الخاطرة ٢١١ : ابن رشد الفيلسوف المظلوم الجزء ١٢

خواطر من الكون المجاور

في المقالة الماضية وبعد تفسير بعض رموز سورة الفيل وسورة قريش ذكرنا أن أبرهة الحبشي الذي أراد تدمير الكعبة هو (ابراهيم ذو الوجه الأسود) رمز أبو الكافرين ، وأن النبي ابراهيم عليه السلام الذي بنى الكعبة هو (ابراهيم ذو الوجه الأبيض) أبو المؤمنين ، وبعد ذكرنا لهذه المعلومة طرحنا سؤال يمكن أن يخطر على بال أي مسلم أو غير مسلم، وهو طالما أن من صفات الأنبياء والمؤمنين هو الشكل الجميل واللون الأبيض ، كقول الله عز وجل (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (١٠٦) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (١٠٧ آل عمران) ، لماذا إذن الشعوب الأوربية (غير المسلمة) بشرتهم بيضاء وأبعاد أجسامهم فيها تناسق يعبر عن الجمال، بينما الشعوب الشرقية ومنهم الأمة الإسلامية بشكل عام لون بشرتهم حنطية أو داكنة وأبعاد أجسامهم أقل تناسقا وجمالا ؟ فهذه حقيقة إلهية لا يستطيع أحد إنكارها ، ولهذا نجد بعض المسيحيين العنصريين يستخدمون صفة الجمال هذه ليؤكدوا أن الدين المسيحي هو أصح الديانات ولذلك وهبهم الله نعمة الجمال التي وهبها للأنبياء والمؤمنين . فنحن هنا لا نتكلم عن شخص واحد ولكن نتكلم عن أمة بأكملها .

موضوع اليوم هام جدا لأن إختلافات الصفات سواء بين الأفراد أو الأمم موجودة ولا يمكن غض النظر عنه لأنه يسبب الكثير من المشاكل ، ويجب البحث فيه فالتفسير الخاطئ لهذا الموضوع لعب دوراً سلبياً كانت نتيجته دمار عائلات ومجتمعات وأمم بأكملها ، والسكوت عنه أو محاولة إخفائه سيزيد من المشكلة ، فالسبب الاول الذي دفع الكثير من الناس إلى الإلحاد هو محاولة علماء الديانات السماوية إلى عدم التطرق إلى هذا الموضوع ، والعلماء الذين حاولوا البحث فيه كانت تفسيراتهم له سطحية مشابهة لذلك الغريق الذي يتمسك بقشة صغيرة تطفو على سطح الماء آملا منها أن تنقذه من الغرق .

الموضوع أصلا لا يتعلق بلون البشرة ، فعبارة (ابيضت وجههم أو اسودت) هي رمزية لها معنى صفات الإنسان بشكلها العام ، فالجمال ليس له علاقة بلون البشرة لهذا نجد اليوم أن الكثير من عارضات الأزياء بشرتهن لونها داكن . الموضوع يتعلق بجميع الصفات التي تؤدي إلى التميز العنصري كالصفات : جميل ام قبيح ، غني أم فقير ، ذكي ام غبي ، سعيد الحظ أم تعيس الحظ. أو قد تكون نتيجة اختلاف الصفات الروحية التي أهمها إختلاف الدين . وجوهر الموضوع هنا لا يتعلق بالكبار ، لأن الكبار قد يستطيعون تغيير الكثير من تلك الميزات ، فمثلا بعمليات التجميل المتطورة في عصرنا الحاضر يمكنها تغيير شكل الإنسان فيتحول شكله من قبيح إلى جميل ،أو بواسطة طرق مشروعة أو غير مشروعة قد يتحول الإنسان من فقير إلى غني . ولكن الموضوع هنا يخص الأطفال الذين لا قوة لهم ولا حول ليفعلوا شيئا يساهم في تغيير هذه الميزات والتي تجعلهم مختلفين عن بعضهم البعض بشكل يؤثر على سلوك الآخرين نحوهم . والسؤال هنا : لماذا يولد طفل سعيد الحظ وآخر تعيس الحظ ؟ لماذا لا يولد الأطفال بحيث يكون جميعهم لهم نفس الميزات ونفس فرص النجاح أو الفشل ؟ أين هي العدالة الإلهية في هذا الإختلاف ؟

حتى نستوعب بشكل أفضل مضمون الموضوع سنذكر هذا المثال البسيط : قبل حوالي مئتي عام ، كانت تعيش قبائل آكلة لحوم البشر منعزلة عن العالم الحضاري في أدغال الأمازون وأدغال أفريقيا والهند واستراليا ، كان كهنتهم عبارة عن مشعوذين يعتمدون السحر الأسود والخرافات في السيطرة على النمو الروحي لأفراد القبيلة ، لهذا كان الفرد فيهم يولد ويكبر ويشارك في طقوس السحر الأسود ويقتل البشر بذنب أو بدون ذنب وفي نهاية حياته يموت مثله مثل أي كافر مذكور في الكتب المقدسة . فالسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو ما ذنب أطفال هذا المجتمع الحيواني كي يكون مصيرهم جهنم . فكل طفل من أطفال هذه القبيلة منذ ولادته هو مسير وليس مخير في سلوكه لأنه طوال حياته لم يعلم أي شيء عن وجود الله ولا عن الديانات السماوية ولا عن الأخلاق الحميدة . لماذا وضعه الله في هذا المجتمع الحيواني ليكون مصيره الحتمي هو جهنم ، ووضع طفل آخر في عائلة صالحة ومجتمع صالح ليكون مصيره الحتمي هو الجنة ؟ لماذا يختار الله طفل يضعه في عينيه ليصبح نبي مصيره الجنة ، ويهمل طفل آخر ليصبح فرعون ظالم فيكون مصيره جهنم ؟ أين العدالة الإلهية المطلقة في هذه التفرقة بين طفلين ليس لهما أي حق أو أي ذنب بما سيفعلان عندما يبلغان سن الرشد ، فالنبي مسير وفرعون مسير هو أيضا .

فمن المعروف في علم النفس أن الطفل في مرحلة نموه يتعلم مما يجري حوله وما يتعلمه يدخل في عقله الباطني ويبقى هناك ، وعندما يصل إلى مرحلة معينة من عمره تصبح المعلومات التي تعلمها جزء من تكوينه الروحي ومن الصعب جدا تغيرها . السلوك الروحي للإنسان يتوقف على البيئة الروحية التي يعيشها أثناء طفولته ، فالسلوك الإنساني مشابه تماما لتعلم اللغة ، لا يمكننا مثلا أن نحاسب شخص ولد في الصين بسبب عدم تعلمه اللغة العربية ، فجميع من حوله يتكلمون اللغة الصينية فمن الطبيعي أن يتعلم الصيني فقط اللغة الصينية طالما أن ظروف حياته لا تسمح له بتعلم لغة أخرى . الشيء نفسه ينطبق على نوعية سلوكه الروحي . فربما اليوم الظروف قد تغيرت فمن خلال الأنترنت الظروف أصبحت تسمح له بالتعرف على أديان ومعتقدات بقية شعوب العالم . ولكن أمم الإنسانية حتى القرن التاسع عشر كانت معزولة نهائيا عن بعضها البعض وكان من الصعب أن تنتقل المعلومات ليستطيع كل إنسان يفكر فيها ليختار أفضلها ، فجميع الشعوب كانت في نوعية إيمانها مسيرة وليست مخيرة . فليس من العدل أن نعاقب الذئب لأنه حيوان مفترس ، فهو مسير وليس مخير كونه حيوان لاحم وليس حيوان عاشب . فما هو مثلا مصير إنسان من الهنود الحمر الذي عاش قبل ١٠٠ عام ولا يعلم شيئا عن الإسلام طالما حسب رأي المسلمين أن المسلم فقط يدخل الجنة؟ والمشكلة أن أتباع الديانات السماوية الأخرى لهم نفس الرأي المسيحي يعتقد أن الجنة للمسيحيين فقط ، واليهودي يعتقد أن اليهود فقط هم شعب الله المختار.

كارل ماركس الفيلسوف المزيف في القرن التاسع عشر إستغل هذا الموضوع كنقطة ضعف تعاني منها الديانات السماوية لينشر افكاره الإلحادية فتقبلها الفقير والمظلوم والمثقف المهتم بحقوق الإنسان ، فلو تمعنا في الأسباب الجوهرية في التزايد المستمر بعدد الملحدين في العالم سنجد أن سببها الحقيقي ليس النظريات العلمية التي تعارض المعلومات الدينية ولكن سببها الحقيقي هو ظنهم أن تعاليم الديانات السماوية تعاني من ضعف في تحقيق العدالة المطلقة . ولكن الحقيقة هي أن سبب وجود هذا الضعف ليس الكتب المقدسة نفسها ، ولكن التفسير الخاطئ لمعاني آياتها .

إذا تمعنا في آراء العلماء المسلمين لحل هذه المشكلة سنجد آرائهم سطحية فبدلا من أن تحل المشكلة تزيدها تعقيدا ولهذا نجد أن عدد الملحدين في الأمة الإسلامية أيضا في تزايد مستمر في السنوات الأخيرة ، ولهذا السبب أيضا نجد اليوم أن الكثير من المثقفين في الدول المتقدمة علميا يهجرون دينهم المسيحي لا ليعتنقوا الإسلام أو اليهودية ولكن ليعتنقوا الديانات الشرقية البوذية والهندوسية لأنها حسب رأيهم تحل المشكلة وتحقق العدالة المطلقة عن طريق الإيمان بما يسمى عقيدة التقمص أو تناسخ الأرواح . من يعيش في دولة أوربية فترة طويلة ويبحث بصدق عما يحصل في مجتمعاتها سيجد أن عدد الأشخاص الذين يعتنقون الديانة البوذية والهندوسية أكبر بكثير من عدد أولئك الذين يدخلون الإسلام . وجميع هؤلاء هم من الطبقة المثقفة الذين بحثوا في الديانات السماوية فلم يجدوا العدالة المطلقة فيها، ولهذا نجد ان المصطلح (كارما) والتي تعني (العمل) في اللغة السنكريتية ولكن مفهومها الفلسفي يعني (الرحيم العادل) قد أصبحت من أشهر الكلمات المستخدمة في المجتمعات المتقدمة علميا والمفهوم الفلسفي للكارما هو الذي ساهم في الحد من إنتشار الإلحاد ، فبدلا من أن يهجر المسيحي دينه ليصبح ملحداً لا يؤمن بوجود الله تحول إلى مؤمن بوجود الله ولكن بفلسفة بوذية او هندوسية وهكذا فعل الكثير من المسلمين أيضا. إن ظاهرة هجر الديانات السماوية والتحول إلى الإيمان بالفلسفة البوذية والهندوسية هي حقيقة واقعية لا ينكر صحة حدوثها سوى شخص متعصب دينيا يريد أن يخفي الحقيقة، او شخص لا يعلم شيئا عن حقيقة ما يحدث على المستوى العالمي . هذا الموضوع يجب أن يشغل فكر كل عالم ديني سواء كان مسلم أو مسيحي أو يهودي .

الكارما تعتمد على مبدأ التقمص ومصدر هذه كلمة هي كلمة ( قميص ) . وتعني أن جسد اﻹنسان ليس إلا عبارة عن قميص ترتديه الروح أثناء ولادتها لتتابع تنقية نفسها من الشوائب حتى تصل إلى مرحلة لا تستطيع بها اﻹستمرار بسبب وجود اﻹنسان في بيئة طبيعية مليئة بالشوائب المادية التي تمنع أعضاء الجسم الاستمرار في عملها الحيوي ، فتضطر الروح إلى التخلي عن الجسد الذي يحويها ( القميص ) فتحدث عملية الوفاة ، لتعود بعد فترة زمنية طويلة إلى الولادة من جديد فترتدي جسدا جديد ( قميصا جديد ) لتكتسب صفات جديدة وتتابع نموها الفكري الروحي. ..... وهكذا إلى أن تصل إلى الصفاء أو الكمال المطلق وعندها تتحرر من الجاذبية الشيطانية ، وتعود الروح إلى الجنة وتكتسب هناك صفة الخلود. في الخواطر رقم (٦٢- ٦٣ -٦٤) تكلمنا عن هذا الموضوع بشيء من التفصيل ولكن هنا سنذكر أدلة تؤكد أن الحكمة الإلهية في تصميم القرآن الكريم وضعت رموزاً تؤكد صحة فكرة التقمص وتضيف إليه معلومات جديدة لتأخذ فكرة التقمص شكلها الصحيح ، ولهذا نجد أن بعض المذاهب الإسلامية تؤمن بالتقمص ، فوجود فكرة التقمص في مذهب إسلامي يعني أن فكرة التقمص لم تأتي من خارج تعاليم الإسلام ولكن هي حكمة إلهية وضعها الله في هذا المذهب لتؤكد صحتها ولتظهر لجميع المسلمين في الوقت المناسب ليحصل تجديد الفكري الإسلامي .

سورة قريش تفسر لنا هذه الحقيقة الإلهية في فكرة التقمص ، لنتمعن جيدا في معنى الآية الثانية من سورة قريش (إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ) ، العلماء المسلمون فسروها بأن الآية تتكلم عن الرحلات التجارية التي كان يقوم بها أهالي قريش مرتين في كل عام في الشتاء وفي الصيف. ولكن التفسير الروحي لهذه الآية له تفاصيل معقدة سنحاول تسهيل فهمها بقدر المستطاع :

التجارة في تفسير العلماء للآية (إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ) لها معنى مادي اي تبادل الأشياء المادية بين سكان البلدان المختلفة ، والسؤال هنا : هل من المعقول أن كلام الله يعطي أهمية للأقمشة والأدوات المنزلية والمواد الغذائية وغيرها والتي لها منفعة جسدية فقط ليذكر مهنة التجارة في سورة قريش وكأنها مهنة مقدسة مهمة في تكوين مجتمع آمن ومتكامل؟ الله عز وجل ذكر كلمة (تجارة) في بداية القرآن في الآية (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ (١٦ البقرة) ، في هذه الآية نجد كلمة (تجارة) لها معنى روحي ليس له أي علاقة بمهنة التجارة كما فسرها العلماء المسلمين في سورة قريش ، فمصطلح (تجارة) في القرآن يعني تبادل (صفات الكمال) التي وزعها الله على جميع الأمم لكي تستطيع الأمم التعاونها مع بعضها البعض لإكتساب ما لا تملكه هي لتساعدها في تنقية نفسها من تلك الشوائب التي سببت تشويه تكوين الإنسان وطرده من الجنة . ولهذا اختارت الحكمة الإلهية مهنة التجارة ليعمل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في شبابه ، ليعلم المسلمون أن مهنة تجارة الرسول لها معنى رمزي وليس معنى حرفي ليساعدهم في فهم أن التجارة كمصطلح روحي يعني تبادل صفات الكمال وليس المنتوجات المادية . أما عن كيفية حدوث تبادل صفات الكمال بين الأمم فقد تم شرحه في القرآن الكريم بشكل مفصل :

الإية القرآنية في سورة آل عمران تذكر (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ ..... ١١٠) ، هذه الآية تأتي في الترتيب بعد الآيات التي تتكلم عن لون البشرة (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ...... ١٠٦) ونجد أيضا أن بعد الآية (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ..... ١١٠) بآيات قليلة تأتي الآية التي تتكلم عن (غزوة بدر) أول معركة قام بها المسلمون في الدفاع عن انفسهم وعن دينهم (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ١٢٣). تمعنوا في أرقام الآيات ، الآية التي تذكر (كنتم خير أمة) رقمها (١١٠) والآية التي تذكر غزوة بدر رقمها (١٢٣) أي الفرق بين الرقمين هو الرقم (١٣) ، غزوة بدر حدثت في عام (٢ هجري) ، أي بعد (١٢) عام من ظهور الإسلام كدين ، الحكمة الإلهية وضعت أرقام الآيات بشكل يدل على أن الآية التي تذكر (كنتم خير أمة..) المقصود بها أهالي قريش قبل عام واحد من عام البعثة ، فكل آية تعادل عام واحد ، ولهذا الحكمة الهية تستخدم كلمة (كنتم) في الماضي أي المقصود به هم أهالي قبيلة قريش قبل البعثة أي قبل أن يدخلوا الإسلام .

إذا ذكرنا هذا التفسير لجميع علماء العصر الحديث بجميع فروع العلوم المادية والإنسانية ، جميعهم سيكون رأيهم بأن هذا التفسير أكبر خرافة ظهرت في تاريخ البشرية ، ولا يمكن أن يتقبله عقل أي إنسان يعلم أشياء بسيطة عن منافع الحضارات للبشرية ، فمنطقة مكة وأهلها قبل ظهور الإسلام ، ليس لهم أي فضل في أي حضارة ذكرها التاريخ ، والسبب أنها منطقة جرداء فقيرة لا تجذب إهتمام أي حاكم لمحاولة إحتلالها وسلب خيراتها . ولهذا لم تظهر فيها أي حضارة ، فجميع الحضارات ظهرت في مناطق غنية بالموارد الطبيعية ، فما هي ميزات قبيلة قريش وما حولها التي تستحق عليها أن تكون خير أمة أخرجت للناس ؟ حتى نفهم ما هو المقصود بهذه الآية يجب تفسير رموز سورة آل عمران :

الآية (كنتم خير أمة) موجودة في سورة آل عمران ، أسم عمران هو ترجمة أسم يواكيم “يواخيم” ، إسم يواخيم هو عبري يتألف من كلمتين: "يهوه" وتعني الرب وكلمة "خيّم" هو فعل يعني نصب خيمته وأقام مسكنه، الحكمة الإلهية أختارت عنوان (آل عمران) لأن أسم عمران في اللغة العربية مصدره فعل (عمر) ، فعل عمر له معنيين : المعنى الأول له علاقة بمدة حياة الإنسان ، عمر الإنسانُ : عاش زمانًا طويلاً ، والمعنى الثاني له علاقة بتأسيس المكان : عمَر المكانَ : أصلحه وبناه أي من كلمة عمارة . فاسم (عمران) كمصطلح ديني يعني بالضبط العيش لمدة طويلة جدا بهدف بناء وتصليح التكوين الإنساني الجسدي والروحي. أي أن معنى (آل عمران) هم أولئك المؤمنين الذين ساهموا في تحسين التكوين الإنسان الروحي والجسدي عبر تاريخ الإنسانية .

إذا تمعنا في معاني آيات سورة عمران من بدايتها إلى نهايتها ، سنجد أنها تتكلم بشكل عام عن الفرق بين سلوك المؤمن وسلوك الكافر عبر تاريخ الإنسانية وجزاء كل واحد منهما في يوم الحساب ، سورة آل عمران في الحقيقة تتحدث عن المعنى الروحي لمصطلح قريش ، فكلمة قريش تضم كل شيء حدث في تكوين الإنسان المادي والروحي منذ بداية تكوينه من اللحظات الأولى بعد خروج الإنسان من الجنة حين بدأ تكوين الثقب الأسود ثم ولادة الكون وحتى اليوم ، أما مصطلح قوم آل عمران فهو رمز يتكلم عن ظهور الإنسان على سطح الأرض وتطوره عليها الذي أدى إلى ظهور الديانات والحضارات وحتى عصرنا الحاضر .

الحكمة الإلهية وضعت رموز في بعض الآيات في سورة عمران تفسر لنا كيف إستطاعت الإنسانية تطوير نفسها لتنتقل بالتدريج من العصر الحجري إلى أمم متطورة تصنع الحضارات والذي جعلها مختلفة نهائيا عن المجتمعات الحيوانية ، وبنفس الوقت تشرح لنا سبب إختلاف الأمم في طبيعة الصفات التي أنعم الله عليهم .فنجد في بداية السورة الله يقول (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء (٥) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ٦) فصورة وصفات كل إنسان عند ولادته ليس صدفة ولكن لسبب يعلمه الله فقط ، ثم يقول (ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ٣٤) أي أن الأمم تأتي بعضها من بعض، ثم يقول (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ١٠٤) . بمعنى أن الله يختار من الأمم أمة واحدة لتفتح طريق لمرحلة جديدة من مراحل تصحيح تكوين الإنسانية جسديا وروحيا . الله عز وجل هو أعدل العادلين ، لهذا لن يفرق بين أمة عن أمة أخرى ، لذلك هنا تأتي الآية (إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ) من سورة قريش لتفسر لنا ميزات الأمة المختارة التي ستقوم بمهمة معينة في تصحيح التكوين الإنساني.

الشتاء والصيف في هذه الآية لهما معنى رمزي يعبر عن رحلة روح الإنسان في الإنتقال من أمة إلى أمة أخرى لإكتساب صفاتها الحسنة ، بشكل عام الإنسانية تقسم إلى قسمين : قسم شرقي وقسم غربي، القسم الشرقي أنعم الله على شعوبه الرؤية الروحية لتأمين الحاجات الروحية للإنسانية ولهذا ظهرت الديانات في هذا القسم ، أم القسم الغربي فأنعم الله على شعوبه الرؤية المادية لتأمين الحاجات المادية للإنسانية ولهذا ابدعت شعوب القسم الغربي في تطوير العلوم المادية . رحلة الشتاء هي رمز تأمين الحاجات المادية ، فالشتاء (فصل الخريف والشتاء) هو رمز النمو الخضري في النباتات ، فجميع المحاصيل الزراعية الشتوية هي عبارة عن أجزاء من جذع النبات : أوراق ، ساق ، جذور . وكذلك بالنسبة للحيوانات فهي مرحلة النمو الجسدي للحيوانات الصغيرة . أم الصيف (فصل الربيع والصيف) فهي مرحلة النمو الروحي للكائنات الحية ، في النباتات يبدأ موسم الإزهار وتكوين الثمرة ، وفي الحيوانات فهو موسم التزاوج والولادة .

فالمقصود برمز رحلة الشتاء والصيف هو إنتقال الروح من مكان إلى آخر ليحدث تقمص الروح ، فرحلة الشتاء تعني أنه بعد وفاة الإنسان الذي يعيش في القسم الشرقي تولد روحه من جديد في القسم الغربي ، ليأخذ الإنسان فرصة في تأمين حاجات نموه الجسدي لتحسين صفاته الجسدية ومعارفه المادية ، أما بعد وفاته فتبدأ رحلة الصيف مرة أخرى فترحل روحه من القسم الغربي لتولد من جديد في القسم الشرقي ليأخذ فرصة جديدة في تأمين حاجات نموه الروحي لتحسين صفاته الروحية بشكل أفضل ، وبعد وفاته تبدأ رحلة الصيف مرة أخرى وترحل روحه مرة ثالثة لتولد في القسم الغربي ليتابع تحسين نموه المادي ، ثم بعد وفاته تبدأ رحلة الشتاء مرة أخرى وترحل روحه إلى القسم الشرقي ليولد ويتابع تحسين نموه الروحي ...وهكذا تستمر رحلات الشتاء والصيف بعد كل وفاة وفي كل مرة يحاول الإنسان التخلص من جميع الشوائب حتى يصل في الأخير إلى الصفاء والكمال الروحي والجسدي الذي يلائم قوانين الحياة في الجنة عندها فقط بعد وفاته تخرج روحه من الكون وتذهب إلى الجنة ليعيش حياة خالدة بلا موت .

الحكمة الإلهية وضعت دليلا على صحة هذه المعلومة في القرآن الكريم فبعد الآية التي تذكر (بعوضة فما فوقها) والتي كما شرحنا في المقالة الماضية لها علاقة بسورة قريش ، بعد هذه الآية بالترتيب تأتي الآية (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ۖ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٨) ، وكذلك الآية من سورة غافر ( فقالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى الخروج من سبيل(١١) ، الآيتان تتكلمان عن (الموت والبعث) مرتين كرمز لرحلة الروح الأولى (الشتوية) ورحلة الروح الثانية (الصيفية) .

فكرة التقمص كانت موجودة في معظم الديانات القديمة والقرآن الكريم وضعها بشكل رمزي كي لا يراها المسلم في عصر الحضارة الإسلامية فتعزله عن بقية الديانات ، فعدم ذكرها بشكل واضح هدفه دفع المسلم في البحث في تعاليم دينه الروحية دون الإهتمام بمصير الجسد . ولهذا نجد أن الحكمة الإلهية في تصميم أسفار التوراة لا تذكر شيئا لا عن يوم الحساب ولا عن الجنة ولا النار كجزاء فردي ،ولكن تذكر الجزاء والعقاب كعمل جماعي يؤثر على مستقبل الأجيال القادمة للأمة ، فعدم وجود يوم الحساب في الديانة اليهودية له معنى رمزي أي أن روح المؤمن خالدة لا تموت والذي يموت هو فقط الجسد ، ولهذا في الديانتين المسيحية والإسلامية لم يتم ذكر التقمص بشكل واضح للجميع .

الإنسان في كل مرة بعد وفاته يحاسبه الله على أعماله فعندما يولد من جديد يعطيه الصفات المناسبة لأعماله في حياته الماضية سواء كانت كشكل أو كميزات إجتماعية من ذكاء وثروة عائلية وهكذا . فشكل كل إنسان ومكان ولادته ووضع عائلته التي ينتمي إليها هي جزاءه لما فعل في حياته الماضية ، فإذا كانت أحواله جيدة فحظه السعيد هذا سببه أنه في حياته السابقة كانت أعماله الصالحة أكثر من أعماله السيئة، أما إذا كانت أحواله تعيسة فحظه السيء سببه أنه في حياته السابقة كانت أعماله السيئة أكثر من أعماله الصالحة . فالطفل الذي يختاره الله ليكون نبيا لا يحدث صدفة ولكن لأنه في حيواته السابقة جميعها كان مثالا للصلاح والتقوى .

ولهذا بشكل عام الأمم الغربية لون بشرتها بيضاء وتناسق شكلها أفضل وهذا بسبب أن أفرادها في حياتهم السابقة كانوا يعيشون في القسم الشرقي ولهذا كانت إهتماماتهم الروحية أكثر من إهتماماتهم المادية لذلك كان جزائهم البشرة البيضاء وجمال الشكل ، أما أفراد الشعوب الشرقية فكونهم في حياتهم السابقة كانوا يعيشون في القسم الغربي لهذا كانت إهتماماتهم المادية أكثر من إهتماماتهم الروحية لذلك تحول لون بشرتهم الأبيض إلى بشرة مسمرة أو داكنة ، لأن تأمين الحاجات الروحية عند الله أرقى من تأمين الحاجات المادية ، فتعاليم الدين التي تحسن من السلوك الروحي هي أرقى من تعاليم الفيزياء التي تحسن السلوك المادي .

الكون بأكمله يحكمه قانون إلهي يحقق العدالة المطلقة (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (٧) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٨ الزلزلة) ، بمعنى (ما تزرعه ستحصده) ، فكل إنسان رأى أن وضعه عند ولادته وطفولته كانت قاسية جدا ، أن لا يلوم الله لأنه أعطاه حظا سيئا ولكن أن يلوم نفسه لأن حظه هذا هو صنعه بنفسه في حياته الماضية وأن كل ما كان يعاني منه في طفولته كان نتيجة أعماله هو ، لهذا على كل إنسان أن يتقبل وضعه الذي كان عليه في طفولته بدون تذمر وأن يعمل على تحسين نفسه ليكون حظه في الحياة القادمة أفضل، ولكن أيضا على كل مؤمن أن يحاول المساعدة في تأمين ظروف مناسبة لكل طفل كي يبدأ مرحلة جديدة من حياته ليصحح أخطائه التي إرتكبها في حياته الماضية فصفات كل طفل هي عقاب أو جزاء من الله ، ولكن طالما أنه ولد من جديد فهو عند الله كائن بريء من أي تهمة ومن حقه أن يبدأ حياة جديدة ليكون إنسانا صالحا في المستقبل.

هذا على المستوى الفردي ، ولكن على مستوى الأمة فالأمر فيه تفاصيل أخرى سنوضحها في مثالنا عن الأمة الإسلامية في فترة ظهور الإسلام :

آيات سورة عمران تذكر أسماء بعض الأنبياء دون أن تتكلم عنهم ، فقط قصة مريم العذراء وقصة عيسى عليه الصلاة والسلام نجد بعض الآيات تتحدث عنهما بشيء من التفصيل ، وهذا ليس صدفة ولكن لتفسر لنا معنى الآية (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ ..... ١١٠ آل عمران) فالمقصود هنا هو أن قسم من أهالي قريش والمناطق المحيطة عاشوا في حياتهم السابقة في زمن ظهور عيسى او بعد صعوده إلى السماء ، فآمنوا به وساعدوا في نشر دينه ، هؤلاء هم أنفسهم في حياتهم الجديدة هم أولئك الذين ولدوا في منطقة مكة والمناطق التي ستظهر فيها الحضارة الإسلامية فدخلوا الإسلام وساعدوا في ظهور الحضارة الإسلامية وازدهارها . وهنا سنعرض معلومة بسيطة تشرح لنا شيئا عن طبيعة دين الإسلام ، فبما أن الكثير من المسلمين في حياتهم السابقة عندما كانوا مسيحيين حَرموا أنفسهم من لذة معاشرة النساء كونهم كانوا قسسيين أو رهبان لا يتزوجون أو قُتِلوا في سبيل إيمانهم قبل أن يتزوجوا ، لهذا وضع الله ظروف خاصة في منطقة ظهور الاسلام جعلت عدد النساء أضعاف عدد الرجال بشكل يتطلب فيه المجتمع تعدد الزوجات . إن قانون تعدد الزوجات ليس لكل المسلمين عبر الزمن ولكن كان مكافئة فقط لأولئك المسلمين الذين عاشو في زمن الحضارة الإسلامية وكانوا في حياتهم السابقة مؤمنين عاشوا حياة عفيفة بعيدا عن الملذات الجسدية .

الأمور ليست بهذه البساطة التي نشرحها هنا عن سبب كون سكان منطقة ظهور الأسلام (كنتم خير أمة..) فالأمة الإسلامية لم يكن تكوينها فقط من مؤمني الأمة المسيحية ولكن من مؤمني جميع الأمم ، ولهذا ظهرت مذاهب إسلامية مختلفة فكل مذهب حاول دمج محاسن ماضيه الروحي إلى الإسلام ليأخذ الإسلام شكله المتكامل الصحيح ، وهذه المحاسن لم تأتي لوحدها من الماضي في فكر العالم المسلم ، ولكن بمساعدة القرآن نفسه فالعالم المسلم الذي أتى بها رآها في القرآن لذلك فسرها بطريقة مختلفة عن العلماء الآخرين ، القرآن الكريم كتاب متكامل يتكلم عن محاسن جميع الأمم. ولكن للأسف العلماء المسلمين المطففين في كل مذهب بدلا من محاولة توحيد محاسن هذه المذاهب راحوا ورفضوا المذاهب الأخرى واتهموها بالضلال وتشويه تعاليم الإسلام ، فدخلت الشوائب جميع المذاهب لتصل إلى مرحلة تمنع توحيدها .

كل إنسان يعيش اليوم موجود على سطح الأرض ، كان في حيواته السابقة : هندوسي وبوذي ويهودي ومسيحي ومسلم ، وكان أيضا آسيوي وأوربي وأفريقي وأمريكي . المؤمن الحقيقي هو الذي روحه لا تنسى ماضيها لذلك فهو يحمل صفاتها الحسنة ، لهذا روحه تجعله - بدون أن يدرك عقله شيئا - يشعر بعاطفة محبة نحو شعوب الأمم الأخرى لأن في حيواته الماضية كان منها هو أيضا ، روحه تجعله يرى فيها الناس الصالحين لهذا يحاول التعاون معهم ، أما المؤمن المزيف فهو الذي روحه لا تذكر أي شيء عن حيواته الماضية لهذا روحه تجعله يرى منافقي الشعوب الأخرى فقط فيشعر نحو هذه الشعوب بالحقد والكراهية وكأنها أمم كافرة . للأسف تعاليم جميع الديانات العالمية بصورتها المشوهة كما هي اليوم تفرض على روح الإنسان المسلم وغير المسلم منذ طفولته أن ينسى كل شيء عن حيواته الماضية لهذا نجد أن تعصب الديني في مختلف الأمم قد وصل إلى أسفل السافلين في عصرنا الحاضر لأن الدين لم يعد دين روحي ولكن دين سياسي يعشق نفسه فقط .

ملاحظة : ماضي كل إنسان هو من علم الغيب الذي لا يعلم به إلا الله ، والبحث فيه من أجل معرفة (من كان في حياته الماضية) هو نوع من الشرك بالله ، الإنسان المؤمن هو الذي يفكر في الحاضر والمستقبل ليساهم في حل المشاكل التي تعاني منها الإنسانية .

وسوم: العدد 812