الخاطرة ٣١ : ابن رشد الفيلسوف المظلوم الجزء الأخير

خواطر من الكون المجاور الخاطرة

إذا ذهبنا إلى الإنترنت وتابعنا تلك الفيديوهات التي تتحدث عن شخصية وعلوم ابن رشد التي يشارك فيها أساتذة جامعيين متخصصين بعلوم الفلسفة ، سنشعر بعد رؤية العديد من هذه البرامج الثقافية أنها بدلا من أن توضح لنا حقيقة فكر ابن رشد قد حدث العكس تماما وسنجد أنفسنا قد تهنا أكثر وأنه بدلا من أن نزداد علما في معرفة حقيقة فكر ابن رشد ، ورغم أننا قد إكتسبنا معلومات أكثر عنه قد أصبحنا أكثر جهلا مما كنا نعرفه عنه بسبب كثرة التناقضات بين آراء كل أستاذ وأستاذ آخر في تلك البرامج الثقافية رغم أن الذين شاركوا فيها هم أشخاص يحملون شهادة دكتوراه وهم أساتذة في كليات قسم فلسفة والأغرب من هذا أن بعضهم أساتذة في نفس الكلية .

فعلا نحن نعيش في عصر غريب ، حيث نجد تناقضات كبيرة في آراء المتخصصين بدراسة الشيء نفسه ، فنرى أحد المتخصصين يقول عنه الشيء أن لونه أبيض ومتخصص أخر يقول عنه أن لونه أسود ، ولكن الفرق بين الأبيض والأسود كالفرق بين السماء والأرض ، وهذا تماما ما سيشعر القارئ بعد مشاهدة تلك البرامج عن ابن رشد . هذه التناقضات في فهم حقيقة فكر ابن رشد هي دليل واضح تماما بأن دراسة هؤلاء اساتذة الفلاسفة لفكر ابن رشد كانت دراسة سطحية جدا لهذا لم يستفيدوا منها شيئا ، والسبب ان فكر ابن رشد وضع الإنتماء الإنساني فوق جميع الإنتماءات ، بين هؤلاء الأساتذة من درسوا آراء ابن رشد تحت تأثير إنتمائهم الشخصي ، فالأستاذ الذي إنتمائه الديني مثلا سنجده يتكلم جملة واحدة عن ابن رشد ومباشرة سيرد عليها بعشر جمل عن الغزالي أو عن ابن تيمية ، ليرفع من شأن هؤلاء وليقلل من شأن ابن رشد ، ونجد أستاذ أخر ليقلل من أهمية فكر أبن رشد يتهمه بأنه أعتمد الفكر اليوناني القديم فيقول " ابن رشد أراد أن يعيد الفكر الإسلامي إلى الوراء إلى عصر أفلاطون وأرسطو" ، وأخر يتبع نفس هذا الاسلوب فيحاول تشويه الحضارة اليونانية ليقلل من مكانة ابن رشد كونه أخذ منها بعض علومه ، فيقول " الحضارة اليونانية هي حضارة وثنية لا دين لها ، تبدأ من المادة وتنتهي بالمادة وليس عندهم قبل المادة خالق ولا بعد المادة لا بعث ولا يوم حساب فحصروا قضيتهم بالتعامل مع المادة " . كلمات هذا الأستاذ الجامعي في وصفه لطبيعة الحضارة اليونانية تدل تماما على أن تعصبه الأعمى لدين الإسلام قد جعله لا يرى في الحضارة اليونانية سوى فلاسفتها الماديين ، أما الفلاسفة المثاليين فلم يسمع عنه شيئا . فلو كانت الحضارة اليونانية بلا دين لما وجدت حضارة اسمها الحضارة اليونانية ، لأن الروح هي مصدر الإبداع ومجتمع بلا دين يعني مجتمع بلا روح ، فكيف ظهرت الحضارة اليونانية طالما أنها بلا دين؟

اما الأساتذة الذين لهم ميول علمانية سنجدهم يفعلون العكس ، سنجدهم يحاولون الطعن بالغزالي أو بابن تيمية ليرفعوا من شأن ابن رشد ، فنجد ان كل ما يذكروه عن ابن رشد هو مجرد محاولة للطعن في الدين أو في بعض مذاهبه . ولكن الحقيقة أن فكر ابن رشد مختلف تماما عن فكر الذي يعتقده الطرفان . لهذا حاولت في مقالات سلسلة "ابن رشد الفيلسوف المظلوم " أن أسلك طريق في البحث لم يسبقني به أحد ، هذا الطريق يعتمد على مبدأ الذي يقول ( الإنتماء الإنساني هو أرقى الإنتماءات) وهو نفس المبدأ الذي حاول ابن رشد أن ينشره بين الناس أجمعين . ولهذا بدأت مقالاتي بالنبي يوسف عليه الصلاة والسلام كبداية لولادة الوعي الفلسفي في الإنسانية ، ثم تابعت طريق تطور هذا الوعي في مختلف الشعوب ليأخذ كل شعب حقه في مساهمته في تطوير الوعي الفلسفي ليعلم القراء أن الله قد وزع حكمته على جميع الشعوب وأنه لايحق لأي أمة أن تظن نفسها بأنها هي شعب الله المختار ، وصفحات التاريخ تؤكد على ذلك فكل أمة عندما وصلت إلى مرحلة بدأت تظن نفسها بأنها هي شعب الله المختار انهارت وأصبحت في أسفل السافلين .

المشكلة في دراسة كتب التراث أن جميعها قد تعرضت إلى إضافات وتحريف إما للطعن بكاتب الكتاب أو لرفع مكانته أكثر مما يستحق ، ونفس الشيء قد حدث بكتب ابن رشد فهناك بعض الإختلافات بين النسخ العربية مع اللاتينية والنسخ العربية مع العربية واللاتينية مع اللاتينية . تلك التناقضات التي تحدث في آراء العلماء عن حقيقة فكر ابن رشد سببها أنهم يعتمدون على تلك الإضافات لتجعل من فكر ابن رشد موافقة أو مناقضة لميولهم الشخصي سواء من أجل الطعن به أو مدحه .

لهذا في مقالتي هذه لن أدخل في تفاصيل القضايا التي طرحها ابن رشد كما يفعل أساتذة الفلسفة ، فالكلام عن كل قضية يحتاج إلى ذكر ما قاله ابن سينا وما قاله الفارابي وما قاله الغزالي وما قاله غيرهم ، حيث كل قضية ستحتاج إلى مقالة كاملة خاصة بها ، وعدا عن هذا فهذه القضايا موجودة في الكتب ويمكن قراءتها هناك ولا داعي أن أعيد كتابتها هنا فهذا ليس هدف مقالاتي ، فمقالاتي هدفها ان تأتي بشيء جديد يساعد في فهم الموضوع المدروس وعلاقته بتطور التكوين الروحي للإنسانية ليستطيع القارئ فهم سبب وجوده على سطح الأرض وعلاقته الروحية بكل شيء يحيط به ليأخذ صورة واضحة عن المخطط الإلهي الكوني ليستطيع الإنسان أن يحدد مسيرته في الحياة كي لا يخرج عن هذا المخطط الإلهي أو بما يسمى الصراط المستقيم . لهذا في هذه المقالة في كلامي عن فكر وشخصية ابن رشد سأعتمد - كالعادة - تلك الحقائق الالهية التي وضعها الله كرموز في حياة وشخصية ابن رشد لتشرح لنا هي حقيقته وليس حسب مزاج أي شخص . فهؤلاء الذي يتكلمون عنه بهدف خفي لتحقيق غرض معين وليس بحثا عن الحقيقة فهم عادة يعانون من ضعف البصيرة ، وضعف البصيرة لا يسمح لهم برؤية هذه الحقائق الإلهية، لهذا تبقى هذه الحقائق كأدلة إلهية لا يستطيع أحد التلاعب بها أو إنكارها .

في البداية سأذكر لكم بعض الأحداث الواقعية التي ستساعدنا في أخذ فكرة عن كيفية خروج بعض أنواع المعلومات في الأبحاث العلمية وبنفس الوقت توضح لنا الخطوط العريضة لحقيقة فكر ابن رشد :

هكذا شاءت الأقدار في مرحلة طفولتي أن أجد نفسي تدخل في صراع بين الإنتماءات، فرغم أنني غير عربي ولكن كنت أعيش في دولة عربية ، ورغم أنني مسلم وأعيش في دولة مسلمة ولكني كنت أسكن في منطقة مسيحية ، فكنت في البيت أسمع لغة ، وعندما ألعب مع أصدقائي في الحي أسمع لغة ثانية وعندما أذهب إلى المدرسة كنت أتعلم بلغة ثالثة ، ثلاث لغات كنت أسمعها يوميا ، ولكن رغم اختلاف اللغات واختلاف الديانات كانت الفطرة الإلهية التي وضعها الله في داخلي وداخل أصدقائي أقوى من أن تجعل هذه الإختلافات أن تفرق بيننا ، فكنت مع أطفال الحي نلعب والفرح يغمر قلوبنا جميعا ، ورغم أنني عقليا كنت اعلم بوجود تلك الإختلافات ولكن باطنيا كنت أشعر وكأنني واحد منهم وكان أصدقائي أيضا يشعرون وكأنهم جميعهم مني ، ومن ينظر إلينا ونحن نلعب ونمزح سيعتقد وكأننا أفراد عائلة متحابة واحدة . ولكن شيء فشيء بدأت أرى أن بعض زملائي المسلمين في المدرسة كان يكرهون المسيحين ويعتقدون أنهم كافرين حتى أن بعض زملائي طلبوا مني التوقف عن مصاحبة أصدقائي المسيحيين ، ونفس الشيء رأيته في بعض الأطفال المسيحيين الذي لا ينتمون إلى حينا وكونهم لا يعلمون بأنني مسلم كان يتكلمون بسوء عن المسلمين ويعتقدون أنهم كافرين ، شيء آخر دخل ساحة هذا الصراع ، فوجدت بعض أقربائي يؤنبونني لأنني لا أتكلم لغتنا وأتكلم فقط اللغة العربية . هذه الكراهية وهذا التعصب الديني والقومي الذي رأيته من حولي بدأ يحدث خلل في توازني الروحي الذي كنت أشعر به ، وبدأت أشعر وكأن شيء ما يحاول أن يفرض علي أن أختار واحدا من هذه الإختلافات لأنتمي إليه ، ولكن شيء ما بداخلي كان يجعلني أرفضه بشتى أشكاله ، فأولئك الأطفال مسلمين أو مسيحيين الذين كانوا يشعرون بالكراهية للدين الآخر كنت أرى في ملامح وجوههم شيئا من تعابير الشر وهذا ما جعلني أرفض الإنصياع لرغباتهم . هذه الكراهية المتبادلة في بعض المسلمين والمسيحيين كانت تدفعني لإيجاد حل لها كي لا يستطيع أحد أن يدمر ذلك المناخ الروحي السعيد الذي يعيشه أطفال الحي . فوجدت نفسي في إحدى الإيام وبعد صلاة الفجر أرفع وجهي إلى السماء وأدعو إلى الله أن يكون هو معلمي ليعلمني كيف أنزع تلك الكراهية من قلوب الناس ، وأنشر المحبة بينهم ليشعروا هم أيضا بتلك السعادة التي كنا نشعر بها أطفال الحي .

في ذلك الوقت كانت مدرستي الإبتدائية بعيدة عن الحي في منطقة سكانها مسلمين ، ولكن في بداية الصف السادس الإبتدائي تم إنشاء مدرسة ابتدائية جديدة في منطقتنا فأتى قرار من مديرية تربية بنقلي لهذه المدرسة ، وكون هذه المنطقة مسيحية كان أسمها مسيحي ( الآباء المختارين) وكان طلابها معظمهم مسيحيين ولكن معلميها كان معظمهم مسلمين . عندها شعرت وكأن الله قد استجاب لدعائي فنقلني إلى هذه المدرسة المسيحية لأبتعد عن أولئك المسلمين الذين حاولوا تكريهي المسيحيين ، وشعرت وكأن الله عز وجل يقول لا تستمع لما يقوله أولئك الطلاب المسلمين عن المسيحيين ، وحاول أن تبحث أنت عن حقيقتهم دون أن يحاول أحد خداعك . ذلك العام كان من أجمل سنوات حياتي في المرحلة الدراسية ، فقد عاد ذلك التوازن الروحي في داخلي على أفضل ما يرام وكأن الوضع حولي قد عاد ليلائم تماما تلك الفطرة التي وضعها الله في داخلي والتي تقول جميعنا أبناء آدم وحواء . وشاءت الأقدار أن تكون المدرسة الإعدادية التي أنتقلت إليها بعد إنتهائي من المرحلة الإبتدائية أيضا قريبة من مدرستي الأبتدائية ، وكان أسم هذه المدرسة الجديدة ( اعدادية ابن رشد) ، في البداية كان هذا الأسم بالنسبة لي اسم عادي كغيره من الأسماء ، ولكن عندما شرح لنا أستاذ التاريخ من هو ابن رشد وماذا قدم للإنسانية ، شعرت أن قدومي لهذه الإعدادية بالذات ليس صدفة ولكن هو استمرار لحادثة إنتقالي إلى المدرسة الإبتدائية ، وأن هذه الإعدادية هي تكملة جواب الله عز وجل لذلك السؤال الذي سألته في دعائي ، فشعرت وكأن الله عز وجل يقول لي بما معناه بأنه حتى أحقق هدفي الذي سألته في دعائي ، يجب عليَّ أن أتتبع تعاليم ابن رشد وأن يكون هو معلمي . لمدة ثلاث سنوات وفي كل يوم أذهب إلى المدرسة كنت أرى اسم ( ابن رشد) بخط كبير على اللوحة فوق باب المدرسة ، بحيث أستطاع هذا الأسم أن يحفر في عقلي الباطني مكانا له ليبقى هناك إلى الأبد . ( ملاحظة هامة : معاني هذه الأحداث بالشكل الذي ذكرته لم يحصل في نفس يوم وقوع الحادثة أو في نفس السنة ولكن ظهرت بالأول بصورة باهتة ومع مرور السنوات أخذت شكلها الذي ذكرته).

هذه الأحداث التي ذكرتها لكم تحوي رموز ، ومعاني هذه الرموز هي القاعدة التي توضح بشكل دقيق فكر ابن رشد بخطوطه العريضة والتي لم يستطع فلاسفة العصر الحديث رؤيتها في كتبه . وبناء على شرح هذه الرموز سنوضح للقراء الدور الكبير الذي لعبه ابن رشد في تطوير التكوين الروحي للإنسانية.

أعلم تماما بأن بعض الناس عندما سيقرأون هذه النوع من التفسيرات ، سيقول في نفسه : ما هذه الخرافات وما علاقة هذا بذاك ، ولكن حسب اعتقادي بأن وراء كل شيء مفيد هو الله عز وجل ، وأقصد أن وراء كل معلومة مفيدة ليس عقل الإنسان نفسه ولكن الله عز وجل ، والعقل دوره هو أن يخرجها من شكلها الرمزي إلى شكل جديد يفهمه معظم الناس . فمعظم المعلومات يضعها الله في العقل الباطني للطفل ، والإنسان المبدع هو ذلك الذي يحتفظ بهذه المعلومات وعندما يكبر ويكتسب العلوم عندها يخرجها ويبحث فيها عندما يكبر ليستطيع عرضها على الناس بالشكل الذي يفهمه الناس . لهذا سأعرض عليكم شرح هذه الرموز ومن يريد أن يقتنع بها فليقتنع ومن لا يريد أن يقتنع لا يوجد أي مشكلة فهو حر في قناعاته. ولكن كل الذي أستطيع أن أقوله هنا بأنكم إذا عدتم إلى كتب ابن رشد ستجدون أن مضمون أحداث حياته وأعماله وآرائه توافق تماما ما سأعرضه لكم هنا .

ذكرت لكم أن الإضطراب النفسي الذي عشته في طفولتي كان سببه هو ذلك التعصب الديني والقومي الذي يعاني منه بعض الاطفال . وأنه حتى أستعيد توازني الروحي تم إنتقالي إلى مدرسة ابتدائية كانت العلاقة فيها بين المسلمين والمسيحيين علاقة محبة وتعاون ، وكان أسم هذه المدرسة ( الآباء المختارين) ، ثم إنتقلت بعدها إلى إعدادية ابن رشد ، ابن رشد هو أحد المرشدين الذين أرسلهم الله ليوحد بشكل روحي بين أمتين لينقل نور الحضارة من الأمة الأولى إلى الأمة الثانية ليتابع نور الله دوره في تطوير التكوين الروحي للإنسانية ، ابن رشد هو أحد هؤلاء الآباء المختارين من الله عز وجل ، فهو استخدم الأسلوب المناسب ليقنع مسيحيي أوروبا بتعديل وجهة نظرهم عن المسلمين ليتقبلوا منهم علومهم وفكرهم . ابن رشد فتح أبواب أوروبا لتتدفق من خلالها معظم مؤلفات علماء المسلمين في الطب والفلك والعلوم الطبيعية والرياضيات والفلسفة أيضا . فعبقرية ابن رشد لا تكمن فقط في آرائه ولكن أيضا في نوعية فكره وأسلوبه الذي جعل الأوربيين يتقبلونه ويرحبون به لينقذهم من ظلام العصور الوسطى . فحادثة إنتقالي إلى مدرسة ( الآباء المختارين) كانت بمثابة بلاد الأندلس التي سكانها الأصليين كانوا مسيحيين ، فالذي سيدرس حقيقة المسيحيين كروح يجب أن يعيش معهم ، لا أن يكون بعيدا عنهم ويؤلف عنهم حسب مزاجه ، ابن رشد عاش هذا الواقع فحاول أن يكون هدف حياته تطوير الإنسانية جمعاء ، وليس فقط تطوير ذلك الجزء الذي ينتمي إليه .

في المرحلة الإعدادية التي قضيتها في مدرسة ابن رشد كما ذكرت قبل قليل ، تحولت من طفل إلى مراهق ، وهذا أهم رمز يشرح لنا سبب إختلاف طبيعة آراء ابن رشد عن بقية آراء الفلاسفة المسلمين . المفكرون الأوربيون الذين أخذوا علوم ابن رشد فهموا مضمون علومه ، ولكن للأسف فلاسفة العصر الحديث رأوا فقط معانيها الظاهرية ، والسبب أنهم يعتقدون أن تكوين الإنسان الذي عاش في الحضارة اليونانية هو نفسه في الإنسان الذي عاش في الحضارة الإسلامية وهو نفسه في الإنسان الذي يعيش اليوم ، وهذا أكبر خطأ يقعون به في أبحاثهم في فهم فكر تلك الحضارات لذلك نجد أبحاثهم لم تستفيد منها بشيء ولهذا أيضا أبحاثهم لا تفيد في أي شيء على الإطلاق في إيقاف هذا الإنحطاط الروحي الذي نعيشه اليوم والذي يسير باستمرار من السيء إلى الأسوأ.

قد يتساءل البعض هنا ما علاقة تحولي من طفل إلى مراهق بفكر ابن رشد ، سنحاول توضيح هذه العلاقة :

ابن رشد توفي في نهاية القرن السادس الهجري ، وهي الفترة الزمنية التي خطط الله لها لتكون المدة الزمنية التي ستستغرقها الحضارة الإسلامية ، لتأتي بعدها حضارة جديدة في منطقة أخرى ، وكما ذكرنا في مقالات ماضية أن الحضارة الإسلامية هي أخر مرحلة من مرحلة الطفولة في تاريخ البشرية ، وكما نعلم أن مرحلة الطفولة يكون سلوك الطفل يعتمد على الفطرة التي وضعها الله في عقله الباطني ، لهذا فهو يقع تحت العناية الإلهية ، ولهذا أيضا كان محمد صلى الله عليه وسلم آخر وخاتم الأنبياء والمرسلين . ولكن مع دخول الطفل في مرحلة المراهقة ينشط جهاز التناسل فيحدث تغيير في التكوين الروحي للطفل فتبدأ رغبات وشهوات النفس الخاصة به بالظهور ، فيبدأ سلوك المراهق بالتحول بالتدريج من سلوك مسير بالفطرة (سلوك سليم) إلى سلوك مخير بين الصح والخطأ ، وسرعة هذا التحول يتوقف على ما يحمله معه من تلك الفطرة الإلهية فيه ، فكلما كان مخزون هذه الفطرة كبير كلما كان اختياراته موافقة للصراط المستقيم ، وكلما كان مخزونه قليل كلما كان سلوكه معارض لهذا الصراط . لهذا نجد ابن رشد قد وضع مبدأ ( البرهان والبيان) الأساس الأول لتفسير النصوص الدينية والآراء العلمية . فكما ذكرنا في المقالة الماضية أن علوم مدرسة آل البيت تفرعت بشكل عام إلى أربعة تيارات: الباطنية ، علم الكلام ، الصوفية ، والفلسفة ، وقلنا بأن هذه الأربعة تيارات معا تكون الفلسفة الحقيقية ، فالتيار الصوفي مثلا يعتمد على كشف الحجب والإلهام والأحلام ، وهذا كان يحدث ليس فقط في الإسلام ولكن في جميع الحضارات التي قبلها ، كون الإنسانية كانت في مرحلة الطفولة ، حيث في هذه المرحلة يكون الإتصال بين الطفل والله في أنقى أشكاله ، ولكن مع دخول الطفل في مرحلة المراهقة وبسبب ظهور الكائن السفلي وتدخله في تحديد سلوك الإنسان يصبح طريق الإتصال ليس مع الله فقط ولكن أيضا مع روح السوء العالمية ليحقق رغبات كائنه السفلي. لهذا شدد ابن رشد على مبدأ ( البرهان والبيان) حتى لا يأتي أي شخص يدعي أنه يمتلك مقدرة روحية في علم الغيب أو أنه يستطيع الإتصال بالله وأنه رأى في جلسة كشف الحجب أو في المنام كذا وكذا ، ابن رشد في هذه الحالة يطلب عدم تصديق هؤلاء حتى يأتوا بالبرهان الذي يؤكد صحة ما توصل إليه في جلسة كشف الحجب أو في المنام أو غير ذلك ، فالصوفي مثلا أثناء جلسة كشف الحجب قد يكون إتصاله بدلا من أن يحدث مع روح الخير العالمية قد حدث نتيجة وصوله إلى حالة الهلوسة دون أن يدري . فالهلوسة أيضا تجعله يرى أشياء غريبة وعجيبة .

ابن رشد حاول أن يطبق هذا المبدأ على جميع التيارات الفكرية ليس بدافع تطبيقها على أبحاث علماء المسلمين في تلك الفترة ، فالحضارة الإسلامية كانت تعيش سنواتها الأخيرة ، ولكن ليتم تطبيقها على أبحاث علماء عصر النهضة كون الإنسانية في فترة عصر النهضة كانت قد دخلت فترة مرحلة المراهقة، فتطبيق مبدأ ( البرهان والبيان ) كان هدفه منع كل دجال من استخدام طرق خرافية في خداع الناس ، وبسبب كون دور حضارة عصر النهضة هو التعمق بشكل أكبر في العلوم المادية لتأمين حاجات الإنسانية المادية وفهم العالم المادي بشكل أفضل ، لهذا كانت علوم ابن رشد رغم أنها قد تبدو للوهلة الأولى انها ذات مذهب مادي ولكن في الحقيقة كانت ذات مذهب يحقق نوع من التوازن الروحي المادي بحيث يمنع الفكر المادي من أخذ حريته المطلقة ليفعل ما يشاء .

وبما أن حضارة عصر النهضة ستكون حضارة تهتم بشكل أكبر بتنمية العلوم المادية ، لهذا كان من الأشياء التي يجب أن يهتم بها ابن رشد هو الدفاع عن حقوق المرأة كونها بطبيعتها كائن روحي يختلف عن الرجل كونه بطبيعته كائن مادي ، ودفاعه عن المرأة كان لتستطيع أن تلعب دورها في تحقيق نوع من التوازن بين الرؤية المادية والرؤية الروحية لمنع سيطرة الرؤية المادية على بحوث علماء عصر النهضة.

من أهم ما قدمه ابن رشد للإنسانية هو ( النظرية الرشدية) هذه النظرية التي رفضها جميع علماء الدين في الشعوب الأوربية والاسلامية أيضا ، والتي لم يفهم معناها الحقيقي حتى أساتذة الفلسفة كونهم لم يعلموا أن ابن رشد يمثل رمز وضعه الله كحد فاصل بين نهاية مرحلة الطفولة وبداية مرحلة المراهقة ، هذه النظرية تعتمد مبدأ إزدواجية الروح أي أنه هناك روح فردية وروح عالمية ، ويمكن شرحها بشكل مبسط جدا على الشكل التالي :

طالما أن الإنسانية ستدخل في مرحلة المراهقة ، حيث في هذه المرحلة الجديدة ترمز إلى دخول الأعضاء التناسلية في النشاط لتفرض وجودها على سلوك الإنسان ، فظهورها يعني ظهور روح ثانية في المراهق لم تكن موجودة في مرحلة الطفولة ، وهذه الروح الجديدة ستحدث خلل في الإتصال بين روح الإنسان مع روح الخير العالمية ، فعندما يترك الإنسان نفسه لتنقاد لرغبات الكائن السفلي ، الكائن السفلي سيجعل الإنسان يهتم بنفسه أكثر من إهتمامه بالآخرين ، ويتحول إلى كائن منفصل روحيا عن الآخرين . النظرية الرشدية توضح هذا التغيير في التكوين الروحي وتقول : بأن الروح الفردية أي الروح التي يسيطر عليها الكائن السفلي في الإنسان هي روح غير خالدة لأنها تجعل الإنسان منفصل عن روح الخير العالمية ، أما روح الإنسان العالمية والتي تعني ذلك الجزء من روح الله الذي نفخه في الإنسان ، والتي تمثل روح الكائن العلوي فهذه الروح إذا كانت هي التي تسيطر على سلوك الإنسان ستجعله متصل مع روح الخير العالمية لهذا فهي خالدة ، لأنها تتبع مخطط روح الخير العالمية لتواصل طريقها نحو الكمال ، بمعنى آخر أن كل إنسان يسيطر على سلوكه الشعور ب( الأنا) فتجعله إنسان متعصب لنفسه أو متعصب لعائلته أو لقوميته أو لدينه فهذا يعني أنه يفصل نفسه وعائلته وقومه ودينه عن روح الخير العالمية فعندها سيكون مصيره الفناء لأن سيطرة روح الكائن السفلي قد جعلته يخرج من طبيعته الإنساني التي وضعها الله في الإنسان ، أما روح الكائن العلوي فهي التي تجعل سلوك الإنسان سلوك إنساني موافق للمخطط الإلهي فهذه الروح تتمنى الخير لجميع الناس لأنهم جميعا منذ ولادتهم متصلين بروح الخير العالمية ويسيرون مع مخططها ، ولكن الذي يحصل من تغير في الإنسان أنه بعد سن المراهقة وبسبب نشاط الأعضاء الجنسية قد تُحدث خلل في هذا الإتصال ، فالإنسان الذي يتعاون ويساعد الآخرين بغض النظر عن دينهم أو قوميتهم فهذا سيتابع تطوره نحو الكمال وستصبح روحه خالدة أي أنه سيدخل الجنة .

هذه النظرية يمكن رؤيتها في رموز حياة ابن رشد ، فاسمه المعروف به (ابن رشد) وكلمة رشد تعني أنه تغلب على الإضطرابات النفسية التي تحدث بسبب دخول الجهاز التناسلي في النشاط ، لهذا تستخدم هذه الكلمة للتعبير على مرحلة ما بعد المراهقة ، وهذا تماما كان دور ابن رشد في تطور الإنسانية . أيضا هناك رمز آخر فهو ولد في المغرب العربي ، فولادته هناك كان رمز يعبر عن غروب شمس الإسلام ونهاية حضارته لتبدأ حضارة جديدة . وكذلك الدولة التي ولد فيها هي الدولة الموحدية ، فاسم هذه الدولة هو رمز له معنى التوحيد ، فابن رشد كان مسلما ولكنه عاش في بلاد سكانها مسيحيين، وحسب الكثير من المصادر الأجنبية أن أم ابن رشد كانت يهودية ، ولكن المصادر العربية لا تتكلم عن أمه ، بعضها فقط تلك التي تحاول الطعن به تذكر أن أصله يهودي كون خليفة الدولة في آخر حياته نفاه إلى منطقة يسكنها اليهود ، وحسب رأيي الشخصي أن أم ابن رشد كانت يهودية ، وكونها كانت تحب زوجها كثيرا لذلك أحبت المسلمين أيضا، فحاولت أن تعلم طفلها ابن رشد محبة واحترام جميع الناس بغض النظر عن كونهم مسلمين أو مسيحيين أو يهود ، هذه التربية جعلت ابن رشد منذ صغره طفل عالمي يرى نور روح الكائن العلوي في جميع الناس وليس في المسلمين فقط ، لهذا حاول من خلال نظريته الرشدية أن ينمي روح التوحيد في جميع الناس ، ولهذا نجد أن من أهم نتائج فكر ابن رشد في بداية عصر النهضة هو ظهور التيار الفكري (النهضة الإنسانية humaism) الذي حاول أن يرفع مكانة الإنسان في قلوب الناس عن طريق دراسة جمال تكوينه وجمال مشاعره وأحاسيسه . هذا التيار فيما بعد سيتطور ليظهر على شكل تيارات فكرية تدافع عن حقوق الإنسان بغض النظر عن عرقه أو دينه .

أما بما يتعلق بدور ابن رشد في الفلسفة الإسلامية ، فقد حاول ابن رشد أن يدافع عن الفلاسفة المسلمين ، فهو رأى أن تلك الإختلافات في آرائهم ليست تناقضات ولكن زوايا رؤية مختلفة تحاول أن تشرح حقيقة الكون الروحي الذي نعيشه ، لهذا ألف كتاب ( تهافت التهافت) كرد على على كتاب أبو حامد الغزالي ( تهافت الفلسفة) الذي هاجم فيه الفلاسفة المسلمين ظانا أنهم قد خرجوا معاني النصوص الدينية ، ولكن في الحقيقة أن الغزالي رأى النصوص الدينية من زاوية واحدة تلك التي تظهر في المعنى الظاهري فقط والذي اعتمده المسلمين بشكل عام ، ولكن النصوص الدينية الإسلامية في الحقيقة نصوص غنية بالمعاني فهي تذكر جميع زوايا الرؤية التي تكلمت عنها جميع الحضارات القديمة فهذه الحضارات هي أيضا من الله وعقائدها تعبر عن تطور مفهوم الله. وقد ذكرنا في مقالات ماضية مثال عن إختلاف مفهوم ( الله) من حضارة إلى حضارة أخرى .و الشيء نفسه ينطبق على المواضيع الأخرى ، فمن يتمعن جيدا بما كتبه ابن رشد سنجد أنه وبدون أن يدري قد حاول جمع جميع آراء أولئك الذين ساهموا في إنشاء الحضارات القديمة ، ولهذا نجد أن الخليفة حاكم الدولة الموحدية الذي ساعده في نشر علومه كان أسمه يوسف أبو يعقوب ، فهذا الأسم ليس صدفة ولكنه رمز له معنى أن علوم ابن رشد هي نتيجة تطور علوم الحكمة عبر التاريخ والتي بدأها النبي يوسف بن يعقوب عليهما الصلاة والسلام، ولهذا كانت المقالات الأولى من هذه السلسلة تتحدث عن دور النبي يوسف عليه الصلاة والسلام في ولادة علوم الحكمة التي فيما بعد أخذت المصطلح (فلسفة) .

ما يجب أن نعلمه هو أن فكر ابن رشد لم يكن موجه للعلماء المسلمين في عصره أو بعده ، ولكنه كان موجه إلى المفكرين الأوربيين الذين قاموا بتأسيس عصر النهضة . ولهذا نجم ابن رشد لم يسطع في الأمة الإسلامية ولكن كان سطوعه في الشعوب الأوربية .

في زمن ابن رشد دخل الصليبيين البلاد الإسلامية من الشمال ليسيطروا على مدينة القدس ، بعد وفاة ابن رشد دخل التتار من الشرق وحرقوا مكتبة بغداد ، ثم ظهر المماليك في مصر ، أما العرب والفرس الذين على أيديهم تم تكوين الأمة الإسلامية فأصبحوا من الطبقة السفلى في المجتمع ، لا حول ولا قوة لهم ، يخضعون لأوامر السلطات الأجنبية التي تحكم بلادهم كيفما تشاء دون أن يحق لهم أي إعتراض . إن دخول هذه السلطات الأجنبية لتحكم العرب والفرس كان رمزا له معنى إنتهاء الحضارة الإسلامية ودخول الأمة الإسلامية في عصر الإنحطاط ، والذي لا يزال مستمر حتى الآن . متى سيفهم المسلمون أنهم جزء فقط من مراحل التطور الروحي للإنسانية وليس التطور بأكمله وأن جميع الأمم قد ساهمت في هذا التطور ، ليستطيعوا رؤية العالم من خلال رؤية واقعية بعيدة عن أي نوع من أنواع التعصب تسمح لهم بالنهوض ثانية ليتعاونوا مع الأمم الأخرى في حل المشاكل الروحية التي تعاني منها الإنسانية في عصرنا الحديث والتي وصلت إلى مرحلة يتم فيها تدمير الفطرة الإلهية في الطفل قبل فترة طويلة من دخوله في مرحلة المراهقة والتي أدت إلى ولادة ظاهرة ( الطفل القاتل) التي لم يعرف التاريخ مثلها من قبل ، متى ستحدث هذه النهضة الفكرية في عقول المسلمين الله أعلم ، عسى أن يكون ذلك قريبا إن شاء الله .

وسوم: العدد 842