الحب ورصاصات البندقية

أفنان شمس الدين ريحاوي

الحب ورصاصات البندقية

أفنان شمس الدين ريحاوي

 إلى الحلم البعيد الذي رسمته على كتاب الحياة بريشة الصبر.... إلى الأمل المندثر في تراب الظلم.... إلى الحب المذبوح بسكين القهر.... إلى نبضاتي الطائرة في سماء الألم.... إليك يا من عشت أنتظرك... وسأموت لألقاك.... إليك خطيبتي.... إليك يا عبير الورد......

 قد خطت الأقدار القصص بالعبرات المزروعة على الأرض المنكوبة، وقد تألق الحزن شجرة خريف تساقطت معظم أوراقها على التراب المقهور، وهاهي ورقتي تتآكل بديدان القسوة والاضطهاد لتنضم إلى سرب الأوراق المتطايرة إلى سماء الرحمة، حيث ستنعم هناك بدفء الشمس بعد ظلام السنين الطويلة، لقد غطت الحياة في سبات عميق في سوريا منذ أربعين سنة وهاهي تصحو لتموت من جديد ببندقية متجبرة تطلق النار على كل ألوان الحياة تاركة الأسود وحيدا يفرش أرض الوطن ويدهن بتلات الورد ويلوث ماء البحر ويلوّن هواء السماء، وأصبح الأسود ملك قصتنا ... قتل الحب فدفناه في مقبرة جماعية ضمت أطياف الحب المختلفة فتشابكت أياديها عند الدفن لتشكل لوحة براقة أبكت الصخر القاسي واصمّت الشعوب الحية، ولم ننته من تشكيل اللوحة ففي كل يوم نرسم شيئا إضافيا بلون أقسى وحبر أظلم.... ويأبى القلم الانكسار فالصمود شوّقه إلى هواء الحرية فأضحى يرسم ويرسم ليل نهار دون كلل أو ملل بل بكل حب وشغف إلى اكتمال اللوحة الوهّاجة غامرة هذا الكون أسمى وأقوى أشعة انبثقت من الأقلام الصغيرة جرّاء الدموع والدم ..... واستسلم الحب أخيرا للقلم وضحّى بنفسه كما ضحّى جميع أصدقائه من قبل من أجل تراب هذا الوطن.... علّ قطراته الصادقة تسقي التراب الظمآن وتعيد له نبض الحياة، واستسلمت أنا مع الحب فقد كان قائدي طيلة حياتي.... عشت في أحضانه وترعرعت على دفء أزهاره وحلقت بأجنحته إليك كي أكسّر أسوار الظلم وأحطم قلاع الجور وأقطفك من الجولان المحتلة وأعيد زراعتك في سوريا الحبيبة حيث الموطن الأصلي لك ولكل الورود في الجولان، لكني استسلمت يا حبيبتي فالنهر الجاري الذي كان يغذيني جفّ إثر رياح قاسية هبت لتشربه بعنف، استسلمت مع الحب فرميت النبضات وتركت البسمات وخاصمت ألحان الشعر وقاطعت أنغام الأشواق، ورحل الحب إلى البلدان المجاورة تاركا بلدنا يتألم من أوجاع الفراق .

 ودّعتُ الحب عند الحدود آملا أن يعود يوما ليغمر التراب الحزين والأوراق اليابسة والأزهار الذابلة والطيور المهاجرة وسوريا الباكية، عانقته بشدة لحظة الفراق فتساقطت عبراتي علّه يشفق عليها ويبقى... لكنه رحل لأنه يأبى المكوث على الأرض المحتلة... يأبى السجود للطغاة... يأبى النفاق والكذب والخداع.... يأبى رؤية الدموع في عيون النساء والرجال والشيوخ والأطفال... إلا أنه ترك لي بندقيته وفيها ست رصاصات تتعلق فيها الآمال وتتشبث فيها الأحلام، أبقاها عندي علها تفرح قلوب المظلومين وتشفي غليل المقهورين وترفع الظلم عن الوطن المكبوت وترسم البسمة على ما تبقى من براعم وردية كانوا ضحايا الحرية، ووعدني الحب أن يعود ليلة طرد المحتل وزفّ سوريا إلى توأمها الحرية .

 وها أنا يا حبيبتي أحمل البندقية مقابل بيع قلبي للحب المسافر، فقد غادر الحب بلادنا حاملا قلوب الناس سيعيدها لهم عندما تعود سوريا لنا، لقد حملت البندقية من أجلك قبل عشر سنين... أتذكرين كيف التحقت بالجيش السوري لأجلك...؟! لأجل كسر السور الحائل بين سوريا والجولان... لأجل دخول جولاننا المحتل وتمزيق أعلام العدو ورفع رايات النصر.... لأجل تطهير تراب جولاننا من أقدامهم القذرة لأجل العائلات المشردة والاضطهاد المفرط والاستعباد المذل للكرامة والإنسانية... لأجل الحقوق المسلوبة والأرواح المجروحة... لأجلك أنت يا حبيبتي عبير...كي أقطفك بحناني من جولاننا العطشى وأغرسك برقة الحب في قلبي ووطني الحبيب.

 أتذكرين يا عبير كيف ألبستك خاتم الخطوبة من بين شباك سور الجولان المحتلة وكيف حال هذا السور بين حبنا...؟! كيف حرمني أجمل لحظة كنت سأعيشها...؟! منعني معانقتك بدفئي وضمك إلى صدري... حرمني تقبيل يديك... أبعد كفيّ فلم ألمس شعرك الجميل..... أدمع عينيّ فلم أر عينيك الزرقاء ... حرمنا الاقتراب فبقينا واقفين ممسكين بأطراف أناملنا علّ هذا السور يرحم قلبين مشتاقين للهفة اللقاء، لكن قسوته المعهودة أرغمتنا على الفراق مجددا فأتركك يا قلبي في الجولان تقفين من وراء السور منتظرة عودتي مع باقي الجيش السوري كي أحطم هذا السور الكريه، وأعود أنا إلى سوريا لأضيف عليها قصة جديدة من أحزانها القديمة، ولم أدر يا غاليتي أن وطني محتل كوطنك وشعبي مظلوم كشعبك وأرضي منكوبة كأرضك..... فالحزن واحد والظلم واحد والقهر واحد .

خطيبتي الحبيبة...... عبير الورد.......

كنت مخدوعا يا حبيبتي وأبدعت في تمثيل شخصية الجندي السوري بصدقي... بلهفتي... وكل أمل بقدومنا على الدبابات لنحرر الجولان ونطرد العدو ونرفع علم الاستقلال، ولم أعرف أنني كنت قطعة شطرنج بلهاء تعبد الظلم وتمجد الطغاة وتُخفَى عنها كل الحقائق تحت اسم أمن الوطن، ومرت أيامي وضاع عمري وأنا انتظر الرجوع إليك وإقامة حفلة الزفاف على جولاننا الحر، ولكن حلمي لم يتحقق فقد كشفت الأوراق وظهرت الأسرار وتبيّت الحقائق فحولت بندقيتي إلى العدو الأصلي واستجمعت ما تبقى من قوتي لأنهض ثانية بشعبي المسكين، فهجرني الحب وضاع مني حلمي الجميل بك يا حبيبتي .

 آه يا حبيبتي.... آه يا حلمي البعيد.... اعذريني فقلبي رحل مع الحب ونبضاتي توقفت إثر الظلم وروحي حلقت مع أرواح الشهداء فأضحيت جسدا بلا روح، انتزع الدفء من صدري فلن أستطيع ضمك حتى بعد كسر السور.... سُلب الإحساس من كفيّ فلن أقدر لمس يديك.... سُرق الحنان من جسدي فلن أستطيع احتضانك.... أصبت بغشاوة في عينيّ فلن أكحلها بزرقة عينيك الجميلتين.... هرمت من هموم شعبي فلن أقو على إلقاء الغزل والشعر إليك.... مرضت من أحزان سوريا وآلام أطفالها وأراملها فلن أقدر على مداعبتك وملاطفتك......

ملكتي الأبدية.... فقد ملكتني بحنانك ورقتك وأنوثتك.... عبير الورد....

أي ورد سأقطف لك بعد اليوم فورودنا ماتت في سوريا ولم يبق منها إلا البتلات المرتمية على تراب حمص وحماة وإدلب واللاذقية، ولم يبق في حياتي سوى ست رصاصات في البندقية التي أهداني إياها الحب علها تعيد الحياة إلى حبنا وتزرع الأمل في التقائنا وتجمع قلبين بريئين عاشا الحب الطاهر من بين شباك سور الجولان .

 في رصاصاتي الست سأستجمع بقايا قوتي لأطلقها على من حوّل وطني سوريا إلى أرض جرداء ماتت إثر سياط القهر والظلم والاستعباد.... سأطلقها على من طرد الحب من سوريا وقتل حبي الطويل لخطيبتي عبير وأبكى الأمهات والأطفال وعذب الكبار والصغار وحول قصتنا الباكية قصة سوريا المؤلمة إلى لوحة فنية براقة فريدة من فرط التضحيات، سأرميك يا رصاصاتي على المحتل الأكبر في سوريا والخائن الأصغر في لبنان والأعداء الخونة روسيا وإيران والصين، والرصاصة الأخيرة ستكون من نصيب سور الجولان المحتل كي تعودي يا حبيبتي إلى موطنك الأصلي سوريا وتنشري عبيرك الفواح فيها، وحتى إن رحلت أنا فهناك قلوب ميتة تنتظرك لتعيدي النبض فيها .

 سيعود الحب يا حبيبتي إلى سوريا ليعيد القلوب إلى الناس، وسألقاك يوما من الأيام .... وإن لم يكن على أرضنا الحبيبة ففي السماء البعيدة...... لأنك عروستي الأبدية وملكتي الزمردية ...............