الخاطرة ٢٢٧ : ابن رشد الفيلسوف المظلوم الجزء ٢٨

خواطر من الكون المجاور الخاطرة 

في المقالة الماضية ذكرنا أن المخطط الإلهي الذي وضعه الله لتكوين الحضارة الإسلامية ، كان يعتمد على أمرين : الأول هو تحرير فكر المسلمين من سيطرة الاسلام السياسي الذي صنعه معاوية ، وأن هذا الأمر قام به القديس يوحنا الدمشقي ، أما الأمر الثاني فكان تكوين قاعدة علمية صحيحة تضمن الاختيار للمنهج العلمي الصحيح الذي يجب أن يتبعه العلماء المسلمين ، وأن هذا الأمر سيقوم به الإمام السادس جعفر الصادق عليه السلام الذي عاش في زمن القديس يوحنا الدمشقي ولكن في منطقة بعيدة عنه وبالتحديد في المدينة المنورة .

قبل أن نتكلم عن دور الإمام جعفر الصادق عليه السلام في هذا الموضوع ، لا بد في الأول أن نتكلم عن مدرسة آل البيت في مرحلة ما قبل الإمام جعفر الصادق في فترة العصر الأموي ، والتي كانت تقوم بدورها بشكل صامت يسمح للأمة الإسلامية أن تتابع تطورها في تكوين حضارة إسلامية تلعب دور في إنتقال الإنسانية إلى مرحلة روحية جديدة كما خطط الله لها .

مدرسة آل البيت وبسبب الظروف السياسية التي صنعها معاوية وخلفاء الدولة الأموية ، كانت مدرسة منبوذة سياسيا ، معظم المسلمين في معظم البلاد الإسلامية كانوا يؤمنون أن علوم أئمة آل البيت - كونهم من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم- كانت هي الأنقى والأصح من علوم الصحابة والتابعين ، ولكن خوف المسلمين من أن توضع أسمائهم في اللائحة السوداء عند رجال السلطة ، كان يمنعهم من إرسال أبنائهم للتعلم في مدرسة آل البيت . لهذا كانت علوم مدرسة آل البيت هي التي تخرج مع الذين كانوا يرحلون من المدينة إلى المناطق المجاورة .

مدرسة آل البيت رغم تلك الظروف الصعبة التي فرضتها السلطة الأموية ، كانت تتابع نشر علومها بشكل يناسب تطور معارف المسلمين ، فبحكم وجودها في المدينة المنورة البعيدة عن ثقافات وعقائد الشعوب المجاورة ، اتبعت نظاما مناسبا لتطور الظروف ، فهي نظرت إلى الأمة الإسلامية وكأنها طفل ينمو فكريا بالتدريج ، لذلك كان علومها في البداية تعتمد على التأثير الروحي فقط في المسلمين ، بشكل لا تسمح لعقل المسلم أن يأخذ حريته في التفكير قبل أن يتكون لديه قاعدة روحية تمنع تفكيره من الدخول في الطريق المناقض لفطرته وتكوينه الروحي . لهذا كانت علوم مدرسة آل البيت في البداية تعتمد علوم اللغة العربية والإحساس الروحي لمعاني الآيات القرآنية والآحاديث الشريفة ، وكانت اجتهادات آل البيت تنتشر بين سكان المدينة ، وكون المدينة المنورة كانت مركز روحي هام بالنسبة للمسلمين ، فكان كل مسلم يأتي للحج إلى مكة يمر من المدينة ويبقى فيها بضعة أيام ليرى الأماكن التي عاش فيها الرسول صلى الله عليه وسلم وليرى ذريته أيضا ، فكان يسمع منهم ومن أهالي المدينة ما تعلمه الناس من مدرسة آل البيت ، ولكن بنفس الوقت كانوا يأتوا بقضايا تشغل فكرهم كونهم من شعوب كان لها عقائد وتقاليد نتجت عن حضارات وديانات بلادهم قبل دخولها في الإسلام ، فكان أئمة اهل البيت يقدمون لهم شروح روحية بسيطة بشكل تجعل فكرهم يركز على الإهتمام الروحي في تلك القضايا وليس العقلي . 

هذه المعلومات والقضايا الفكرية الخارجية التي كانت تصل إلى مدرسة أهل البيت ، كان أئمة أهل البيت يدرسونها ويبحثون عن إجابتها من القرآن الكريم والآحاديث الشريفة ، وينقلون ما توصلوا إليه إلى أبنائهم فقط ، لكي لا تثير فكر بقية المسلمين وتفتح على المسلمين أبوابا عديدة في التعمق فيها وخاصة أن الأمة الإسلامية في تلك الفترة كانت أمة تعتمد علوم بدائية لا تفيدها في البحث بعمق في النصوص الدينية . 

علوم مدرسة آل البيت كما ذكرنا كانت تعتبر من السلطة الأموية مدرسة منبوذة ، ولهذا السبب كان لا يجرؤ أي شخص أن يذكر أن تلك المعلومات قد أخذها من آل البيت ، فكانت علوم آل البيت تنتشر بدون أن تحمل اسمائهم ولهذا كانت علومهم واخبارهم قليلة جدا في كتب التراث وخاصة في كتب السنة والجماعة ، ولكن الله عز وجل له حكمته في هذه المسألة ، فروح السوء لها مخططها ولكن روح الله أيضا لها مخططها لتسير الأمور كما أراد الله لها . فرغم أن السلطة السياسية منعت المسلمين من ذكر علوم آل البيت لتحذفهم من الوجود ، ولكن الحكمة الإلهية اختارت شخصين من خلالهما نستطيع أن نأخذ فكرة عن علوم آل البيت التي إنتقلت إلى المسلمين في فترة العصر الأموي ، الشخص الأول هو الحسن البصري، والثاني هو واصل بن عطاء .

القراء من سنة وشيعة الذين لديهم معلومات عن هؤلاء الإثنين ، ربما سيرفضون مباشرة صحة هذه الفكرة . فالشيعة يعتبرون الحسن البصري سني منافق ، والسنة يعتبرون واصل بن عطاء مسلم منافق لأنه مؤسس الفرقة المعتزلة . للأسف آراء علماء المسلمين كما ذكرت في مقالات ماضية تعاني من غياب علوم الحكمة لهذا تخربطت عليهم الأمور . وهنا إن شاء الله سنحاول في البداية شرح بعض الأمور لنفهم رمز كل واحد منهما ، ومن ثم سنشرح العيوب الفاضحة في بعض الروايات المكذوبة عنهما .

هناك عدة رموز مشتركة بين الحسن البصري وواصل بن عطاء : الرمز الاول : أن كليهما ينتميان لعائلة مملوكة تم عتقها ، فكونهما من عائلة كانت مملوكة هذا ليس صدفة ولكن رمز روحي يعبر عن جميع المسلمين خارج منطقة مكة المكرمة والمدينة المنورة التي ظهر وتكون فيها الإسلام . الرمز الثاني : أن كلاهما ولدا في المدينة المنورة وهذا أيضا ليس صدفة ولكن رمز روحي يعبر على أنهما من مدرسة آل البيت ، فصحيح ان جميع اهل المدينة لم يكونوا مع علي عليه السلام سياسيا ولكن كمكانة علمية كان معظمهم معه ومع أبنائه وأحفاده . الرمز الثالث : أن كلاهما سيرحلان إلى البصرة لينشرا علومهما هناك وهذا أيضا ليس صدفة ولكن حكمة إلهية ، فكما ذكرنا في مقالة ماضية أن مدينة البصرة تقع في منطقة إلتقاء نهر الفرات مع نهر دجلة ، وأن نهر الفرات هو رمز الروح النباتية(العلوم الروحية) ونهر دجلة رمز روح الأسد (العلوم المادية) ، وأن اسم المدينة (بصرة) هي كلمة رمزية تعني البصيرة لانها توحد العلوم الروحية والعلوم المادية لينتج عنها الرؤية الشاملة .

الحسن البصري (٢١-١١٠ هجري ، ٦٤٢-٧٢٨ ميلادي) ولد في المدينة قبل سنتين من وفاة الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، كانت أمه واسمها خَيْرَة، تخدم أم المؤمنين أمَّ سلمة زوجَ النبي صلى الله عليه وسلم ، فعاش الحسن منذ ولادته في بيت النبوة ، كان الحسن طفل جميل ، وكانت أم المؤمنين أم سلمة تحبه كثيرا وتشرف على تربيته وكما تذكر الروايات أن أم المؤمنين أم سلمة كانت عندما تراه يبكي ترضعه من ثديها ريثما تنتهي أمه من عملها. فنما الطفل وترعرع في بيئة روحية تسيطر عليها الروح الإنثوية ( الروح النباتية) ، هذه البيئة الروحية ستجعله طوال حياته رجلا محبا للسلام ليكون الحسن البصري في الإسلام أحد رموز الروح النباتية ، الحسن البصري شبَّ في كنف عليّ بن أبي طالب عليه السلام والصحابة الكبار وحاول أن يكون صورة مشابهة للحسن بن علي عليهما السلام ، فحفظ القرآن وهو في العاشرة من عمره وأخذ منهم الروايات والأحاديث وتعلم منهم كيفية البحث فيها . فكان الحسن من أوائل تلامذة مدرسة آل البيت .

عندما بدأت أحداث الفتنة في المدينة والتي أدت إلى مقتل عثمان رضي الله عنه ، ثم معركة الجمل وبعدها معركة صفين ، رأى الحسن البصري كيف إنقلبت الأمور وبدلا من أن تكون معارك المسلمين معارك فتوحات تحولت إلى معارك داخلية بين المسلمين أنفسهم ، روحه التي نمت في بيئة روحية نباتية ، لم تتحمل ما يحدث فترك المدينة ورحل إلى البصرة ، كانت البصرة في ذلك الوقت مدينة حديثة تحاول أن تنتعش مدنيا وعلميا . فراح الحسن هناك يستمع إلى كبار قراء هذه المدينة وينمي علومه ، في ذلك الوقت كلمة (علماء) لم تكن مستخدمة عند المسلمين ، لأن علوم الدين كانت تعتمد فقط على الفهم اللغوي للنصوص . 

بعد إنتهاء فترة الخلفاء الراشدين واستيلاء الأمويين على السلطة أختاره أمير الخرسان الربيع بن زياد الحرثي ليعمل كاتبا ( وليس محاربا) عنده في غزواته ، فظل معه لمدة عشر سنوات . ثم عاد إلى البصرة ليستقر فيها حتى وفاته ، حيث أصبح أشهر علماء عصره ومفتيها ، وكما يقول البعض عنه كان حبر الأمة الإسلامية .

حسن البصري كما ذكرنا قبل قليل نما وترعرع في بيئة روحية أنثوية ، هذه البيئة الروحية جعلته طوال حياته يتبع منهج الإمام الحسن عليه السلام والذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه " إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِينَ " ، فكانت علوم الحسن البصري وطريقة تفسيره للآيات القرآنية والأحاديث الشريفة تعتمد وتركز على تنمية التعاون والمحبة بين المسلمين ، لهذا كان يبتعد نهائيا عن أسلوب العنف كطريقة لحل المشاكل ، فرغم أنه كان مقتنع تماما بأن معاوية بن أبي سفيان لم يكن يستحق الخلافة وأنه وصل إليها عن طريق المكر والخداع ، كان يبتعد عن الكلام في الأحداث السياسية، فما رآه في صغره لما حدث في فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه والجمل وصفين ، جعله يبتعد عن أسلوب العنف خوفا من الفتنة وسفك الدماء ، لهذا لم يشارك الحسن البصري في أي ثورة مسلحة ولو كانت باسم الإسلام، فكان يرى أن أسلوب العنف غالبا ما يؤدي إلى الفوضى والاضطراب وساعة القتال يخسر فيها الإنسان إنسانيته فيتحول المظلوم إلى ظالم ويرتكب أبشع الجرائم ، وخاصة أن الأمة الإسلامة كانت في بداية تكوينها ولم تكن في صالحها حدوث أي فوضى او أي إضطراب . فكان رأي الحسن البصري أن الطريق الأفضل لتصحيح أخطاء الأمة هو الصبر وتقوية الإيمان وتنمية حب الخير في نفوس الناس ليساعدهم الله بطريقته الحكيمة في تصحيح الأمور بدون أي أثار سلبية قد تشل نمو وتطور الأمة .

لهذا كان معروف عند الجميع أن الحسن البصري كان في طبيعته كثير الحزن ويكثر البكاء في الصلاة . الحزن على آلام الناس والبكاء في الصلاة كان بالنسبة لحسن البصري من أرقى أنواع التوسل إلى الله لحل المشاكل التي يعاني منها المؤمنين عندما يعجز العقل عن حلها . وهذه الطريقة في سلوك الإنسان هي من تعاليم مدرسة آل البيت كان يتبعها الإمام علي زين العابدين عليه السلام.

الحسن البصري كان رمز نهر الفرات في علماء مدينة بصرة . أما رمز نهر دجلة فكان واصل بن عطاء .

واصل بن عطاء (٨٠ - ١٣١هجري ، ٧٠٠ - ٧٤٨ ميلادي) ، وكونه كان يملك فكرا مناقضا لسياسة السلطة الأموية لهذا لم يحاول أحد أن يذكر شيئا عن أخباره أثناء حياته خوفا على حياتهم من رقابة السلطة الأموية ، فكانت الروايات عن سيرة حياته قليلة ومليئة بالغموض ، ولكن المعروف عن واصل أن بعض العلماء كانو يقولون " إذا أردت أن تعلم كيف كان علم محمد بن علي بن أبي طالب (محمد بن الحنفية)، فانظر إلى أثره في واصل”، علماء السنة ينكرون هذا الإعتقاد ، لأن واصل ولد في نفس عام وفاة محمد بن علي عليهما السلام ، ولكن هذا لا ينفي صحة العبارة ، فالمقصود منها لا يعني أن واصل قد أخذ من علوم محمد بشكل مباشر ولكن عن طريق ابنه عبدالله حفيد علي عليه السلام . فمن خلال البحث في جميع المصادر التي تذكر بعض الأشياء عن واصل بن عطاء ، نستخلص منها أن واصل في طفولته شَّب في كنف عبد الله ابن محمد بن الحنفية ، وعندما توفي عبدالله رحل واصل إلى البصرة ليتابع تلقي علومه هناك وكان عمره ١٧ أو ١٨ عاما .

في البصرة، تعلّم واصل على يد الحسن البصري لخمس سنين، وكما يروى عنه أنه في السنوات الأربع الأولى منها كان لا يتكلم فقط يسمع حتى ظنّه الناس أخرس ، فسألوا الحسن البصري عن ذلك، فقال: “إما أن يكون أجهل الناس، أو أعلم الناس” .

عانى واصل بن عطاء من ثلاث علل : الأولى جذور عبوديته ، والثانية اللثغة في حرف الراء ، والثالثة وهي حرفته فكان يعمل غزّالاً ينسج للناس ، فكانت حرفته لأعدائه بمثابة نقطة ضعف استغلوها ليطعنوا في آرائه ، فكانوا يقولون كيف يتحدّث هؤلاء الحرفيون في علوم الدين والعقل وهم مجرد أصحاب مهن وحرف يدوية! 

هذه العلل الثلاث في واصل لم تكن صدفة ولكن كانت حكمة إلهية لتجعل شخصيته وفكره يتجه بشكل مختلف عن اتجاه فكر الحسن البصري ، علته الأولى وهي جذور عبوديته جعلته يحمل في نفسه صفات الإنسان المناضل الذي يبحث عن التجديد نحو مجتمع أفضل .

علته الثانية اللثغة في حرف الراء التي سببت له نوع من الإنزعاج من نفسه منذ صغره ولكنه بدلا من أن تكون نقطة سلبية في حياته تجعله يصب حنقه على القدر الذي جعله ألثغ، أستغلها بشكل إيجابي وجعلها تفتح له بابا في البحث مختلف عن البحث التقليدي ، بابا جديدا يسمح له في البحث عن المفهوم العقلي بدلا من الإلتزام بالشكل الحرفي ، هذه العلة جعلته يكتسب أسلوب جديد في الكلام يستطيع به أن يعبر عن كل ما يريد قوله بدون استخدام أي كلمة تحوي على حرف الراء .

علته الثالثة وهي عمله في غزل النسيج ، سمحت له أن يكتسب عقلا عمليا يسمح له البحث بعمق في ربط خطوات البحث ببعضها البعض بشكل متجانس .

هذه العلل الثلاث جعلت واصل بن عطاء يعطي للعقل الأولوية في أبحاثه في فهم النص الديني وليس كما يحدث في النقل التقليدي .

في السنة الخامسة من وجوده في مجلس شيخه الحسن البصري اختلف معه حول الحكم على مرتكب الكبيرة، وكان حكم الحسن أنه ليس بكافر، ولكن واصل بن عطاء لم يوافق على هذا بل قال “هو في منزلة بين منزلتين”، أي لا مؤمن ولا كافر، ولكن اذا مات ولم يتب عن كبيرته فهو مخلد في النار ، ولكن عقابه أقل من الكفار. وبسبب هذا الإختلاف أعتزل واصل مجلس الحسن وكون لنفسه حلقة دراسية لنشر علومه ، وأصبح من أشهر علماء فرقة المعتزلة .

فرقة المعتزلة هي أول فرقة نشرت التيار العقلاني في التاريخ الإسلامي، حيث اعتمدت على العقل كأول الأدلة في فهم النص الديني ورفضت التمسك بالنقل التقليدي لمفهوم النص الديني . فكانت هذه الفرقة أول مدرسة اسلامية تدخل في صدام مباشر مع التيار الفكري الذي روج له الخلفاء الأمويين في وعي الأمة الإسلامية . ولهذا بعض علماء مذاهب السنة يعتقدون أن سبب ظهور هذه الفرقة هي آراء القديس يوحنا الدمشقي التي وصلت إلى البصرة وأن واصل بن عطاء استفاد منها في تأسيس القاعدة الرئيسية لفرقة المعتزلة .

لا شك أن واصل بن عطاء سمع عن كتاب (المناظرة) ليوحنا الدمشقي واستفاد منه في توسيع قضايا أبحاثه ، ولكن الحقيقة أن منهج هذا التيار الفكري الذي استخدمه واصل كقاعدة اساسية في أبحاثه كان قد أخذه من مدرسة آل البيت في المدينة المنورة . فمدرسة آل البيت كانت تعتمد النوعين من المناهج ، منهج حسن البصري الذي كانت نتيجته ظهور مذاهب السنة والجماعة ، ومنهج واصل بن عطاء والذي كانت نتيجته ظهور مذاهب الشيعة . إن ظهور النوعين من المناهج بشكل منفصل لم يكن من روح السوء ولكن حكمة إلهية ، لأن الإنسانية في تلك المرحلة لم يكون لا تكوينها الروحي مناسب ولا مستوى العلوم في تلك الفترة كان يسمح لها بدمج النوعين من المناهج في منهج واحد.

للأسف اليوم نجد علماء السنة يهاجمون أراء واصل بن عطاء وعلماء فرقة المعتزلة، أما علماء الشيعة فيهاجمون أراء الحسن البصري . رغم أن كلاهما من مدرسة آل البيت . وسنعرض لكم بعض الروايات الخرافية التي يستخدمها الشيعة في الطعن بشخصية الحسن البصري :

- عن ابن عباس قال: مر أمير المؤمنين عليه السلام بالحسن البصري وهو يتوضأ, فقال: يا حسن أسبغ الوضوء, فقال: يا أمير المؤمنين لقد قتلت بالأمس أناسا يشهدون أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله, يصلون الخمس ويسبغون الوضوء, فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: قد كان ما رأيت فما منعك أن تعين علينا عدونا؟

فقال: والله لأصدقنك يا أمير المؤمنين, لقد خرجت في أول يوم فاغتسلت وتحنطت وصببت علي سلاحي, وأنا لا أشك في أن التخلف عن أم المؤمنين عائشة هو الكفر, فلما انتهيت إلى موضع من الخريبة نادى مناد: يا حسن إلى أين؟ ارجع فإن القاتل والمقتول في النار, فرجعت ذعراً وجلست في بيتي فلما كان اليوم الثاني لم أشك أن التخلف عن أم المؤمنين عائشة هو الكفر, فتحنطت وصببت علي سلاحي وخرجت إلى القتال حتى انتهيت إلى موضع من الخريبة فناداني مناد من خلفي: يا حسن إلى أين؟ مرة بعد أخرى, فإن القاتل والمقتول في النار, قال علي عليه السلام: صدقت أفتدري من ذلك المنادي؟ قال: لا, قال عليه السلام: ذاك أخوك إبليس وصدقك, إن القاتل منهم والمقتول في النار, فقال الحسن البصري: الآن عرفت يا أمير المؤمنين أن القوم هلكى . 

هذه الرواية من بدايتها إلى نهايتها خرافية ومليئة بالتناقض . ولن يقبل بها لا متخصص بعلم النفس ولا متخصص بعلم التربية ولا متخصص بالنقد الروائي ولا متخصص بعلم التاريخ . فهذه الرواية تسيء إلى شخصية سيدنا علي عليه السلام، لأن الحسن البصري في عام معركة الجمل كان فتى بعمر (١٥ -١٦) عام أي أصغر منه ب (٤٣) عام ، فهل من المعقول ان يخاطب خليفة المسلمين بأسلوب فيه جرأة و قلة أدب ويقول له ( لقد قتلت بالأمس أناسا...إلخ) ، هل من معقول ان تكون شخصية علي عليه السلام ضعيفة لتسمح لفتى مراهق أن يكلمه بهذه الجرأة ، فيسمعه ويرد عليه قائلا " قد كان ما رأيت فما منعك أن تعين علينا عدونا؟" وأن يقول له أيضا "ذاك أخوك إبليس وصدقك " . لو كانت هذه هي شخصية واخلاق علي عليه السلام في الجدال مع الناس وخاصة مع الصغار ، لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه ( أنا مدينة العلم وعلي بابها) لأن هذا الشخص الموجود في الرواية فقير في جميع العلوم . إن شخصيات هذه الرواية هي شخصيات خرافية ولا علاقة لهما نهائيا لا بشخصية علي عليه السلام ولا بحسن البصري. 

يوجد رواية أخرى عن مناظرة حصلت بين الحسن البصري والإمام جعفر الصادق عليه السلام، لو تمعنا جيد في أسلوب المجادلة بينهما سنشعر من أسلوب المجادلة وكأن جعفر الصادق عليه السلام وكأنه رجل كبير في السن يتحدث إلى شاب بعمر العشرين ، ولكن الحقيقة أن الحسن البصري كان أكبر من جعفر الصادق ب(٦٠) عام . هل من المعقول أن شابا مثل جعفر الصادق يقبل على نفسه أن يتحدث بأسلوب خال من الإحترام مع رجل عالم عمره فوق الثمانين . هل هذه هي أخلاق جعفر الصادق ؟ ثم كيف سمح محمد الباقر عليه السلام وهو حي أن يترك ابنه الشاب بدلا منه بمناظرة عالم كبير في السن مثل الحسن البصري ، فهذا أيضا يسيء إلى أخلاق الإمام محمد الباقر ، فحسن البصري توفي بعمر ٨٨ عام وكان محمد الباقر عليه السلام بعمر (٥٣) عام .

ذكرنا قبل قليل أن الحسن البصري تربى في بيت النبوة ، فهل من المعقول أن تكون تربية أم المؤمنين أم سلمى لحسن البصري تربية فاسدة ؟ وهل من المعقول أن يُعين الخليفة عمر بن العزيز - الذي يشهد الجميع بصدق إيمانه - الحسن البصري قاضيا على البصرة إذا كان الحسن مسلما منافقا .، هل هذا معقول ؟

جميع روايات الشيعة التي تطعن بشخصية الحسن البصري هي روايات خرافية وهي تسيء إلى أخلاق أئمة اهل البيت أكثر من إساءتها لحسن البصري . ولا أدري لماذا لا يتدخل علماء الشيعة الذين يحملون إختصاصات (تاريخ ، علم نفس ، علم تربوي ...) لتصحيح كتبهم من مثل هذه الأخطاء الفاضحة في تناقض الشخصيات والتناقض في الأحداث والتي تشوه أخلاق أئمة أهل البيت . للأسف مثل هذه الأكاذيب موجودة أيضا في كتب السنة ، ولكن لا أحد يتمعن بها ليكتشف تناقضاتها . فهذه الروايات الخرافية هي السبب الأول في العداوة بين مذاهب السنة ومذاهب الشيعة .

في المقالة القادمة إن شاء الله سنتابع تطور علوم أهل البيت ونبين دورها في تفرع العلوم وتأثيرها على الحضارة الإسلامية.

وسوم: العدد 835