ثمن الصراحة

ثمن الصراحة

أديب بركات

يحكى أنه كان في غابة يحيا بها أصناف الكائنات , يروْن أنفسهم كل يوم , يختلطون في أشياءهم وأفكارهم ونشاطاتهم اليومية , يشتركون في أوقات المرح كما يشتركون في أوقات الترح , وإذا بهم ذات مرة يجتمعون حول أمر قد أهمهم , حماماتٌ يمارسن العصيان على قرار سيد الغابة وأميرها , وأثناء انتظار حسم الأمر مع تلكم الحمامات إذا بحوار سمته الهزل يغلب على حديث المجتمعين , كانت الأسد حاضرا وبجانبه اللبؤة , وعلى يمينها دبٌ يُعْرَف ببطنه الذي إن وزع ما فيه على أهل الغاب لكفاهم أياما تمتد , مع وجود الغزال وبقية كائنات .

تسامروا وتحاوروا وعالجوا قضية الحمامات , ثم مازحوا بعضهم البعض بحكم الصداقة والثقة المتبادلة , فمازح الغزال اللبؤة مزاح يغشاه الأدب واحترام الذات , وتسامر الدب مع الأسد والبقية , وانتهت حكاية المشهد .

المفاجأة أن غزال الغابة المعروف بحسن خلقه, وجمال طلعته, وروعة تصرفه, واتزان قراره, قد أخبره رفيق طيّب يثق بصدق مقولته وكان موجود وقت "حادثة الحمامات".. أخبره أن الدبّ حَسِبَ ما كان من حديث بين الغزال وبين لبؤة الغابة تمهيدٌ من الغزال لبناء علاقة غرامية مع تلك اللبؤة الطيبة.. وطال الحديث وما قصر في اتهامات وافتراضات من ذلك الدب الذي استبق الأحداث وخاض في النوايا , ووقع في شراك الظنّ السيئ !

تجد في الحياة  مثل ما في تلك الغابة المختلفة الألوان والأجناس والطباع , أناس يحيوْن بيننا , تصدقهم الأقوال وتثق بنواياهم وحسن إدراكهم للأمور , فمنهم السامع الفاهم , ومنهم من يعطي الأمور حجمها لا يزيد على ذلك ولا ينقص , ومنهم من لا يتدخل في ما لا شأن له به فذاك العارف لقدره , وأولئك هم أولوا الفضل , منازلهم الترحاب في قلوبنا قبل الأماكن والألسنة .

أما ذلك الصنف " الدبّيّ " الطبع , فهو بيننا موجود , تلحظه يحشر أنفه فيما لا يعنيه , ليس ذلك فقط , وإنما يبدأ في دور " المفسّر "  لِما ترى عيْنه وتسمع أذنه دون مراعاة لحرمة ذوات الآخرين , فتارة يصف شخصا بأنه لما قام بتلك الفعلة قصد بها إيذاء آخر , وأن تلك الفتاة حين ابتسمت لشاب بسبب تقديمه خدمة لها بأنها تراوده عن نفسها وتريد إلقاء القبض على قلبه ... , وأن ذلك الأستاذ إذ يشير على تلميذته بمشكلتها فإن الأستاذ يقصدها لنفسه ويريد أن يملك عليها أحاسيسها ... , وعلى ذلك قس في مختلف أمور الحياة وفي شتى المواقف والأزمان .

صديقنا " الدبّيّ "  ..

هلّا فسرت لنا كيف أجدت فنون التخمين ؟ وكيف أتقنت ملكات الفهم ؟ وأي درست مهارات إدراك ما وراء الأقوال والأفعال؟!

بالله عليك .. فكّر قليلا , أنا لا أمنعك التفكير بإمعان في معدتكَ التي أتعبتها حدّ الاهتراء , بل أطلب من حضرتكِ أن تسمح لنفسك بالتأمل قليلا فيما تفعل وما تقول , وفي أحكامٍ تأبى سوى الاستمرار في إطلاقها في كل وقت وعلى أي شخص دون إعطاء حرمة لأحد , وباستخفاف قد لا تدرك أبعاده لا في الدنيا ولا في الآخرة .

صديقي" الدب" ..

خذ بحسن الظن دوما , وانظر لجمال الحياة وأنصف الخلائق من لسانكِ , فليسّ أرقى من أن يثق بك الآخرون فيتحدثوا أمامك بكل حب وصدق , أم أنك تأبى إلا أن تجعل لصراحتهم أمامك وعفوية ما ينتج عنهم من أقوال وأفعال ثمنا باهظا ؟!

واعلم جيدا أن في الدنيا " من يتدخل فيما لا يعنيه يلقى مالا يرضيه " , وفي الآخرة .. "كلمة لا يلقي صاحبها لها بالاً , تهوي به في النار سبعين خريفا ! "

فهلّا أرعيتَ صوتَ فطرتكِ السويّ أسماعك ؟ لأن بعدها لا مناص .