خواطر من الكون المجاور 12

خواطر من الكون المجاور..

الخاطرة 12: أحداث من الكون المجاور

ز.سانا

كان بودي أن أختار أحداث مذكورة في الكتب المقدسة ﻷتحدث عنها وأشرحها ليأخذ القارئ فكرة عن طبيعة الكون المجاور وعن قوانينه التي ينظر إليها العلم على أنها أحداث ميتافيزيقية (ما وراء القوانين الطبيعية ) لذلك يطلق عليها مصطلح معجزة فالمعجزة هي عبارة عن عمل خارق للعادة والمألوف ﻷنها لا تخضع لمقاييسنا المحسوسة، ولكن المشكلة هي أن... احداث الكتب المقدسة من مستوى عالٍ جدا ومعقد وشرحها يحتاج إلى معرفة بديهيات الكون المجاور وقوانينه والتي وللأسف المنهج العلمي الحديث لا يعلم عنها شيئا فبدلا من محاولة علماء العصر الحديث فهم حقيقة هذه اﻷحداث ذهبوا وإعتبروها خرافات وعلى هذا اﻹعتقاد فصلوا الدين عن العلم ﻷن الدين حسب رأيهم يعرقل البحث العلمي، بينما الحقيقة هي أن هذه اﻷحداث تعرض قوانين ساهمت في تطوير الكون واﻹنسانية فكثير من هذه التغييرات التي حدثت في تطور الكون وتطور اﻹنسانية يحتاج إلى قوانين تختلف عن القوانين المادية الفقيرة الموجودة في الكون الواقعي التي يدرسها علماء العصر الحديث. 

لذلك بدلا من ذكر أحداث تعتمد قوانين ميتافيزيقية معقدة، فضلت أن أذكر أحداث بسيطة حصلت معي وشاهدها الكثير من الناس حولي، وهي أحداث رغم بساطتها بالمقارنة مع قصص الكتب المقدسة، ولكن تبقى تحمل في داخلها مبدأ المعجزة ﻷن حدوثها يتطلب قوانين خارجة عن الطبيعة التي يؤمن بها إنسان العصر الحديث، ومن خلال هذه المعجزات الصغيرة جدا التي حدثت في أيامنا تلك نستطيع أن نأخذ فكرة مبدئية واضحة عن طبيعة سلوك اﻷشياء ضمن قوانين الكون المجاور. فمن المحتمل أيضا أن هذه اﻷحداث أن تذكركم بأحداث مشابهة حصلت معكم ولكنكم ربما لم تحاولوا التمعن في تفاصيلها ودراستها لتشعروا بشكل قوي بأنكم في تلك اللحظات كنتم في الكون المجاورمن دون أن تعلموا بذلك! وسأحاول أن أبدأ بأبسط اﻷحداث وشيئا فشيء إن شاءالله سننتقل إلى أحداث أكثر تعقيدا وتعبر تماما عن المعنى الحقيقي لحادثة ميتافيزيقية أو كما سميناها قبل قليل معجزة صغيرة. 

بعد صدور معدلات قبول الجامعات وعندما علمت أني سأتابع دراستي في كلية الزراعة صدر قرار من وزارة الدفاع يعلن أن كل خريجي الجامعات ستكون خدمتهم اﻹلزامية برتبة ضابط. أحد أصدقاء الطفولة والذي كان يعلم عني أشياء كثيرة كان رأيه بأن هذا القرار حدث من أجلي فقط لإثبات أنني محظوظ. فطالما اني سأدخل الجامعة كان يجب أن يحدث معه تغيير شيء معين إلى اﻷفضل لذلك صدر هذا القرار. بالنسبة لي لم أحاول تفسير هذا الخبر كما فسره صديقي، فأنا فعلا لا أؤمن بالصدفة ولكن أيضا لا أفسر اﻷمور بهذه السرعة وبهذه البساطة فدليل واحد فقط لا يكفي للتأكيد على أن هذا القرار حدث فعلا من أجلي كما يقول صديقي أو لسبب آخر ولكن كما سيبدو من سطور هذه المقالة والمقالة القادمة - إن شاءالله - بأن صديقي كان على حق فالخدمة برتبة ضابط يعني وضع نجمة ذهبية على الكتف وما يحدث في مركز النجم هو عبارة عن معركة يتم فيها إتحادات نووية ينتج عنها عناصر أرقى وهذا كان ما يجب أن أفعله تماما أثناء بحثي ودراستي لمفهوم السلام كقانون كوني.

في بداية دوامي في كلية الزراعة حاولت أن أبقى على نفس السلوك كما كنت في الصفوف الثانوية واﻹعدادية، طالب يراقب الجميع ولكن لا يشعر بوجوده أحد، فعادة كان العام الدراسي ينتهي وكثير من أساتذة الصف كانوا لا يعلمون لا أسمي ولا كيف هو صوتي. ﻷنني لم أكن أشارك بشيء لا بالضجة ولا في مناقشة المواضيع الدراسية ،فكنت فقط أسمع وأراقب دون أن أفعل شيء يلفت اﻷنظار بوجودي.

ولكن يبدو أنه مع دخولي المرحلة الجامعية كان يجب أن يحصل إنقلاب جذري في سلوكي ، فمن اليوم اﻷول من الدوام في الجامعة إقترب مني شاب سرياني يدعى عبد النور وتعرف علي وأصبح صديقي ورغم أني كنت أراه ﻷول مرة في حياتي ورغم أني لا أبني علاقة صداقة بسهولة قبل أن أدرس الشخص جيدا ولكن رأيته يفرض علي صداقته ، فكان في أول وصوله إلى الكلية صباحا يبحث عني وبمجرد أن يراني يبقى معي حتى إنتهاء ساعات الدوام فنعود معا و ﻷن بيته أقرب من بيتي كان دوما يلح علي أن أذهب إلى بيته لأعرف مكان إقامته ﻷشرب فنجان قهوة وأتعرف على أهله. وسبحان الله فهذا الشخص بمجرد أن رآني ﻷول مرة وكأن شيئا ما دخل روحه وأخبره بأنه يجب أن يكون صديقي وان يكون بقربي وكأنه ذراعي الأيسر ورغم انه كان له أصدقاء وأقرباء سريان في نفس الصف ولكن كنت بالنسبة له ليس أعز أصدقائه فقط ولكن أخ روحي أيضا وكما يقال ( المحبة من الله) هكذا كنا تماما فخلال أيام قليلة أصبحت صداقتنا وكأنها صداقة عمر طويل، وكأن دور هذا الصديق كان أن يجذب اﻷضواء نحوي ليحدث ذلك اﻹنقلاب الجذري في سلوكي مع الزملاء الطلاب والمدرسين.

صديقي هذا كان يختلف عني كثيرا فكان لسانه سليط لا يمكن لأحد أن يواجهه في المزاح فكان وكأنه معجم قائم بذاته من اﻷقوال المأثورة وبيوت الشعر وخاصة الساخرة منها والنكت المضحكة، وكان كثير الكلام لسانه لا يتوقف، ورغم مزاحه الثقيل مع الآخرين كان محبوبا من الجميع ،ولم يجعل أحد يشعر نحوه بأي حقد أو إنزعاج من مزاحه. هذا الصديق لعب دورا كبيرا في مساعدتي على كشف حقائق روحية لم أكن أدركها بشكل واضح، فكان دوما يقول لي ( صدقني أنت إنسان موهوب روحيا ) وكأنه يريدني أن أعلم أن ما أشعر به من أحاسيس هي حقيقية وليست من صنع الخيال ،وكان أيضا يردد أمام جميع الطلاب عبارة ( اللغة السريانية هي لغة أهل الجنة ) وكان ترديده لهذه العبارة بطريقة غريبة وكان الجميع يظن أنه يمدح بها ﻷنها لغته اﻷصلية ، ولكن من يخوض في أعماق طبيعة وطريقة ترديده لهذه العبارة يعلم أن ترديدها لم يكن بدافع عقلي سببه مدح لغته السريانية ولكن اﻷمر كان أبعد من ذلك بكثير وأن السبب الحقيقي من ترديدها كان أن أسمعها أنا وأن أفهم معناها الروحي ﻷستخدمها في أبحاثي عن السلام التي كانت تشغل فكري بأكمله. فالمقصد الحقيقي لعبارة (اللغة السريانية هي لغة أهل الجنة) لم يكن بمعناها الحرفي ،أي اللغة السريانية نفسها كلغة ولكن رمزها،فمن المعروف أن بلاد الشام والرافدين كانت بلاد مولد اﻷنبياء ومن هذه المنطقة إنقسم شعبها قسمين : القسم اﻷول وهو الشعب اﻵشوري والذي يسكن بلاد العراق والقسم الثاني وهو الشعب السرياني والذي يسكن سوريا. الشعب اﻷشوري إستخدم نشاطه الفكري ومقدراته في تكوين جيش قوي يعرف كيف يستخدم السلاح وفن القتال، وهو يمثل رمز قابيل. بينما الشعب السرياني إستخدم نشاطه الفكري ومقدراته في تطوير العلوم والفنون ليعيش بسلام بين أفراده ومع الشعوب المجاورة وهو يمثل رمز هابيل، والمقصود هنا أن لغة أهل الجنة هي لغة السلام ،لذلك شاعت تلك العبارة (اللغة السريانية هي لغة أهل الجنة ) في تلك المنطقة ،ورغم تحول هذه المنطقة إلى بلاد عربية ولكن هذه العبارة بحكمة إلهية ظلت وراحت ترددها بعض اﻷقليات التي تعيش في هذه المنطقة. فهذه العبارة كنت قد سمعتها عدة مرات من أشخاص غير سريانيين قبل أن أسمعها من صديقي عبد النور.

في اﻷيام اﻷولى من العام الدراسي في الكلية حصل شيء آخر أكثر غرابة من صداقتي بعبد النور ، فأثناء درس مادة التدريب العسكري كنت جالسا مع صديقي هذا في المقاعد الخلفية وكانت تعليقاته على شرح مدرس المادة تثير ضحك كل الزملاء الموجودين حولنا وكان المدرس ينظر بإستمرار نحونا ليعرف سبب الضجة التي تحدث في المقاعد اﻷخيرة. وفي إحدى المرات واثناء بحثه بنظره عن مسبب الضجة رأيت نظراته تتوقف عندي وتثبت هناك وبسبب بعد المسافة لم أفهم إذا كان فعلا ينظر إلي أم إلى شخص آخر بقربي، ولعدة ثوان عم الصمت،بدون أن يفهم أحد ماذا يحدث وظن الجميع أن أعصاب المدرس لم تعد تتحمل الضجة وأنه مصمم على معرفة المشاغب الذي حطم أعصابه طوال ساعة الدرس. شيئا ما جعلني متأكدا من أنه كان ينظر إلي، إلي أنا بالذات، وفكرت أنه ربما ظن أنني أنا ذلك المشاغب الذي يحدث الضجة. بعد ثواني أخفض عينيه ونظر إلى ساعته وتابع إلقاء الدرس لدقائق قليلة وبمجرد إنتهاء الدرس رفع بصره ثانية نحوي وناداني، وطلب مني تقديم الصف ﻹعلان إنتهاء الدرس كما يحدث عادة في دروس التدريب العسكري، ففعلت ذلك ظانا انها ربما نوع من العقوبة العسكرية لشغبي ،ولكن رأيته يقول لطلاب الصف بأنه إختارني ﻷكون عريف الصف بشكل دائم وأنه من اﻵن فصاعدا يجب أن أقوم بتقديم الصف في بداية ونهاية كل درس.

لم أصدق ماسمعته ففي الأسبوع الماضي كان قد إختار طالبا آخر ليقوم بهذه المهمة وكانت صفاته حسب رأيي مناسبة تماما فقد كان ضخم الجسم وصوته جهوري وشكله وعمره يبدو وكأنه أكبر سنا من بقية الطلاب. بينما أنا كنت عكس هذه الصفات فكعمر وكشكل كنت أبدو وكأنني أصغر الطلاب لدرجة أن بعض الطلاب كانوا يخجلون بالمشي بجانبي كي لا يظهر شدة الفرق في السن، وكذلك كان طولي متوسطا بين معدل طول قامة الطلاب، والشيء اﻷهم أن صوتي كان من الطبقة المنخفضة وغير ملائم نهائيا ﻹعطاء اﻹيعازات ليسمعها أكثر من / 220/ طالب تقريبا.

هذه التناقضات بين صفاتي وصفات العريف المناسب لهذه المهمة، جعلتني ألحق بمدرس المادة العسكرية وأستوقفه ﻷشرح له رأيي ليعفيني من هذه المهمة ويختار شخصا آخر مناسب لها ، وعندما سمع رأيي سألني إذا كنت أعلم من هو أعظم قائد جيش في تاريخ البشرية ، فخطر على بالي مباشرة إسم إسكندر المقدوني فذكرته له ، فهز رأسه مؤكدا على صحة ظني وقال لي (صفات إسكندر تتوافق تماما مع صفاتك ) ثم ربت بيده على كتفي ﻷطمئن وهز رأسه مبتسما وذهب. وبقيت أنا في مكاني واقفا لا أصدق هذا الدور المزعج الذي سأقوم به في كل درس من دروس مادة التدريب العسكري، ورأيت صديقي عبد النور الذي كان على مقربة مني يسمع حديثي مع المدرس، يفقع من الضحك وهو يرى شدة إنزعاجي من هذا القرار. فنظرت إليه معاتبا ﻷنه هو كان السبب فيما حصل ، فتعليقاته الساخرة هي التي جعلت مدرس المادة العسكرية يتمعن جيدا في طلاب المقاعد الخلفية فوقعت عينه علي ، ولكنه بطبعه المازح أخبرني بأنه بدلا من أن أنزعج يجب أن اكون سعيدا بهذا المنصب وأنه هو نفسه وكذللك جميع الطلاب يتمنون أن يأخذوا هذا الدور، وفعلا في تلك اللحظة رأيت العريف السابق ينظر إلي بإنزعاج ﻷني أخذت منه هذا المنصب .

مدرس المادة العسكرية كان برتبة ملازم أول إسمه يعقوب أيضا كان مسيحي ، وسبحان الله وهذا الشخص أيضا من أول لحظة يراني فيها وكأن شيئا دخل روحه وفرض عليه أن يجعلني أفهم بأن حياتي بأكملها هي نوع من الحرب ويجب علي أن أخوضها بتفوق لأنني أملك شيئا روحيا لا يملكه اﻷخرون وهذا الشيء يجب أن أنميه ﻷنه من أهم صفات الحضارة الجديدة التي ستدخلها اﻹنسانية في السنوات المقبلة سواء شاؤو علماء العصر أم أبوا.

وهكذا رأيت نفسي سواء شئت أم أبيت أن أكون في محط أنظار الجميع ،وشيئا فشيئا بدأت اﻷمور تأخذ مجرى جعلت جميع الطلاب ينظرون مذهولين لما يحدث، حتى سألني بعضهم مازحا فيما إذا كنت أجيد السحر اﻷسود لتبرير شدة إهتمام الملازم يعقوب برفع مكانتي بين الطلاب، فقد وضع بيدي صلاحيات يمكن لها أن تتحكم في مصير الكثير من الطلاب، فكان يقول لهم قبل نهاية كل عام دراسي بصوت صارم ( هناك عدد من الطلاب إجاباتهم في الفحص سيئة ولا تسمح لهم بالنجاح في المادة لذلك كل شخص يشعر أنه لم يجيب على اسئلة الفحص بشكل جيد، عليه أن يطلب المساعدة من عريف الصف) ويشير بيده نحوي ويتابع ( فقط عريف الصف هو الذي يستطيع مساعدتكم فإذا كان رأي عريف الصف أن الطالب يستحق النجاح سينجح أما إذا كان رأيه أنه لا يستحق فلن ينجح حتى ولو إضطروا إلى طردي من عملي ) ، وكان معروفا عنه عند الطلاب بأنه شخص لا يتراجع عن كلامه في مثل هذه اﻷمور. ورغم عدم أهمية مادة التدريب العسكري علميا بالنسبة لعلوم الزراعة ولكنها كانت مادة مرسبة مثلها مثل بقية المواد ،وهذا ما كان يجعل معظم الطلاب الذين يشكون في نجاحهم في المادة أن يأتوا إلي ويعطوني ورقة مكتوب بها إسمهم لأساعدهم إذا كانت علاماتهم أقل من معدل النجاح، فكنت أذهب إلى مكتب الملازم أول يعقوب مع صديقي وكان يعطيني سجل العلامات ﻷعدل بها كما أريد ،فكنت أقوم بتعديل كل العلامات المنخفضة إلى علامة/ 50 / لينجح الجميع.

وفي المعسكر الصيفي أيضا أعطاني صلاحية تحديد اﻷشخاص الذين يحق لهم اﻹجازة المسائية ،فكان الطلاب مع إنتهاء الدوام يهرعون إلي ويتوسلون ليحصلوا على إذن بالنزول والمبيت في خارج المعسكر. وطبعا أنا وصديقي عبد النور كنا مع المستحقين اﻹجازة المسائية بشكل يومي. وكذلك أيضا في الفحص العملي في المعسكر كنت أجلس مع الملازم أول يعقوب على الطاولة لأشاركه في فحص الطلاب وبعد إنتهاء الأسئلة كان يأخذ رأيي بكل طالب فيما إذا كان يستحق النجاح أم لا. وكان الطلاب من بعيد ينظرون إلي وهم لا يصدقون سبب ذلك اﻹهتمام الغريب بشخصي فالكل كان يعلم أن مدرس المادة العسكرية كان مسيحيا وأنا مسلم، وأيضا كان من النوع ذو الفكر المثالي الذي لا يقبل واسطات حتى يظنوا أن أحدا ما قد توسط لي عنده ليعطيني هذا المنصب الذي له ميزات حسنة كثيرة كالتي ذكرتها.

في المعسكر الصيفي وفي إحدى اﻷيام أخبر قائد المعسكر الملازم أول يعقوب بأن رئيس التدريب العسكري الجامعي بحلب اللواء(...) سيأتي ليرى مستوى تدريب الطلاب على الرمي المدفعي الذي كان من إختصاص المعسكر. وطلب منه تجهيز مجموعة من الطلاب للقيام بتنفيذ عملي في حقل الرمي. حتى تلك اللحظات كانت معلوماتنا عن المدفع والرمي به فقط معلومات نظرية دون أي تجربة عملية في رمي قذائف حقيقية وكانت تلك المرة هي اﻷولى التي سنشارك بها في الرمي بشكل حقيقي. أتى الملازم أول يعقوب وأخبرني عن المهمة وطلب مني أن أختار طلابا يستطيعون مساعدتي في القيام بهذه المهمة، فذهبت وإخترت 5 طلاب وشرحت لهم الوضع ،وإنطلقنا إلى حقل الرمي. وهناك حددت دور كل طالب في المهمة وإخترت لنفسي أصعب دور وهو حساب إحداثيات الهدف ، وكانت بحوزتنا 4 قذائف ويجب علينا تدمير الهدف قبل نفاذ هذه القذائف اﻷربع.

بعد قليل جاء الضباط المسؤولين (لواء وعميد وعقيد) وإستقبلهم الملازم أول يعقوب وجلسوا جميعا على طاولة تبعد عنا مسافة 20 مترا تقريبا ليشاهدوا مهاراتنا في إستخدام المدافع، وبعد دقائق أعطى مدربنا أمرا بتنفيذ المهمة ، فرحت وبإستخدام المنظار حسبت إحداثيات مكان الهدف وكتبتها على ورقة وأعطيتها لزميلي فذهب إلى مكان المدفع وأعطى الورقة للطالب المسؤول عن تجهيز المدفع حسب اﻹحداثيات المطلوبة وبعد ثواني كان كل شيء جاهز لإطلاق القذيفة فأعطيت إشارة (نار) فخرجت القذيفة ورحت أراقب بالمنظار مكان سقوط القذيفة ﻷحدد إحداثيات مكان السقوط ومدى بعده عن الهدف لإستخدامها في تعديل اﻹحداثيات السابقة لنقترب أكثر من الهدف فمع كل قذيفة يجب أن نقترب من الهدف أكثر فأكثر وقبل نفاذ القذائف الأربعة كان علينا أن نكون قد وصلنا إلى الهدف ودمرناه. ولكن القذيفة اﻷولى سقطت بعيدا جدا عن الهدف بشكل دفع الضباط المسؤولون أن يفقعوا من الضحك وسمعت اللواء يمزح مع البقية ويسألهم فيما إذا كان من الضروري أن يغيروا مكان جلوسهم خشية أن تأتي القذيفة الثانية نحوهم بدلا من سقوطها قرب الهدف ، ورأيت مدربنا يعقوب قد إحمر وجهه خجلا أمام الضباط من مستوى طلابه. وفعلا أثر وضعه فيني كثيرا وتذكرت ما قاله لي قبل الوصول إلى حقل الرمي (أتمنى ان تبيض وجهي أمام الضباط المسؤولين).شعوري هذا وأنا أرى مدربنا بهذا الموقف المخجل جعلني أدخل في مجال روحي غريب وكأن خلايا دماغية من نوع غريب غير مألوفة في مخي كانت في ثبات وفجأة بدأت تنشط وتدخل في السيطرة على جميع الخلايا اﻷخرى.

نهضت فورا من مكاني وإتجهت نحو المدفع ﻷرى إذا كانت إحداثيات اﻹطلاق نفسها هي التي أعطيتها أنا، فمن المستحيل أن تكون قياساتي بهذه الدرجة من الخطأ، وكان ظني في محله فيبدو أن زميلي لم يفهم معنى تسلسل اﻷرقام التي كتبتها له فكانت جميعها غير صحيحة ،وهنا خطرت على بالي فكرة هو أن لا أترك مكان سقوط القذيفة اﻷولى تذهب هباء فأخذت الحسابات الموجودة على المدفع وأسرعت إلى مكاني وطلبت من الجميع أن يصمتوا ويتركوني أفكر ﻷن العملية تحتاج إلى تركيز في الحسابات. وفعلا فاﻵن لدي ثلاث قياسات منفصلة عن بعضها ويجب علي أن أدمجها بطريقة معينة للحصول على أدق نتيجة. فرحت وإعتمادا على هذه القياسات أحسب نسبة إحتمال الخطأ في دقة رمي المدفع المستخدم. وبعد ثواني قليلة حسبت اﻹحداثيات المحتملة للهدف ، وحتى لا يحدث ما حدث في المرة اﻷولى ذهبت إلى المدفع بنفسي ووضعت اﻹحداثيات الجديدة بيدي وعدت ثانية إلى مكاني وأعطيت إيعاز (نار) ﻹطلاق القذيفة.

لم يفهم الضباط تلك الحركة التي حصلت بين مجموعتنا ويبدوا أنهم ظنوا اننا قد تشوشنا ولم نعد نعلم ماذا يجب أن نفعل،وهذا ما جعلهم يعتقدون أننا طلاب كلية الزراعة وإهتمامنا بالتدريب العسكري مهما كان سيبقى بمستوى ضعيف مقارنة مع طلاب الكليات العسكرية لذلك تابعوا التمرين بدون أي إهتمام . 

ولكن هذه المرة و بمجرد إنطلاق القذيفة الثانية شعر الجميع أن مسار إتجاهها يختلف كثيرا عن إتجاه القذيفة اﻷولى وفجأة نهض الجميع من مكانهم وكأنهم لا يصدقون ما سيحدث فالقذيفة كانت متجهة تماما نحو الهدف وقبل أن يعلق أحدهم على ما سيحدث شاهدوا القذيفة تسقط في مركز الهدف وتدمره تدميرا كاملا.

لثوان قليلة شعرالجميع بالذهول حتى زملائي قفزوا فرحين يصرخون وكأنهم قد حققوا هدفا في مباراة عالمية لكرة القدم. ورأيت مدربنا يعقوب يتنفس الصعداء وقد إستعاد ثقته بي مرة أخرى. وسمعت اللواء يعلق مندهشا على مارأه ( هل هذا معقول ) وسمعت الملازم أول يعقوب يؤكد له بأن إصابة الهدف لم تكن صدفة وأن طلابه على إستعداد إصابة هدف آخر إن أراد، ولكن اللواء من شدة دهشته أراد أن يبقى بنفس الحالة النفسية التي كان بها فقال له بأنه يصدقه ولا داعي لتكرار العملية ثانية. ثم أتى نحونا وإقترب منا ويبدوا أنه قد تكهن سبب حدوث خطأ القذيفة اﻷولى وبما فعلته من حسابات دقيقة لتصحيح ذلك الخطأ فنظر إلي يتفحص ملامح وجهي ثم إبتسم لي وقال للمدرب يعقوب بأن ما فعلته -إصابة الهدف من الطلقة اﻷولى - يحتاج إلى مهارة عالية لا يملكها أفضل الضباط المختصين بالمدفعية وأخبره مازحا بإنه إذا إستطاع إقناعي في التطوع بالكلية الحربية المدفعية سيأمر له بترقيته مباشرة إلى رتبة نقيب ﻷن دخولي كلية المدفعية ستجعلني أقوم بتدمير اﻷهداف بعدد قليل من القذائف وهذا سيوفر على الجيش تكلفة ثمن القذائف.ثم طلب منه أن يمنحنا إجازة يومية مكافآة لما حققناه، وعندما إبتعد الضباط الكبار عنا نظر الملازم أول يعقوب إلى أصدقائي وقال لهم وهو يشير إلي (هل علمتم اﻵن لماذا إخترت هذا الطالب ليكون عريفا عليكم ؟...ﻷنني كنت متأكدا بأنه هو فقط من سيجعل وجهي أبيض أمام الجميع كما حدث اﻵن). 

الغريب في اﻷمر والذي يستحق البحث والتحليل هنا هو كيف أتت اﻷمور بهذا الشكل لتجعل إنسان مثلي يرفض العنف والحروب بجميع أشكالها، ووهب نفسه في البحث ودراسة عاطفة السلام لتكون أهم عاطفة تسيطر على اﻹنسانية بأكملها، أن يأتي القدر ليجعل من هذا اﻹنسان الطالب اﻷول بمادة التدريب العسكري وبلا منازع في كلية الزراعة وفي جميع السنوات. فعلا كانت علاماتي في هذه المادة منذ دخولي وحتى تخرجي أعلى بكثير من علامات بقية الطلاب فكان الفرق في درجة العلامات بيني وبين الطالب الثاني على اﻷقل / 20/ علامة.

إنتهت سنوات الدراسة الجامعية وتخرجت من الكلية ورحت أحضر نفسي للخدمة العسكرية اﻹلزامية. ويبدو أن ما فعله صديقي عبد النور ليختارني الملازم أول يعقوب عريفا للصف كان له نتيجة ستلعب دورا كبيرا في نمط حياتي أثناء الخدمة اﻹلزامية........ 

يتبع. ......