بعد سنوات طوال : يتم اللقاء

رويدا ، رويدا ، تسير في الطريق وفجأة  تلتقي  صديقا  أو زميلا لك لم تره منذ أيام الدراسة  وبعد ،عشرين أو ثلاثين سنة ، تتقاطعان في الطريق  ويلتفت كل منكما يتفصح وجه الآخر ، هذا الوجه ليس غريبا عني أهو فلان ؟ ثم يتم التعارف ويعانق كل منكما الآخر  وهو يحدث  نفسه ، ويفكر بكلام صامت فيما فعل الدهر بصاحبه ، لقد اشتعل الرأس شيبا بعد سواد دامس ، وأصاب الوجه  تجاعيد والعنق ترهل جلده  وانهارت القوة وتحولت من بعد قوة  إلى ضعف  وضمرت العضلات ولم تعد تقوى على  حمل الأيدي ولا الأرجل  ، يا لقساوة الزمان  و يا ويح الدهر ماذا فعل بالأصحاب  . ثم يبدأ  تداول السؤال والجواب : هل ترى  فلانا ؟   لقد مات رحمه الله  بعد مرض شديد  أصاب  كليته  فقدا كان يستهزئ بمعجزات  محمد صلى الله عليه وسلم ويقول هل كانت أصابعه  صنابير وحنفيات يتفجر منها الماء ليضحك تلامذته غفر الله له ورحمه . وإني لأشهد أنه قال لي يوما قبل موته بقليل أنه يصلي دون أن أسأله أو أحدثه عن حالته الدينية  .  وهل تذكر فلانا ؟ وهل تلتقي به وهل ما زال يناضل من أجل مبادئ  اليسار ؟ يا حسرتاه  ، لقد أصبح مواظبا على صلاة الفجر وإن أردت أن تراه فعليك بالصلاة في المسجد الفلاني وهو ملازم له ، يكاد أن يكون مرابطا فيه . يا سبحان الله وهو الذي كان يكره المسجد وراوده ، والمحكوم عليه بالردة والكفر  من طرف بعض الأوصياء على الله . وهل تسمع شيئا عن فلان ؟ آه ، فلان ، مسكين قيل لي إنه مريض وهو يعاني منذ أكثر من  سنة  لم ينفع معه  دواء ولا علاج  ، فهو طريح الفراش  وملازم له . مسكين شفاه الله  ، وغفر له ، لو حفظ صحته  في صغره لحفظها الله له في كبره . وماذا عن فلان ؟ إنه بخير والحمد لله معافى في جسده  ، سليم في عقله ، ومحافظ على أوقات صلاته ، لولا أن أبناءه  ينكدون عليه حياته لكان من  أسعد الناس ، فمن أبنائه من هو منحرف ومنهم  من هو عاطل عن  العمل ومنهم من هاجر ولم يعد يعرف عن أخباره شيئا  . وفلان  هل تصلك عنه الأخبار ؟ لقد هاجر إلى أوربا ولم يعد يسمع عنه شيئا . وفلان ، إيه ، فلان لقد حج وهو الآن يؤذن بمسجد حيه ولا تفوته به صلاة ، الله أكبر ، الله أكبر ، سبحان الله ، وهو الذي كان  يكفر بالليل والنهار ويبشر بالإلحاد ويدعو له ويكره الإسلام والمسلمين و كان  إذا رآني  أصلي ، يقول لي اسجد لي أنا ربك الأعلى ، لقد تاب عن كل ذلك وندم  وما أضن  إلا أن الله قد تاب عليه والله أعلم ، فهو اليوم يكره  كل من يذكره بمودة السبعينات وما راج فيها من أفكار تدعو إلى الإلحاد وتروج للفكر الماركسي اللينيني ، سبحان مبدل الأحوال . وهل علمت أن فلان ، الذي كان ينتمي لحزب  علي يعتى  ( حزب التقدم والاشتراكية  ) والذي  كانت أفكار التقدم ولاشتراكية جزء من طعامه وشرابه  ، و روحه  تستنشق من هواء روسيا ، لقد ساعده الحزب ليحصل على منحة  ويتم دراسة  ما بعد الباكالوريا في روسيا وبالفعل ذهب إلى هناك وتم دراسته ، كما تمنى  وتزوج بابنة  ضابط  كبير في الجيش كما قيل لي وتقلد منصبا كبيرا بوزارة الداخلية  ، والآن  تحول إلى صوفي وأصبح  من أتباع الطريقة البودشيشية يسبح بحمدها ويسجد لشيخها ، بعد أن كان يسبح بحمد ماركس ولينين ويحفظ أقوالهما ولا يحفظ من القرآن الكريم  آية إلا ما حفظه بالعصا  في الابتدائي  . يا الله قلوب عبادك بين يديك تقلبها كيف تشاء  . لا احد يملك قلبه ولا أحد يدري ما يفعل أو يفعل به في هذه الحياة  الدنيا . وصديقك فلان ما فعل الله به ؟ هو بخير محافظ على ما تعرف عنه من خلق حسن وأفكار نظيفة  وعبادة نرجو من الله تقبلها منه ، يدعو إلى ربه بالحكمة ويعض بالحسنى ،  صدرت له عدة مؤلفات ونشرت له مقالات كثيرة  . وصديقك فلان كيف حاله هل ما زال لم يتخلص من بلواه ؟ لا مع الأسف لا صلاة  ولا زكاة  وغالب ضني لا صيام ، قيل لي ما زال يقرع الكأس ويحرق السيجارة  والحشيش وهو يعاني من السكري هداه الله وتاب عليه .

هذه نماذج قلة ذكرتها من بين المئات من زملاء  الدراسة  والأصدقاء الذين عايشتهم والذين التقي بالصدفة منهم في كل مرة وحدا أستقي منه  أخبره وأخبار زملائه ومن يعرف من زملائي .

إن الحقيقة التي عايشتها  والتي أرشدني  إليها طول العمر وتقلب الزمان هي أن الإنسان لا يملك من أمره شيئا فالأمر بيد الله يتصرف فيه كيف يشاء لا إيمانا مطلقا تملك ولا كفرا مطلقا بيدك  فقد يصبح المرء  مؤمنا ويمسي كافرا وقد يضل المرء في حياته كلها يعصي الله ويرتكب أكبر المعاصي والموبقات ويسجد سجدة واحدة في آخر عمره تشهد له بها الملائكة ويقبلها منه ربه فيكون من أصحاب الجنة  . فمن طلبة جيل السبعينات من كنا نصنف مع أبي لهب وأبي جهل لما كانوا يعملون من عملهما ولو ماتوا في تلك السنوات لما صلينا عليهم ولا ترحمنا ، ولكن الآن نغار منهم لعملهم الصالح  فسبحان الله . فلا تطلق حكما على أحد  ولا تزكي على الله أحدا ودع عباد  الله  لله  فهو يحكم  على عباده وبين عباده ، وقل للناس حسنا.

وسوم: العدد 805