الخاطرة ٢١٢ : ابن رشد الفيلسوف المظلوم الجزء ١٣

خواطر من الكون المجاور

في المقالة الماضية ذكرنا أن المقصود برحلتي الشتاء والصيف المذكورة في سورة قريش هو رحلة الروح بعد الوفاة من القسم الشرقي من العالم للولادة من جديد في القسم الغربي أو بالعكس ، وأنها تعني التقمص ، وذكرنا بشكل مختصر بعض الإثباتات على صحة هذه الفكرة . أحد القراء كتب تعليق يتألف من كلمات قليلة (كلامك غير منطقي ولا يقبله العقل) . هنا لن أحاول أن أثبت بأن فكرة التقمص هي حقيقة واقعية ، فعدا عن المقالة الماضية لقد كتبت عن هذا الموضوع سلسلة مقالات بعنوان (التقمص) فمن يريد أن يؤمن بصحتها فليؤمن ومن لا يريد فهو حر ولا يوجد أي مشكلة ، ولكن الموضوع الهام هنا : ما هو مفهوم الشيء المنطقي الذي يتقبله العقل وما هو الشيء غير المنطقي الذي لا يتقبله العقل ؟ فكما ذكرت مرات عديدة أن معلومات مقالاتي جديدة ومختلفة عن كل ما سمعه القراء من قبل وأنا أعلم تماما بأن معظمها قد تبدو غريبة وغير منطقية ولن يتقبلها العقل في البداية ، فمعلومات مقالاتي تخص تكوين النفس البشرية ، لهذا كانت الصفحة التي أنشر فيها مقالاتي تحمل عنوان (عين الروح) . فهذا النوع من المعلومات هي عبارة عن إحساسات روحية تؤثر على سلوك الإنسان الروحي بشكل يمنع العقل التحكم بها . لهذا سنحاول أن نشرح هذا الموضوع باختصار ليساعدنا على فهم سلوك بعض الصحابة والمسلمين والذي كان له تأثير كبير على مجرى الأحداث في تكوين الأمة الإسلامية .

إن معلومات العلوم المادية هي نفسها في جميع شعوب العالم ، لهذا نجد أنه في العلوم المادية يمكن وبسهولة ان نتحقق من المعلومة فيما إذا كانت منطقية يتقبلها العقل أم لا وذلك عن طريق الحسابات والتجارب والمراقبة . أما بالنسبة للأحاسيس الروحية فهي تختلف ليس فقط من شعب إلى شعب ولكن أيضا من فرد إلى فرد آخر فكل إنسان له منطق روحي معين يختلف عن الإنسان الآخر تماما مثل إختلاف شكل البصمة بين الناس ، فكل إنسان له بصمة خاصة به ، حتى التوائم المتطابقة فرغم أنها أتت من نفس البويضة الملقحة ووجب أن يكون فيها نفس شكل البصمة ولكن بسبب إختلاف ظروف النمو للتوأم نفسه في الرحم نجد أن هذه الإختلافات البسيطة تؤدي إلى حدوث إختلاف في شكل البصمة ، لهذا نجد أن إحتمال وجود تطابق بين شخصين في شكل البصمة هو واحد على ٦٥ مليار شخص ، ومثل هذا العدد من السكان على سطح الكرة الأرضية من المستحيل وجوده في نفس الزمن ، فعدد سكان العالم حتى اليوم لم يتجاوز ٧ مليار فقط . فاختلاف شكل البصمة ليس صدفة ولكن هو حكمة إلهية تؤكد على إختلاف التكوين النفسي من شخص إلى شخص آخر.

مصطلح العقل بشكل مبسط له مفهومين : الأول ويعني الدماغ ، والثاني يعني العقل الباطني .

الأمور المادية يتحكم بها الدماغ في تحديد درجة صحتها فالدماغ هو مستودع للمعلومات المادية ، الماء مثلا كمعلومة مادية هو مادة سائلة يحتاجها جسم الإنسان ليستطيع البقاء على قيد الحياة ، هذه المعلومة منطقية يتقبلها عقل كل إنسان في أي بلد من بلدان العالم وفي كل العصور .

أما العقل الباطني فهو مستودع للمعلومات الروحية التي إكتسبها الإنسان في حياته الحالية وحيواته السابقة ، والله وحده يعلم فقط بمحتواها . هذه المعلومات الروحية في العقل الباطني تتفاعل مع بعضها البعض في مرحلة الطفولة ومع المعلومات الجديدة التي يكتسبها الطفل تتكون شخصيته الروحية التي ستحدد نوعية سلوكه الروحي عندما يكبر ، فالشخص الذي نشأ في بيئة مسلمة مثلا سيعتبر أن فكرة التقمص هي فكرة غير منطقية ولا يتقبلها العقل ، أم الشخص الذي نشأ في بيئة هندوسية سيعتبر أن فكرة وجود حياة واحدة ويوم حساب واحد هي فكرة غير منطقية ولا يتقبلها العقل ، موضوع الجن أيضا ففي المجتمعات الإسلامية نجد في بعض المناطق أن الإيمان بوجود الجن يعتبر شيء بديهي ولا يمكن النقاش به نهائيا فهناك أشخاص يعللون كل شيء غريب يحدث معهم أن سببه الجن ، بينما في المجتمعات الأوربية نجد العكس تماما ، لي سنوات طويلة عشتها في مجتمع أوربي لم أسمع أحدا منهم كبيرا كان أم صغير مثقفا كان أم جاهلا يتكلم عن الجن ، فالشعور بوجود الجن في قاموس حياتهم غير موجود .

مثل هذا النوع من المعلومات الروحية لا يمكن إقناع الآخرين بصحتها أو خطأها خلال دقائق أو ساعات ولكن تحتاج إلى سنوات أو ربما إلى أجيال من الزمن لأنها تتعلق بإحساسات العقل الباطني ، لهذا فالعالِم الحكيم هو الذي يعرض معلوماته فقط ويترك الله هو الذي من يحدد متى ستنتقل هذه المعلومات إلى العقل الباطني في الآخرين لتحل محل المعلومات المناقضة لها ، وعلى العالم الخصم أن يأتي بأدلة أقوى إذا كان لم يقتنع بصحتها . فالله هو الأعلم بمن إهتدى وهو أعلم بمن ضل عن سبيله.

سأذكر لكم حادثة بسيطة توضح طريقة عمل العقل الباطني ، قبل سنوات عديدة تناقشت مع أحد الأصدقاء عن فكرة يعتقد أنها تتناقض مع تعاليم الدين الإسلامي ، صديقي هذا لم يكن شخصا بسيط الثقافة فهو يحمل شهادة ماجستير في الأدب العربي ولديه ثقافة عالية في الشريعة الإسلامية فكان يحاول نقض الفكرة بإعطاء كل دليل أعرضه عليه دليلا يناقضه . ورغم أن النقاش بيننا أخذ وقتا طويلا ولكنه إنتهى بعدم إقتناعه بصحة فكرة موضوع النقاش . بعد حوالي عشر سنوات من ذلك اليوم قرأت مقالة لصديقي هذا نشرها في أحدى المجلات الثقافية يتكلم عن صحة هذه الفكرة وبنفس الحماس الذي كان في المرة الماضية يحاول إثبات عدم صحتها . ما أريده أن أقول هنا هو أن صديقي هذا احتاج لعدة سنوات لتنظيف الشوائب القديمة من عقله الباطني ليستطيع تقبل هذه الفكرة لتصبح جزء من تكوينه النفسي الجديد .

الحكمة الإلهية في الأحداث التاريخة الدينية وضعت بعض الرموز لتساعدنا في فهم أسس علم النفس لفهم تكوين النفس البشرية ولتساعدنا في التعامل بحكمة مع الآخرين لكي لا تكون ردة الفعل فيهم عكسية فتجعلهم بدلا من تقبل الفكرة ينفرون منها . وللأسف كثير من علماء الدين مسلمين وغير مسلمين بسبب كون ثقافتهم في علم النفس في أدنى مستوياتها جعلتهم بارعين في تكريه الناس لدينهم او مذهبهم نتيجة سلوكهم الهمجي .

الحكمة الإلهية في الديانة المسيحية وضعت شخصية المعلم غامالائيل اليهودي الذي تحدثنا عنه في قصة بولس ، فهذا المعلم رأى وسمع كلام عيسى عليه الصلاة والسلام ومعجزاته ومع ذلك لم يؤمن به ولكنه وقف حياديا من أمره ، فبدلا من يشارك بقية كهنة اليهود في محاربة تعاليم عيسى نجده دافع عنه أمام بقية الكهنة وطلب منهم أن يتركوا أمره لله فإذا كان فعلا هو المسيح كما يقول الله سينصره وإذا كان دجالا الله نفسه سيدمره ، المعلم غامالائيل أيضا هو الذي طلب من بولس بعدم المشاركة في القبض على المسيحيين لمعاقبتهم ، ورغم أن هذا المعلم ظل يهوديا ولم يعتنق المسيحية ومع ذلك نجد المسيحيين يتكلمون عنه بكامل الإحترام ولم يكفره أحد منهم وتركوا أمره لله .

في الإسلام أيضا توجد نفس الحادثة ، فعم الرسول أبي طالب هو أيضا رمز مماثل لرمز المعلم اليهودي غامالائيل ، علماء المسلمين للأسف لم يعطوا اي أهمية لرموز الدين المسيحي لذلك لم يفهموا دور أبي طالب عم الرسول ، فأبو طالب عاش حوالي عشر سنوات بعد البعثة النبوية ولم يسلم . بعض مصادر الشيعية تحاول أن تؤكد أن أبو طالب قد أسلم لكي لا يتركوا أي شيء يسيء لشخصية علي عليه السلام كونه ابن أبو طالب ، ولكن الحقيقة هي لو أن أبو طالب قد أسلم حقا لما تجرأ أي مسلم أن يذكر غير ذلك ، فعدم دخول ابو طالب في الإسلام كان حكمة إلهية وليس طعن في شخصيته ، فمن المعروف أن أبو طالب كان من أشرف رجال قريش ، ولهذا أختاره الله ليكون بمثابة والد النبي عندما كان طفلا ليربيه ويرعاه بعد وفاة عبد المطلب جد الرسول .

أبو طالب كان بعمر حوالي ٧٥ عام عند البعثة النبوية ، كانت شخصيته الروحية قد وصلت إلى مرحلة من الصعب جدا أن تتأقلم مع الوضع الروحي الجديد ، فموضوع العقيدة الروحية ليست معادلة كيميائية يمكن رؤية صحة نتيجتها مباشرة ، ولكن هي تفاعلات مليارات من المعلومات التي رسخت في عقله الباطني طوال سنوات حياته ، ولن يستطيع لا الأنبياء ولا المعجزات أن تحذف هذه المعلومات فجأة لتحل محلها معومات روحية جديدة ، فما حدث مع غامالائيل حدث تماما مع أبو طالب ، الله عز وجل يقول (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ٥٦ القصص) ، ألم يكن من السهل على الله أن يجعل أبو طالب أن ينطق الشهادة قبل أن يلفظ روحه ، فهذا شيء بسيط على الله عز وجل ، إذن لماذا لم يساعده الله وتركه يموت دون أن يدخل الإسلام ؟ فأبو طالب يستحق كل خير ، كان مثالا للإنسان الطيب والأب الصالح وطوال وجوده مع الرسول بعد البعثة وقف أمام جميع زعماء قريش ليدافع عنه ويحميه من أذيتهم حتى وفاته. ألا يستحق هذا الرجل مساعدة إلهية ليدخل قلبه الإسلام فيموت مسلما لينال الجنة لما فعله من خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؟

الحقيقة هي أن الله عز وجل هو الذي وضع الظروف بشكل معين ليمنع أبو طالب من الدخول في الإسلام ليصبح رمزا يتعلم منه المسلمون أن التكوين النفسي للإنسان معقد جدا ولهذا أختار الله أبو طالب عم الرسول الذي يملك جميع صفات المبادئ السامية والأخلاق الحميدة ليتذكره كل مسلم وبدلا من أن يشعر المسلم بالحقد على كل شخص يخالف رأيه أن يتذكر أبو طالب ليعلم أن عدم إعتناقه للإسلام لم يكن لأنه كان شريرا أو خبيثا ولكن بسبب شيء آخر موجود في عقله الباطني وهذا الشيء يحتاج إلى زمن طويل حتى يتم حذفه ليدخل مكانه فكرة جديدة تقلب الموازين في عقله الباطني ، لهذا على المؤمن أن يملك قلب رحيم يراعي هذه الأمور فلا يتهور بالحكم على الآخرين بمجرد أنهم يخالفون ما يؤمن به هو .

للأسف بدلا من أن يأخذ علماء المسلمين هذه الحكمة الإلهية في رمز المعلم اليهودي غامالائيل وأبو طالب ، راح بعضهم وألف أحاديث ودسها على أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهناك العديد من الأحاديث في صحيح بخاري ومسلم تؤكد أن مصير أبي طالب هو نار جهنم . إن وجود مثل هذه الأحاديث في صحيح بخاري ومسلم لا يعني سوى شيء واحد : أن العلماء المسلمين الذي يدافعون عن صحيح البخاري ومسلم لا يفقهون شيئا في علم النفس البشرية لذلك تقبلوا هذه الأحاديث الباطلة على أنها أحاديث شريفة بكل سهولة . فهل الأمور الروحية بهذه البساطة الساذجة ؟ هل من المعقول أن شخص مثلا طوال حياته عاش فاسقا وظالما وفي آخر لحظة من حياته لأنه نطق الشهادة سيدخل الجنة ، بينما أبو طالب الذي كان طوال حياته إنسان طيبا وصالح قام بواجباته نحو الآخرين على أفضل ما يرام ولكن بسبب كونه لم ينطق بالشهادة قبل وفاته فسيكون مصيره جهنم . إذن لماذا طرد الله الإنسان من الجنة طالما أن الأمور بسيطة جدا تحتاج إلى نطق جملة واحدة فقط لتصحح التكوين الروحي للإنسان بأكمله ليستحق العودة إلى الجنة ؟

المشكلة تكمن في أن تصور علماء المسلمين للتكوين الروحي لنفس البشرية بسيط جدا يصل لمستوى السذاجة ، فحسب تصورهم أن آدم بعد طرده من الجنة مباشرة ظهر على سطح الأرض قبل بضعة آلاف سنين وأنه منذ ذلك الوقت فكل شخص يولد على سطح الأرض فإنه بعد وفاته يذهب إما إلى الجنة أو إلى النار حسب نوعية أعماله . فإذا كانت الأمور بسيطة إلى هذا المستوى لماذا لم يظهر دين واحد من البداية ولكن بدلا من ذلك نجد ظهور ديانات مختلفة حيث كل ديانة متطورة اكثر من التي قبلها بشكل تناسب مستوى تطور إدراك الإنسانية حسب كل عصر ، لماذا تطورت العلوم بشكل مستمر لتصل الأمور أن يبحث العلماء اليوم عما يحصل في أعماق الذرة وأعماق الخلية وعما يحصل في الفضاء الكون الفسيح ، جميع هذه الدراسات لم تخطر على سكان أهل العصر الحجري ولا في الخيال ، لماذا إذن حدثت جميع هذه التطورات الفكرية في عقل الإنسان ؟ ما فائدة جميع هذه التطورات في الأديان والعلوم في تاريخ الإنسانية التي لها أكثر من ٢٠٠ ألف عام في تطور مستمر طالما أن جملة واحدة إذا نطقها الإنسان قبل أن يموت بإمكانها أنه تمنحه الحق في العودة إلى الجنة ؟ هذا النموذج الذي يؤمن بصحته علماء الدين الإسلامي عن التكوين الروحي للإنسان ، هو تصور فقير وساذج يخلق في فكر المسلم كون ذو مفهوم عشوائي مليء بالتناقضات .

الإنسان تم طرده من الجنة منذ مليارات السنين بسبب تشوه تكوينه الروحي ، وكل ما يحصل من تطورات داخل هذا الكون هدفها هو تصحيح التكوين الروحي للإنسانية ليستعيد شكله المناسب الذي كان عليه في الجنة ، إن تكوين النفس البشرية شيء معقد جدا لهذا يجب النظر إلى الإختلافات في المعتقدات بحكمة بعيدا عن أي تعصب ، فمثلا وجود أنواع عديدة للعلوم لا يعني وجود تناقضات فيما بينها ولكن يعني وجود زوايا نظر مختلفة ، كل علم يدرس الشيء من زاوية إختصاصه ، وللوصول إلى الحقيقة الكاملة للشيء المدروس يجب توحيد جميع زوايا رؤية العلوم المختلفة ، بنفس الطريقة يجب أن ننظر إلى الإختلافات في معتقدات الأمم لأن هذه الإختلافات ليست تناقضات ولكنها زوايا نظر مختلفة للتكوين النفسي للبشرية . الشيء المنطقي والذي يتقبله العقل يختلف من أمة إلى أمة ، والشخص الذي يظن أنه ما يؤمن به هو فقط المنطقي الذي يتقبله العقل علومه ناقصة عاجزة على فهم ما يشعر به الآخرين لهذا فهو بحاجة إلى ثقافة من نوع آخر تسمح له فهم معتقدات الآخرين .

في المقالة القادمة إن شاء الله سنشرح تأثير البيئة الروحية للعصر الجاهلي على بعض الشخصيات في الأسلام والتي سببت إنشقاق الإسلام إلى مذاهب مختلفة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم .

وسوم: العدد 814