كيف نكسب ودّ الآخرين؟
ثمة سؤال يتردد في أعماق القلب قبل أن يُطرق اللسان:
كيف نكسب ودّ الآخرين؟
قد لا يكون الجواب جاهزًا على طرف اللسان، لكنه يلحّ علينا في لحظات الصدق مع الذات، حين نجد أنفسنا في زحامٍ من العلاقات المشوّهة، والمجاملات المتكلفة، والمسافات الباردة التي تفصل بين الأرواح رغم قرب الأجساد.
أكتب هذه الكلمات لا من منبر الواعظ، بل من تأمل إنساني صادق.
فما أثقل الشعور بأن العلاقات أصبحت رهينة المنفعة، وأن الأرواح قد فقدت الدفء الذي كانت تمنحه المعاني الجميلة كالتقدير، والرحمة، والصدق.
لقد تعبت الإنسانية، وآن لها أن ترتاح قليلاً... أن تتوقف، أن تراجع قلبها.
فالعلاقات لا تُبنى على المصالح، بل تُزرع في حقول القيم، وتسقى من نهر الرحمة.
"العلاقات التي تُبنى على المصالح تنهار عند أول تقاطع للمصالح." – د. عبد الكريم بكار
من هنا تبدأ الحكاية
كسب محبة الناس... ليس فنًّا اجتماعيًا فقط، بل مطلبٌ روحي.
فالقلب بطبعه يميل إلى من يقدّره، يحترمه، يشعر به، لا من يجامله ثم يدير له ظهره.
ولعل أول خطوة هي: التعارف الصادق.
ذلك التعارف الذي لا يُفتَعل، ولا يُغلف بالمجاملات الجوفاء.
"إذا أردت أن تُحب، فكن صادقًا... فإن القلوب لا تنفتح إلا للصدق." – الطنطاوي
إنها دعوة للبدء... للمبادرة... لكسر الجليد.
لأن المعرفة الصادقة تكسر حواجز النفوس، وتفتح أبواب القلوب.
لا تطرق الباب بعنف
العلاقات لا تُفرض، ولا تُنتزع بالقوة.
بل تنمو في هواء الحرية، وتُزهر في ظلّ الاحترام المتبادل.
يكفي القارئ روعة البيان الموحى من رجل عاش يهذب الأرواح من فيض أنهار الأدب واللغة، يقول الإمام محمد الغزالي رحمه الله:
"القلوب لا تُفتح بالعنف، ولا بالمداهمات النفسية."
ما أرقى الذين يفهمون ذلك، فيحترمون المسافات، ولا يتطفلون على الأرواح قبل أن تأذن بالدخول.
لا تكن قاضيًا على الناس
ثمة مرض خفيّ يفتك بالودّ ويبدده، إنه: حب محاكمة نوايا العباد.
ننبش في دهاليز وخبايا، نُضيّق على الناس، وننسى أن كل نفس لها ما يكفيها.
في ذلك يقول عباس السيسي، صاحب رسائل الذوق، يلخّص تلك المعاني ببساطة:
"الناس لا يحتاجون إلى قضاة يحاكمونهم، بل إلى إخوان يرحمونهم."
وما أجمله من قول.
قلّل من اللوم... أكثر من التشجيع
مرضى القلوب لا همّ لهم سوى درس العتاب الزائد يُتعب، والنقد المتكرر يُنفّر، كالمربي الفاشل الذي لا يجيد إلا اللوم والعصا.
في هذا السياق تأتي كلمات شيخي الغزالي كالبلسم في وضوحها:
"التثريب المتواصل يُطفئ شعلة الود."
لهذا كان الأولى أن نكون مصدر دفء وراحة لغيرنا، لا ريحًا باردة تعصف بالقلوب.
فالواجب يقتضي أن نشجّع، نحتفي بالإيجابي، ونسكت عن السلبي حين لا حاجة له.
كن كما تحب أن يُعاملك الآخرون
حين تطغى السلبية، يصبح اللسان سيفًا يقطع أوصال المودات، يعدد المساوئ ويردم الحسنات، يرسل المذمة، أما وصف بالنقيصة غضب وهاج، لا يقبل رُدّ عليه.
ليته نظر لحاله واستلهم الحكمة العميقة من شيخي الغزالي:
"من لا يحب أن يُساء إليه، يجب أن يتوقف عن إساءة غيره."
الاحترام لا يُنتزع... يُمنح لمن يستحقه.
الغيبة... سمّ العلاقات
لا يُوجد ما يقتل الودّ مثل الغيبة، حتى لو كانت في ثوب "النصيحة".
شيخي الغزالي يحذر:
"غيبة المسلم معول هدم للأخوّة، وإن تغلفت بثوب النصح."
فليكن لسانك طاهرًا... يكن قلبك موصولًا بالناس.
من شيم الكبار: التغافل
تغافل... ليس عن ضعف، بل عن حكمة.
عن فهمٍ عميق لطبيعة البشر.
قالوا:
"التغافل عن الزلات من شيم الكبار."
فمن ذا الذي لا يخطئ؟
استر... تُستر، واغفر... يُغفر لك.
لا تستهِن بابتسامتك
ربّما لا تملك مالًا، ولا منصبًا،
لكن تملك وجهًا طلقًا، وروحًا مضيئة.
وقد قال ﷺ:
"تبسّمك في وجه أخيك صدقة."
ابتسم... لعلّها تكون بداية حكاية صداقة، أو دفقة نور في قلب مهموم ومن يدري ؟! .
كلمات تطرق أبواب القلوب الأستاذ عباس السيسي يهمس:
"ابتسامتك قد تكون الجسر الوحيد الذي يعبر به المهموم إلى شاطئ الأمل."
السلوك الحسن يسبق البيان
الكثير من الناس لا يستمعون لما نقول، بقدر ما يراقبون كيف نتعامل .
فالخلق الجميل رسالة، قد تكون أبلغ من ألف كلمة.
هي حكمة توقظ الحس يقول شبخي الغزالي:
"السلوك الحسن يسبق البيان الجميل، ويمهّد له."
في الختام...
ليست هذه الوصايا مجرد كلمات،
بل محطات تأمل، نعود منها لأنفسنا،
فنُصلحها قبل أن نطلب من العالم أن يتغير.
فليكن ودّ الناس ثمرةً نسقيها كل يوم بحسن الخلق، والاحترام، وصدق النية.
عسى أن نكون من هؤلاء الذين وعدهم الله:
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا}
(سورة مريم، الآية 96)
وسوم: العدد 1128