل خدمة المجتمع ومنفعة الآخرين، فاليوم مصير الإنسانية بأكمله في الحقيقة يتوقف على هؤلاء الأمهات الروحيات . والإنسانية بحاجة شديدة لهذه العاطفة لتستطيع أن تخرج من هذا المستنقع الذي سقطت فيه في الفترة الأخيرة .

وسوم: العدد 770