خاطرة

خاطرة

م. أسامة الطنطاوي

[email protected]

قمت الأسبوع الماضي بزيارة أحد المكاتب الهندسية الاستشارية بمدينة ميسيساغا المجاورة لمدينة تورونتو بكندا حيث تتمثل نشاطاته وخدماته التي يقوم بها في مجال إعداد التصاميم والمخططات الهندسية لمنشآت سكنية وتجارية وإدارية متعددة، وصاحب المكتب من المهندسين الكنديين القدامى والمعروفين بالمنطقة وحاصل على العديد من الجوائز التقديرية من البلديات المحلية والمؤسسات التعليمية والخيرية على الأعمال المتميزة التي قام بها منذ تأسيس مكتبه في 1986 م .

وجرى تبادل الأحاديث فيما بيننا حول العديد من المشاريع و المناقصات الهندسية المتنوعة - حيث سبق لي التعامل معه في هذا المجال وبالتالي أصبحنا أصدقاء بحكم المهنة المشتركة بيننا ، وتطرقنا كذلك إلى القوانين والتشريعات التي تنظم حركة التشييد والإنشاء والاشتراطات البنائية التي تصدر و يتم تحديثها بشكل دوري بما يرفع من مستوى الخدمات التي تقدم للمواطنين و خاصة ذوي الاحتياجات الخاصة الذين يحظون برعاية متميزة من الدولة ، وكذلك تطوير و سن الأنظمة التي تعنى بالبيئة وتحث على توفير الطاقة و تخفيض مستويات التلوث البيئي والبصري تماشيا مع التوجهات الدولية بهذا الخصوص .

و تطرق الحديث إلى مايجري حاليا في المنطقة العربية من حراك سياسي و اجتماعي يهدف الى التخلص من أنظمة الحكم الشمولية الفاسدة ، ومقاومة أنظمة الطغيان وخاصة في وطني الغالي سوريا وما يحصل فيه من أحداث دامية تتنافى مع أبسط قواعد الإنسانية ، وهنا أخبرني بأن أحد المستثمرين العرب من القادمين إلى كندا مؤخرا قد وقع عقدا مع مكتبه لإنشاء مبنى سكني على أرض كان قد اشتراها سابقا بغية الاستثمار، وقد قام مكتبه بإعداد التصاميم اللازمة وتم تقديمها إلى البلدية المعنية لأخذ الموافقة عليها حسب الإجراءات المتبعة في مثل هذه الحالات ،

ولكن يبدو أن صاحبنا المستثمر على عجلة من أمره – كما هي عادة العرب - وليس لديه وقت لاستكمال متطلبات الحصول على رخصة البناء حسب المسار القانوني لها ، وعندما طال الأمد عليه انبثقت قريحته عن فكرة جهنمية طالما كان يستخدمها في منطقتنا العربية للقفز فوق القوانين والأنظمة وإنجاز المعاملات بسرعة الصاروخ ، وعندها طلب من المهندس الكندي أن يدله على الشخص الذي يجب أن يدفع له (المعلوم ) وينتهي بذلك من الصداع وتضييع الوقت بدون طائل ، وأكد أنه على استعداد تام للتفاهم مع رئيس البلدية أو غيره ودفع كل مايترتب على ذلك من مبالغ مالية – تحت الطاولة - لأن الوقت من ذهب وهو يطمح الى تحقيق ربح سريع على طريقة رجال الأعمال في بلادنا.

وكانت المفاجأة الكبيرة له إلى حد الصدمة عندما أعلمه بأن رئيسة البلدية هي سيدة عجوز في عقدها التاسع من العمر ويتم انتخابها منذ 1978 م بنسبة 80 % إلى الآن ، وهي معروفة بالولاء لمدينتها و مواطنيها ويعود الفضل إليها في إعمار و تخطيط مدينة ميسيساغا على أحدث المواصفات والمقاييس الدولية ، وهنا أسقط في يد صاحبنا الهمام وقال له : إننا افضل منهم من هذه الناحية وإن المشاريع عندنا تأخذ أقل من نصف الوقت الذي تستغرقه لديكم في كندا .

ولم تفلح محاولات المهندس الكندي في توضيح أن الوقت ضروري لاستكمال دراسة واستيفاء كافة عناصر المشروع من النواحي التخطيطية والبيئية والاجتماعية حتى يكون متلائما مع النسيج الحضري المحيط و أن يضيف قيمة جمالية و اعتبارية للمدينة بشكل عام ، و يخدم المواطنين الساكنين بالمنطقة بشكل خاص ولايوجد أية وسيلة أخرى غير ذلك لكون القانون يطبق على الجميع بلا استثناءات أو محسوبيات.

وعندها توجه إلي بالقول : هل الإنشاءات في بلادكم تسير على ذلك النحو الذي أشار إليه صاحبنا المستثمر ؟

 وهنا أجبته وبكل ثقة وبدون تردد : أعتقد أنك قد توصلت الأن إلى الإجابة عن أحد الأسباب الرئيسية وراء اندلاع الثورات في منطقتنا وأنك الأن تتفهم الثمن الباهظ الذي يدفعه شعبنا لنيل حريته وكرامته السليبة أولا و من ثم إعادة بناء دولة مدنية عصرية ترقى الى مصاف العالم المتحضر مهما كلف ذلك والتخلص من العقلية والمنهجية الفاسدة التي يتصف بها أمثال صاحبنا المستثمر نتيجة عقود من سيطرة الحكام والأنظمة المستبدة وما أحدثته من تأثيرات سلبية أضرت بالشعوب وجعلتها في أدنى مستويات التخلف والجهل.