إليك... أيها الحبيب الراحل

ثناء أبو صالح

تتمطى الذكريات داخلي, فتكاد تصير واقعاً حياً مرة أخرى.. ويشتعل الشوق مجدداً في القلب الموهن المتعب, وتتدافع القطرات المالحة إلى زاوية العين تكويها وتزيد النار ضراماً .

بالأمس كنتَ بيننا, قمة محبة وعطاء شامخة, تعيى الأجساد عن اللحاق بها, وتكل قبل أن تصلها ..

بالأمس كنت بيننا مثال رحمة وعطف, يصعب على أي أحد أن يكون مثلك .

أيا حبيب ..

أتخيل أيامنا الماضية.. لقاؤنا حول مائدة الطعام في الدور الأرضي, تختلط اللقمات مع الكلمات والضحكات, حتى تمتلئ البطون وما زالت القلوب عطشى للمزيد من الفرح والمودة..

افتراشنا أرض الحديقة, أو أرض الشرفة في ليالي الصيف المقمرة, نتأمل البدر ونردد لأجلك ما علمتنا إياه ونحن بعد صغار: ( ياقمر يا دحراجي.. سلم على بابا يجي .. خاتمه بخنصره.. رب السما ينصره ) وتشاركنا الأنشودة, ونتحمس لذكر "البابا" وتعلو أصواتنا أكثر فأكثر, وأنت منا قريب تعلو البشاشة ملامحك الهادئة المطمئنة, وترنو إلينا بنظرات طافحة بالود والمحبة, وكأنما تلاشت من خاطرك مئات الهموم الصغيرة التي تواجه يومياً ًموظفاً حكومياً أباً لعائلة كبيرة, وراتبه على "قده" .

أيا حبيب ..

أبداً ما أحسسنا ونحن تحت جناحيك, أن الهم والأسى يمكن أن ينال من أحدنا يوماً ما .. كنت أرى صدرك رحباً واسعاً كفضاء بلادي.. يتسع لنا جميعاً.. لجميل صنعنا وسيئ أخطائنا, وكانت نظرة العتب المطلة من عينيك حين أخطئ, تكفي لأتمنى لو أنني ما كنت يوماً, ولا أخطأت ذاك الخطأ .

وكان فرحي بصفحك عني, أكبر من فرحي بالعيد الذي يحمل بهجة الجديد مرتين كل عام ..

أذكر كيف كانت سعادتنا بك, برؤيتك هاشاً لنا, فاتحاً ذراعيك على وسائد الأريكة بجانبيك تستقبلنا, ونحن نتنافس ..من يحظى بقربك أولاً, ملاصقاً لك, فتربت على كتفه أو تضمه إليك, أو تداعب خده بأصابعك.. فإذا ما تكاثرنا عليك كل يريد اللصوق بك, هربت منا إلى غرفتك, فتبعناك نتعلق بأيدي البيجاما وأرجلها وحتى بوسطها, وأنت تضحك من قلبك وتتشبث بها خشية أن تنزلق فتكشف ما تحرص على ستره ..

وتتملص منا أخيراً لترقى درجات البيت إلى الطابق العلوي حيث غرفتك, ونحن نزاحمك على الدرج الضيق محاولين اللحاق بك, وضحكاتنا ترن في أرجاء البيت.. حتى إذا انتهيت أخيراً إلى سريرك, ارتمينا جميعاً عليه يحاول كل منا أن يستأثر بقبلة أو ضمة إضافية من جديد .

وأذكر كيف كنت تخصني بقراءة الجريدة لك, بعد عودتك من عملك في سراي الحكومة, وأنت مستلقٍ على سريرك, تصحح لي اللفظ  وتشجعني على المضي.. حتى إذا غفوتَ, انسللتُ برفق من جانبك أحاذر أن توقظك حركتي وأنا أغادر .. ولكم كنتُ أسعد بتلك القراءة – رغم الأخبار السياسية التي لا أفقه منها شيئاً – لأنها تشعرني أني الأثيرة لديك .

أيا حبيب .. أيامنا بأدق تفاصيلها لن تمحى من ذاكرتي يوماً, وكل ما أرجوه أن يبقيها ربي حية في قلبي وعقلي إلى أن ألقاك أخيراً..

رجوت ربي أن يمطر عليك سحائب رحمته ومغفرته, وأن يجزيك عنا خير الجزاء .. اللهم آمين.