الخاطرة 14: أحداث من الكون المجاور 3

خواطر من الكون المجاور..

الخاطرة 14: أحداث من الكون المجاور 3

ز. سانا

منذ إستلامي مهمة زراعة الحديقة في الكلية الحربية لشؤون اﻹدارية راح النقيب المسؤول عن قسم الطلاب الجامعيين يحاول أن يعرف من هو الشخص الذي وراء واسطتي في دخولي هذه الكلية الحربية التي تبعد خطوات قليلة من بيتي وكذلك في إستلامي مهمة زراعة الحديقة بدل حضور الدروس والتدريب كما هو مقرر في برنامج الكلية. ولكن رغم إلحاحه المستمر كنت دوما أتهرب من اﻹجابة على سؤاله مؤكدا له بأني سأخبره عن إسمه في نهاية الدورة. و فعلا مع إنتهاء اﻹمتحانات وقبل خروجي من الكلية لقضاء اجازة التخرج أخبرته بالحقيقة وأنه لم يكن هناك أي واسطة سوى الله عز وجل ، وطبعا لم أشرح له ان كل ما حصل كان عبارة عن تدخل إلهي ليكون بمثابة علامة إلهية تؤكد لي بأني على حق وان عاطفة السلام في عصرنا الحاضر هي من أهم صفات الإيمان وأن اﻹنسان الذي يختار طريق السلام يدخله الله في حمايته ورعايته. فهذه الفكرة من الصعب إثبات صحتها وخاصة لشخص يعمل في مهنة الجيش . لذلك أخبرته فقط بأن ما حصل كان مسألة حظ وأنني إستغليت هذا الحظ وهكذا بدلا أن أضيع وقتي في دراسة أشياء أعرفها فضلت أن أعمل في زراعة الحديقة ، فطالما أني حامل شهادة علوم زراعية فلماذا لاأستخدمها في تجميل ساحة الكلية التي كان شكلها يبدوا وكأنها موجودة في منطقة مهجورة منذ سنوات طويلة. ولكن رغم كل ما ذكرته للنقيب عن حقيقة ما حدث لم يصدقني، وفعلا بدون اﻹيمان بوجود تدخل إلهي ستبقى هذه اﻷحداث من صنع الخيال ولن يصدقها أحد. 

ولكن بعد عودتي من اﻹجازة ﻹستلام ورقة مكان القطعة العسكرية التي تم فرزي لها ﻷتابع الخدمة فيها رأيت النقيب يناديني مدهوشا وكأنه أخيرا قد صدق كلامي في عدم وجود أي واسطة في كل ما فعلته في الكلية ، فكما قال لي بأن المكان الذي تم فرزي إليه هو الفرقة اﻷولى وهي أصعب فرقة في الجيش السوري ﻷن نصف ألويتها في اللبنان ونصفها اﻷخر على الجبهة أمام الخطوط الإسرائيلية وأن كل من يخدم فيها لا يرى المدينة إلا مرة واحدة كل أربعة أشهر على اﻷقل وأن الحياة هناك قاسية جدا ﻷنها في مخيمات وضمن نظام عسكري صارم. وفي اﻷخير رأيته ينظر إلى بنوع من الشفقة ويقول لي ( كل الهناء والراحة التي عشتها هنا ستدفع أضعافها هناك شقاء وعذاب.... الله يكون في عونك)..

في البداية شعرت بنوع من التناقض لما سمعته من النقيب، فحسب تحليلي لما حصل معي في الكلية الحربية لم يكن إلا مكافأة لي من الله عز وجل ﻷنني إخترت طريق السلام في حياتي ووهبت نفسي لدراسته بشكل علمي ضمن نظرة شاملة. ولكن اﻵن حسب ما سمعته من النقيب فقد تحولت الأمور من مكافأة إلى عقوبة، فأن يمضي شخص مثلي يكره اﻷسلحة والنظام العسكري والحروب لمدة عام ونصف تقريبا من حياته في قطعة عسكرية بعيدة عن المناطق المدنية ، فهذه فعلا عقوبة تخالف تماما ما حصل معي من إيجابيات في مادة التدريب العسكري في كلية الزراعة وأيضا ما حصل في الكلية الحربية ، وهذا يعني أنه إذا كان كلام النقيب صحيحا يجب علي أن أعيد تفسير اﻷحداث من الجديد ﻷعرف حقيقة ما يحصل. وطبعا في ذلك اليوم كان هذا الشعور مجرد إحساس ﻷنني لم أفكر بشيء نهائيا والسبب هو أني لم أكن أعلم شيئا عن المكان الجديد الذي سأتابع به خدمتي اﻹلزامية لأتأكد بأنه فعلا كما وصفه النقيب، وكل ما فعلته آنذاك هو أن أسلم أمري لله وأقول في نفسي (عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم ).

وكما كانت العادة عندي في مثل هذه الظروف، لم أخبر أهلي شيئا عن حقيقة مكان خدمتي الجديدة ،فقط أخبرتهم بأنني سأخدم في مكان قريب من دمشق، ففعلا كان مقر قيادة الفرقة اﻷولى بالقرب من دمشق، فأهلي في جميع اﻷحوال لم يكن بإستطاعتهم تعديل قرار عملي هناك، لذلك لم يكن هناك أي داعي في أن أزيد قلقهم علي وخاصة أمي فهي إذا علمت عن قساوة المكان الذي سيخدم فيها إبنها فقلقها سيجعلها ليل نهار تفكر وتتصور ما يعانيه إبنها من العذاب هناك، وهكذا بدلا أن يعيش إبنها هذه الصعوبات لوحده سيجعلها هي أيضا أن تعيشها معه يوميا. لذلك كانت عادتي في مثل هذه الظروف ان أذكر اﻷحداث السعيدة فقط ﻷمي وأهلي ليعيشوا هم أيضا جزءا من هذه السعادة، أما اﻷحداث المؤلمة فطالما أن معرفتهم لها لن يساعد في شيء فكنت أعيشها لوحدي ولا أذكر منها شيئا لأحد إلا بعد إنتهائها تماما حيث ذكرها لهم حينها لن يؤثر عليهم بشيء أبدا ﻷنها إنتهت ولم يعد لها وجود، لذلك كان معروفا عني بالنسبة للأهل واﻵخرين صاحب اﻷخبار السارة. والشيء الغريب في اﻷمر كما كنت ألاحظ بشكل عام كقانون كوني هو أن عدم بوح اﻷخبار الشخصية المزعجة للآخرين حرصا على راحتهم النفسية طالما أنهم بجميع اﻷحوال لا يستطيعون المساعدة بشيء كان يجلب الحظ السعيد ويقلب اﻷمور رأسأ على عقب ويتحول الخبر من خبر محزن إلى خبر سعيد فطالما أن المشكلة قد إنتهت بقدرة إلهية فهذا يعطي الحدث المحزن نوعا من السعادة الروحية ، وبالعكس تماما فكلما كان الشخص يشتكي بإستمرار لجميع معارفه عن مشاكله وظروفه القاسية التي يمر بها فسلوكه هذا سيؤدي إلى زيادة هذه المشاكل قساوة وصعوبة أكثر وكأنه هو نفسه يجلب النحس على نفسه وعلى معارفه أيضا. لذلك من ملاحظتي و إحساسي بوجود هذا القانون الكوني كنت دائما في الظروف القاسية أحاول أن أعيشها لوحدي وأطلب من الله فقط أن يمدني بقوة التحمل ، وكذلك أن يزيدني علما ﻷستطيع تفسير سبب وجود هذه الظروف القاسية في حياتي لأفهم الحكمة اﻹلهية منها وأستفيد منها لكي لا تمر هكذا فقط كنوع من التعذيب لا أكثر ولا أقل. فحسب رأي موضوع العذاب في حياتنا له فلسفة عميقة تحتاج إلى بحث طويل. (في مقالة مقبلة إن شاء الله سنتكلم عن هذا القانون الكوني بشكله الفلسفي).

خبر إنتقال مكان خدمتي العسكرية إلى دمشق كما ذكرته للأهل لم يحزنهم نهائيا بل على العكس كان بالنسبة لهم خبرا سعيد ، ففي دمشق كانت تقيم هناك عمتي التي كانت بالنسبة لنا من أشد الأقرباء محبة، وكذلك كان يقيم هناك ثلاثة من أولاد أعمامي هم أيضا يخدمون العسكرية هناك. فإنتقالي إلى دمشق كان بالنسبة لهم حظ سعيد ﻷنه أفضل بكثير من أماكن أخرى وﻷنني هناك على اﻷقل سأكون مع أعز اﻷقرباء.. 

في اليوم التالي وصلت دمشق وذهبت مباشرة إلى مقر قيادة الفرقة ﻷسأل عن مكان تواجد اللواء الذي تم تعييني فيه. وهناك رأيت بعض الزملاء من الكلية الحربية ومن أول رؤيتي لهم عرفت أن اﻷمور غير سعيدة على اﻷطلاق فعلى وجوههم كانت مرسومة علامات الضيق والكآبة، وقبل أن أسألهم عما يحدث رأيت أحدهم يهز لي برأسه مستاء ويشير بيده وكأنه يعني مكان بعيد ويقول (لبنان)، فلم يكن بوسعي سوى أن أقول مواسيا (عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم ) ولكن يبدو أن هذه العبارة لم تساهم في رفع معنوياتهم بشيء ،فرأيت زميل آخر يهز برأسه لي وكأنه يقول لي (أي خير سيأتي من وجودنا في لبنان) لم أعلم ما أجيبه فحالتي النفسية أيضا لم تكن بوضع يساعد في شيء.وسألني أحدهم عن رقم لوائي فأخبرته ، فنظروا جميعهم إلي مستغربين ﻷن الرقم كان يختلف عن أرقام ألويتهم، ولم يكن أحدا منهم يعلم مكان تواجد لوائي، فخطر على بالي بأنه قد يكون من ألوية الموجودة على الجبهة على الحدود مع فلسطين، فسألت أحد العساكر المتواجدين هناك عله يعلم شيئا عن هذا اللواء ، فأجاب مندهشا بأنه لا يوجد لواء في الفرقة اﻷولى يحمل هذا الرقم ، ولكن في الورقة كان مذكور أنه تابع إلى الفرقة اﻷولى. فسألت شخصا آخر ولكنه إستغرب أيضا وقال أنه لايعلم شيئا عن هذا اللواء. فإستغرب الجميع اﻷمر، فإستأذنت من أصدقائي وذهبت مباشرة إلى إدارة الفرقة للإستعلام عن هذا اللواء المجهول، هل هو في لبنان أم على الجبهة على الحدود مع فلسطين،فكان جوابهم بأن اللواء الذي أنتمي إليه يقع على طريق سويداء، وهذا يعني -حسب ظني- أنه على حدود فلسطين كما كنت أتوقع. فأخذت منهم عنوانه وعنوان محطة الباص الذي يذهب هناك ،ثم أخبرت الزملاء وودعتهم وذهبت إلى المحطة وركبت الباص وسألت السائق فيما إذا كان يعلم مكان وجود اللواء،فأجابني بنعم فطلبت منه أن ينبهني عند الوصول إليه. 

وإنطلق الباص وتركت نفسي أسرح وأنا أتخيل كيف سأمضي أيامي في هذا اللواء القريب من الحدود اﻹسرئيلية، وفجأة رأيت الباص يقف فظننت بأنه سيحمل راكب جديد كما فعل في المرة الماضية التي توقف فيها،ولكن رأيت السائق يطلب مني النزول ويشير بيده اليسار ،نظرت إلى المكان الذي يشير إليه فرأيت من بعيد بعض الخيم وبعض البراكات فظنيت أن السائق قد أخطأ بالعنوان فذكرت له مرة أخرى رقم اللواء ،فأكد لي السائق وأيده معظم الركاب على أن هذا المكان هو نفسه اللواء الذي أبحث عنه.فنزلت من الباص وأنا لا أصدق أن القطعة العسكرية التي سأمضي فيها بقية الخدمة اﻹلزامية تقع على بعد 15دقيقة تقريبا فقط من العاصمة. وهذا يعني بأن دوامي الرسمي في هذه المكان سيكون من الصباح وحتى الظهر فقط . اﻷخبار السارة لم تتوقف هنا ولكن أيضا عندما قابلت رئيس قسم الشؤون اﻹدارية هناك علمت منه أن هذا اللواء حديث النشأة وأن عملي سيكون في فصيلة النقل والتموين وأن الضابط المسؤول عنها قد أنهى خدمته اﻹلزامية وأنني ساستلم بدلا منه ،وطبعا هذا يعني بأنني سأكون الضابط الوحيد في تلك الفصيلة وهذا يعني بكلام آخر بأنني سأكون فيها سيد نفسي وبعيدا عن أوامر أي ضابط آخر أعلى مني بالرتبة فالضابط المسؤول بشكل مباشر عني كان ضابط الشؤون اﻹدارية وعمله منفصل عن عملي ومكان عمله كان يبعد عن مكان عملي على اﻷقل 200 متر. وعدا عن هذا فمن ملامحه وإسلوبه في الكلام بدا لي أنه طيب القلب وحسن الأخلاق فما أن دخلت مكتبه وعلم عن هويتي مباشرة رأيته يطلب من العسكري الذي يقوم بخدمته أن يصنع لي فنجان من القهوة وراح يسألني عن دراستي ومكان إقامتي وأكد لي بأن الخدمة في هذا اللواء ستكون مريحة. 

بعد خروجي من مكتبه وأثناء سيري إلى الفصيلة توقفت شاحنة عسكري بقربي وسألني السائق عن مكان ذهابي فأخبرته فطلب مني أن أصعد ﻷن طريقه هو أيضا إلى هناك. وﻷنني كنت بثياب مدنية وليست عسكرية وﻷن شكلي لم يكن بعمر ضابط ولكن أقرب إلى عمر مجند جديد لم يعلم بأنني ليس فقط برتبة ملازم ولكن قائد الفصيلة التي ينتمي إليها أيضا ولكني أنا أيضا لم أخبره عن نفسي شيئا وتركته يظن بأنني عسكري مجند. فراح يخبرني عن سهولة الوضع هناك، وان الملازم المسؤول عن الفصيلة قد تسرح وأنهم ينتظرون ضابط جديد ودعى من الله أن يكون ضابط طيب يسهل عليهم اﻷوضاع ، وأخبرني أيضا أن المسؤول عنهم اﻵن رقيب إحتياط وأن الوضع بشكل عام مريح وبعيد عن قساوة النظام العسكري كما هو معروف في بقية القطع العسكرية. كلام هذا المجند عن أوضاع الفصيلة كان وكأنه يخبرني بأنني سأمضي أياما مريحة جدا في هذا اللواء بعكس توقعات النقيب في الكلية الحربية تماما.

عندما وصلنا المكان أشار إلى غرفة القيادة فنزلت من الشاحنة وذهبت هناك ولكني لم أجد أحد ورأيت من بعيد السائق يخبر الرقيب عني ويشير إلي، فرأيت الرقيب يطلب مني اﻹنتظار ،فدخلت الغرفة ورحت انتظره. بعد لحظات أتى وخلفه عسكري آخر يتوسل إليه أن يعطيه إجازة مسائية ﻷن لديه مشكلة عائلية وهو بحاجة ضرورية للنزول إلى بيته لحل هذه المشكلة، ولكن رغم إلحاحه الشديد وقسمه بالله بأنه يقول الحقيقة وانه بحاجة ماسة لهذه اﻹجازة المسائية، رفض الرقيب إعطائه إيها مدعيا بأن ذلك ممنوع وأنه لا يستطيع تحمل المسؤولية، فإنصرف حزينا خائب اﻷمل.

عندما دخل الرقيب الغرفة ورأني جالسا ظن أني عسكري مجند جديد كما أخبره السائق. فنظر إلي نظرة عتاب وجلس خلف طاولة المكتب وراح ينصحني بأنه عندما أرى شخص أعلى مني في الرتبة يجب علي أن أقف وأقدم له التحية وإلا سيغضب مني وسيجعله يسيء معاملته لي بشكل دائم وأراد أن يتابع حديثه عن قوانين النظام العسكري ولكني أعطيته ورقة تعييني في هذه الفصيلة وما أن قرأ قرب إسمي كلمة (ملازم )، رأيته يقفز من مقعده خلف الطاولة ويقدم لي التحية وراح يعتذر ﻷن العسكري السائق قد أخبره عني بأنني عسكري مجند، فإبتسمت له قائلا بأنه لا داعي للإعتذار، فسوء الفهم كان بسببي أنا ﻷنني لم أخبره من البداية عن رتبتي، فطلب مني أن أجلس مكانه خلف الطاولة ﻷستلم مهمتي في إدارة الفصيلة ،ولكني طلبت منه أن يتابع عمله كالمعتاد وبأنني من الغد سأستلم الفصيلة بشكل رسمي. فجلس وراح يكتب أسماء اﻷشخاص على أوراق اﻹجازات المسائية ،فتذكرت العسكري الذي توسل قبل قليل ليحصل على إجازة ،فطلبت من الرقيب أن يكتب إجازة إضافية بإسم العسكري ، فقال بأنها مسؤولية فإذا علمت القيادة بنزول عدد أكبر من العدد المسموح فسيحاسبونه هو على مخالفة أوامر القيادة ، لكني طلبت منه أن يكتبها ويترك المسؤولية بأكملها لي ثم أخذت جميع اﻹجازات ووقعتها بإسمي حتى يطمأن. ونهضت وأخبرته بأن يتابع عمله كالمعتاد ﻷني سأغادر القطعة العسكرية ومن الغد صباحا سأستلم العمل بشكل رسمي.

يبدو أنه بعد مغادرتي المكان. علم جميع أفراد الفصيلة عني وكانت فرحتهم كبيرة فالطريقة التي أتيت بها إلى الفصيلة دون أن أعلم شخصيتي لسائق وخروجي منها بشكل لم يعلم به سوى الرقيب المسؤول كان دليلا لهم على أنني ضابط طيب القلب لا يهمه أن يفرض على اﻵخرين النظام العسكري بكامل قساوته. والشيء اﻵخر هو تلك اﻹجازة التي منحتها للعسكري الذي رغم توسلاته الشديدة للرقيب لم يحصل عليها، فهذا التصرف جعلهم متأكدين بأنني أفضل بكثير من الضابط السابق وبأنني سأسعى إلى تحقيق وضع سعيد لهم في هذه الفصيلة وحتى إذا وجب علي أن أخرج عن قوانين النظام العسكري. 

كان معظم عساكر الفصيلة مجندين إحتياط وكثير منهم أكبر سنا مني وبعضهم متزوجون ولهم أولاد، لذلك من أول يوم من وجودي هناك حاولت إيجاد وضع مناسب يرضي جميع أفراد الفصيلة ويبدو أن الظروف أيضا كانت مناسبة لما فكرت به ،فكان عدد العساكر الذين يقيمون في دمشق تسعة أشخاص وعدد اﻹجازات المسائية المسموح به يوميا هو عشرة . لذلك عرضت عليهم هذا الحل وهو أن تكون اﻹجازات المسائية من نصيب هؤلاء الدمشقيون بشكل دائم على شرط أن يقوموا هم بجميع اﻷعمال الصباحية. أما البقية والذين لا تهمهم اﻹجازة المسائية لأن مكان إقامتهم في مدن بعيدة، فهؤلاء لن يفعلوا شيئا أبدا طوال اليوم. فكما علمت فإن تسعة أشخاص كان عدد كافي تقريبا للقيام بجميع المهامات. لذلك عندما جمعت عناصر الفصيلة وأخبرتهم بهذا الحل رأيت أن الجميع كان موافقا عليه و سعيدا به وخاصة العساكر المقيمين في مدينة دمشق ﻷنهم سيستطيعون النزول يوميا إلى أهلهم.

وسارت أمور الفصيلة بهذا الشكل على أسعد ما يرام، وبدلا من أن يكون تعييني في الفرقة اﻷولى لعنة كما وصفها النقيب في كلية الشؤون اﻹدارية، تحولت إلى نعمة حيث أتت اﻷمور بقدرة قادر تماما لتساعدني في حياتي في المستقبل،فرغم اني كنت أخدم في مكان قريب من دمشق ولكن ر اتبي كان يأتي وكأنني أحد ضباط اﻷلوية الموجودة في لبنان أي راتب مضاعف، هذا الراتب الذي كان يعادل تقريبا راتب موظف سمح لي تأمين تكاليف اﻵجار والسكن مع إثنان من أبناء أعمامي. ﻷطلع على الحياة اﻹجتماعية هناك ولتكون حياتي في دمشق وكأنها مرحلة تمهيدية تساعدني في التأقلم بشكل سليم مع نظام الحياة الغربية التي سأعيشها في أثينا بعد إنتهائي من الخدمة العسكرية، فحتى ذلك الوقت كانت نشاطاتي اﻹجتماعية محصورة في عالم الرجال أما النساء فكان وجودهن في حياتي من بعيد فقط. وبما أن القانون اﻹلهي العام يتألف من قسمين ( العفة والسلام ) لذلك كان لابد من التمهيد أيضا للقسم الثاني من هذا القانون وهو ( العفة ) والمقصود بالمعنى الحقيقي لكلمة العفة ليس أن يعيش اﻹنسان في مكان مهجور بعيدا عن الجنس اﻵخر كما يظن معظم الناس، ولكن أن يعيش بقرب أفراد الجنس اﻷخر دون أن يسمح ﻷي غريزة حيوانية بالنشاط لتدنس تلك العلاقة بين الرجل والمرأة. 

قدومي للإقامة في دمشق لم يكن إلا تمهيد لوضع هذه العلاقة (مرأة - رجل ) في أسمى أشكالها وكما يرضي الله عز وجل. فمن يتمعن جيدا في أرائي ونظرياتي يعلم تماما أن القاعدة الفكرية التي اعتمدها في أستنتاج قوانين الطبيعة والكون بأنها جميعها أصلها منطق روحي، وﻷن المرأة هي القسم الروحي للإنسانية وﻷن اﻹدراك الروحي للأشياء واﻷحداث أيضا هو صميم الحضارة الجديدة التي تمهد الظروف لها لتدخلها اﻹنسانية في السنوات القادمة بإذن الله، لذلك كان لا بد لي أن أتعمق في معرفة طبيعة فكر المرأة بشكل يسمح بتوحيده مع فكر الرجل ليأخذ منهجا جديدا في البحث قادر على إيجاد علاقة الإنسجام والترابط بين الشكل والمضمون للأشياء واﻷحداث.

لعدة أسابيع سارت اﻷمور كما هي على أحسن ما يرام، ولكن مع مرور اﻷيام بدأ يتحول اللواء إلى لواء رسمي فزاد عدد عناصر الفصيلة وتم أيضا تعيين ملازم آخر فيها وﻷنه كان ضابط رسمي وليس مجند جامعي مثلي أصبح هو المسؤول عن الفصيلة وبعد فترة أيضا تم تعيين نقيب في الفصيلة وأصبح هو قائد الفصيلة وبدأت اﻷوضاع تأخذ شكل لواء عسكري نظامي تماما، وبدأت التجهيزات للذهاب إلى أماكن بعيدة عن المنطقة السكنية للقيام بتمارين حربية عامة لجميع أقسام اللواء. .....

.........يتبع...،،،