خدعة قرن الـ 19

خواطر من الكون المجاور، الخاطرة 28

ز. سانا

يختلف اﻹنسان عن بقية الكائنات الحية فهو يملك قوى روحية تختلف نوعيا عن القوى المادية التي تملكها الحيوانات وذلك ﻷن اﻹنسان يملك في داخله جزء من روح الله ، الإنسان طالما أنه إنسان ويملك هذا الجزء من روح الله فهو يملك هذه القوى ولكن حتى يستطيع إخراجها وإستخدامها يجب أن تكون روحه خالية من شوائب غرائزه الحيوانية ليستطيع أن يصل إلى مستوى من الصفاء الروحي يسمح له بالشعور المباشر بهذه الروح ( روح الله ) التي في داخله . 

إن شعوره بوجود هذه القوى الخارقة في داخله جعلته منذ ظهوره على سطح اﻷرض يشعر بأنه كائن روحي ينتمي إلى نوعية أخرى أرقى من مادية اﻷشياء التي يعيش فيها، هذا اﻹحساس المختلف جعله يسخر بشكل مستمر جميع نشاطاته الفكرية في محاولة إثبات كم هو اﻹنسان كائن مختلف عن الحيوانات، وفي كل مرة عندما كانت اﻷمور تعرقل محاولتة في تنقية روحه كان الله يرسل اﻷنبياء فيصنعوا أمام أعين الناس المعجزات ليعلموا أن هناك قوانين أرقى بكثير من تلك القوانين المادية الفقيرة التي يعتمدون عليها لتحقيق رغبات غرائزهم . وعلى هذا اﻷساس أصبح اﻹنسان يتطور خطوةً خطوة ليحقق صفاء روحه وليكتسب شيئا من تلك القوى تجعله يشعر بأنه فعلا كائن لا يمكن مقارنته بأي مخلوق آخر ﻷنه يملك جزء من روح الله.

في بداية القرن التاسع عشر وبعد إنتهاء عصر النهضة كانت اﻹنسانية تستعد لدخولها في مرحلة جديدة وبنوعية جديدة من مراحل تطورها، تماما كإنتقال الحياة من كائنات تعيش على اليابسة إلى كائنات لها أجنحة تطير في السماء. ورغم أن علماء وفلاسفة عصر النهضة كانوا قد مهدوا الطريق بشكل تدريجي لتدخل اﻹنسانية بهذه المرحلة إلا أن اﻷمور وبسبب روح السوء العالمية سارت بشكل مناقض تماما، حيث بدأت تظهر آراء علمية وفكرية تستند على حجج قوية كان هدفها الحقيقي هو تدمير كل معلومة أو إحساس يساعد على تقوية شعور اﻹنسان بذلك الجزء من روح الله في داخله ، الشيء الذي أدى باﻹنسانية دخولها في أكبر خدعة مرت بها خلال تاريخها الطويل.

لعل أهم هذه الخدع هي تلك التي أطلقها تشارلز داروين من خلال نظريته عن تطور الحياة والتي ظهرت عام 1859 في كتابه (أصول اﻷنواع ) والتي كان مغزاها الحقيقي فكرة ( أصل اﻹنسان قرد )، ورغم أن هذه النظرية لاقت نفورا من قسم كبير من المفكرين في بداية ظهورها ولكن حجج داروين التي قدمها ليدعم نظريته كانت قوية جدا أقوى بكثير من المستوى العلمي لتلك الحقبة لذلك إستطاعت مع مرور الزمن إقناع أغلب العلماء لتصل إلى شكلها الحالي اليوم حيث تدرس في معظم مدارس وجامعات العالم ، إن فكرة (أصل اﻹنسان قرد ) في ذلك الوقت كانت أشبه بالمفتاح السحري الذي فتح آفاق واسعة للعديد من المفكرين ذوي العقول الفاسدة والأرواح التائهة التي كانت تبحث عن طريقة ناجحة يستطيعون بها منع اﻹنسانية من التطور لتعرقل وصولها إلى الكمال الروحي والجسدي.

أول الذين إستفادوا من نظرية داروين كان الفيلسوف المطفف كارل ماركس والذي إستخدم مبادئ نظرية داروين في محاولة إثبات أن الله غير موجود وأن قصص اﻷنبياء المذكورة في الكتب المقدسة ليست إلا مجموعة من الخرافات ، حيث شن هجوما عنيفا ضد اﻷديان وخاصة الديانات السماوية حيث قال عبارته الشهيرة (الدين أفيون الشعوب وزفرة العقول اليابسة ). آراء ماركس ونظرية داروين أثارت عواصف إعصارية في المجتمعات الثقافية في تلك الفترة ، فراح رجال الدين والكثير من المفكرين ينتقدون آرائهما ويحاولون الطعن بها ولكن للأسف وقع جميع هؤلاء في ذلك الفخ الذي نصبه لهم ماركس. فمشكلة ماركس لم تكن في أفكاره ولكن في طريقة رؤيته ، فهو كان يعتمد الرؤية المادية في أبحاثه ، وهذا النوع من الرؤية ترى سطحية اﻷشياء فقط وعاجزة عن رؤية مضمونها، لذلك لم يستطع ماركس اﻹحساس بوجود الله في كل شيء من حوله، وبإستخدام نفس هذه الرؤية الفقيرة راح أولئك المعارضون يحاولون إثبات أخطاء حجج ماركس ليثبتوا أن الله موجود، ولم يعلموا أن الله روح وإثبات وجوده يعتمد على رؤية شاملة ( إدراك روحي وإدراك مادي ) لتتمكن من رؤية الشكل والمضمون معا. وهكذا أغلب الذين قرأوا كل إثباتات الطرفين وجدوا أن آراء ماركس كانت الأقوى، ومنذ ذلك الوقت وحتى اﻵن صارت نسبة الملحدين تزداد يوما بعد يوم ،فأمريكا نفسها والتي كانت من ألد أعداء الماركسية نجد اليوم أن نسبة علمائها الذين يؤمنون بوجود الله لا يتجاوز الـ 20% وعددهم يقل مع مرور الزمن باستمرار.

حتى نفهم بشكل أوضح البعد الحقيقي لذلك اﻹنقلاب الفكري ضد روح الله الذي حدث في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بسبب ظهور نظرية (أصل اﻹنسان قرد) ، من اﻷفضل أن نشرح طبيعة التغيير الجذري الذي حصل في الأوساط الأدبية ، فحتى تلك الفترة كانت الروايات لها طابعها الإنساني ، أحداثها وأسلوب كتابتها كان ينمي في القارئ الشعور بذلك الجزء من روح الله في داخله ، وتنمية هذا الشعور يعني تقوية الشعور باﻵخرين وتقوية الشعور باﻵخرين يعني بدوره ترابط الروح العالمية وترابط الروح العالمية يعني إنتصار العواطف السامية واﻷخلاق الحميدة ، فتلك الروايات اليوم تعتبر من روائع اﻷدب العالمي والتي بفضلها إزدهر فن السينما ليصل إلى مجده ، فاﻷفلام التي إعتمدت على تلك الروايات تسمى اليوم بأفلام الزمن الجميل ، وربما أفضل مثال يمكن أن نذكره هنا ليعبر لنا عن سمو تلك الروايات وليوضح لنا درجة اﻹنحطاط الروحي الذي حدث بفضل آراء ماركس ونظرية أصل اﻹنسان قرد ،هي الرواية الخالدة (جين يير ) للكاتبة تشارلوت برونتي والتي إضطرت في البداية إلى نشر روايتها بإسم رجل مستعار (كورير بيل) حيث من خلال هذه الرواية جعلت جميع نساء العالم يثقن بأنفسهن ويؤمن بأنهن أقوى بكثير مما يظنه عنهن الرجال، وبأنه سيأتي يوم تأخذ فيه المرأة كامل حقوقها لتلعب دورها الحقيقي في تطور المجتمع اﻹنساني ، فرغم أن حياة الكاتبة كانت لوحة من اﻵلام وقساوة القدر عليها، لم تيأس فذهبت وألفت روايتها وجعلت من بطلة روايتها اليتيمة ( جين) تعاني هي أيضا منذ طفولتها من سوء المعاملة والحرمان والقهر وقسوة الناس من حولها ولكن وبرغم ذلك بدلا من أن تجعل القارئ يحقد على الجنس البشري بسبب ما ذاقته من عذاب نجدها بإسلوبها المرهف في وصف مشاعر بطلتها ووصف الطبيعة من حولها تجعل القارئ يشعر بروح الطبيعة وكأنها تتحد مع روح بطلة الرواية فتعطيها قوة الصبر لتتحمل كل ما تعانيه من ظلم وحرمان فيجد القارئ نفسه يتعاطف معها بطريقة ساحرة تجعله يشعر ويرى كم هي المرأة كائن راقي، لو إستطعنا ترجمة رواية (جين يير) إلى ألوان وخطوط ربما نحصل تماما على نفس إحساسات لوحة موناليزا لليوناردو دافنشي ، ففي كلتا البطلتين (جين وموناليزا ) اﻹبتسامة نفسها ، إبتسامة ألم وفي الوقت نفسه تعبر عن روح سامية ، روح مليئة بالمحبة والتسامح والتي من أجل الوصول إلى هذا المستوى العالي من السمو الروحي إحتاجت اﻹنسانية جهد آلاف السنين من النشاطات (الفكرية، الدينية والفلسفية ).

للأسف آراء ماركس ونظرية داروين سمحت لأشخاص منحطين روحيا، مناقضين تماما للكاتبة شارلوت برونتي صاحبة رواية (جين يير ) ولليوناردو دافنشي بالظهور على الساحة اﻷدبية والفنية ، ففي الساحة اﻷدبية أفضل مثال على ذلك هو الكاتب (أميل زولا)، وللأسف من يقرأ اليوم آراء النقاد عن روايات هذا الكاتب قد لا يشعر بشيء غريب عنه ﻷن عقول الكثير من المفكرين اليوم قد مرت بعملية غسيل الدماغ أثناء دراستهم في المدارس والجامعات فجعلتهم لا يفرقون بين القاتل والضحية وبين الحضاري والهمجي. فنجد أحد النقاد العرب يكتب عن أميل زولا قائلا " شجاعة فكرية ونصاعة التعبير فرض زولا نفسه واحدا من حماة الحقيقة والحرية عبر الكتابة" فمثل هذا الكلام والتشبيه كان نابعا من رؤية سطحية فقيرة تماما مثل رؤية ماركس التى لا ترى سوى القشور أما عن المضمون فلا تعلم عنه شيئا. فالحقيقة هي أن أميل زولا هو الذي جعل حرية التعبير ( الديمقراطية ) سلاح في يد كل إنسان منحط روحيا وكل فاسق شاذ أن يكتب ما يشاء دون أي ضمير يردعه أو يحاسبه على ما يكتب فتحول الفن واﻷدب إلى عنف ووحشية ودعارة . فأميل زولا كان قد تأثر بشدة بأراء داروين العلمية فكان يستخدمها لتكون حجة تساعده على كتابة كل ما يشاء فراح يعلل أسلوبه الذي جعله في تلك الفترة من الأدباء الرجعيين أو المثقفين غير الوقورين، بأنه يكتب بأسلوب علمي يصف الواقع اﻹجتماعي بدقة بدون أي تجميل.أنظروا مثلا إلى إحدى حوارات بطلات رواياته ( السكير ) في هذا الحوار نقرأ " إن المنطقة كلها تعيش في حمأة من الجنس، الرجال والنساء واﻷباء واﻷبناء والبنات يعيشون كالحيوانات فيتمرغون في الوحل ، ليس فيهم رجل واحد نظيف أو إمرأة واحدة شريفة ، رائحة الجنس تفوح من كل بيت ، الفقر يكوم الرجال على النساء في إستهتار غريب ، ولو أنك صنعت من هؤلاء الرجال والنساء خليطا ،لحصلت على كمية من الروث تكفي لتغطية شوارع باريس بأكملها". جميع روايات أميل زولا مكتوبة بروح حيوانية تبحث في كل شيء قذر، في كل شي منحط ،. فعناوين أهم رواياته تدل على محتواها. ..الوحش داخل إنسان. ..الوحش البشري. .. السكير. ..غانية باريس... أبطال رواياته ومعظمهم من النساء جميعهن بلا ضمير و شخصيات مضطربة سلوكهن أقسى من الرجال وكأنهن قردة وضع برأسهن ذكاء إنسان فرأين اﻹنسان كم هو أفضل منهن فينفثن سموم حقدهن عليه وعلى مبادئه السامية وعواطفه النبيلة ، غرائزهن الحيوانية تسيطر على كل خطوة من سلوكهن جرائم قتل..إنتقام. .خمر. .زنا. .عنف. .خداع... كذب. ..نفاق..،فسق..عالم مقرف، دراما مظلمة تجعل القارئ يحتقر إنسانيته ليشعر بأن أصله فعلا قرد وأن في أعماقه لا يوجد إلا الفراغ ،ولا أي وجود لروح الله في هذا الفراغ. فليس من الغرابة أن أشهر أقوال أميل زولا كانت " لن تكتمل الحضارة حتى يسقط آخر حجر في آخر كنيسة على رأس آخر قسيس " بمعنى آخر أنه حسب رأيه الطريق إلى السعادة اﻹنسانية مشابه تماما لرأي ماركس لا تتحقق إلا بالقضاء على جميع الديانات أو بمعنى أوضح القضاء على روح الله في كل إنسان.

اليوم نجد أن معظم النقاد يكتبون عن دور أميل زولا في حركة التمرد التي قام بها ضد الوضع السياسي الذي كان يسو د في تلك الفترة في فرنسا وأوروبا بأكملها من ثورات وإحتجاجات وإنتفاضات شعبية ، بهذه الخدعة ( الدفاع عن حقوق الشعب ) إستطاع كل من ماركس وزولا إدخال أفكارهما إلى عقول الكثير من المفكرين الذين لم يفهموا أن أرائهما كان هدفها الحقيقي هو القضاء على روح الله في كل إنسان ليتحول إلى كائن حيواني يشعر فقط بحقوقه هو دون أن يشعر بأي واجبات عليه نحو اﻵخرين.

على الصعيد الفني نجد أن بول سيزان الصديق الحميم ﻷميل زولا قام بدوره على أكمل وجه ليقضي على روح الله من خلال الفن ، فبينما كان فن عصر النهضة الذي كان يمثله إسلوب ليوناردو دافنشي حيث رهافة اﻹحساس وسمو المشاعر ، والذي ينتقل من خلال إنسجام الخطوط واﻷلوان ولعبة الضوء والظل في ملامح وجوه اﻷشخاص أو الطبيعة في اللوحة إلى روح المشاهد لتجعله يشارك في موضوع اللوحة لتتحول هذه المشاعر إلى خليط يبعث في نفس المشاهد الشعور بعظمة الخالق في التكوين الجسدي والروحي للإنسان والطبيعة. هذه المشاعر الدافئة في اﻷعمال الفنية ساعدت على ظهور التيارات الفكرية اﻹنسانية التي راحت تدافع عن حقوق اﻹنسان بغض النظر عن عرقه أو لغته أو دينه ،والتي أعطت عصر النهضة طابعه الحضاري واﻹنساني. ولكن في القرن التاسع عشر نجد بول سيزان تحت تأثير آراء صديقه الحميم أميل زولا وأيضا تحت تأثير ذلك المناخ الروحي الذي صنعه داروين وماركس ، نجده يحاول أن يعطي في لوحاته الوجه القبيح للإنسان والطبيعة ،تماما كما فعل صديقه أميل زولا في رواياته ، ورغم رفض معرض أكاديمية الفنون التشكيلية في باريس لعرض لوحاته بسبب وحشية إسلوبها التعبيري الذي يظهر فيها من خلال سوء مهارته في الرسم وسوء إنسجام اﻷلوان بين بعضها البعض ، ولكنه ومع ذلك بقي مصرا يرسم ويرسم لسنوات طويلة، وعندما وصل تأثير ماركس وأميل زولا إلى مرحلة إستطاعا فيها تغيير ذوق ومشاعر عدد كبير من المفكرين نجد أن لوحات بول سيزان شيئا فشيء بدأت تظهر في المعارض لتأخذ مع الزمن الصدارة. وهكذا تحول بول سيزان الذي كان من مرتبة الفنانين المعروفين بإسم (المنبوذين ) إلى أشهر فناني عصره واليوم يعتبر الأب الروحي للفن الحديث وأعماله تدرس في جميع كليات الفنون الجميلة وفي جميع أنحاء العالم. ولعل أشهرها لوحة ( التفاح ) والتي قال عنها عبارته الشهيرة (بتفاحة سأدهش باريس ) ، وللأسف تفاحة الجنة أخرجت اﻹنسان من الجنة ، أما تفاحة سيزان فمنعت اﻹنسانية من دخول الجنة اﻹنسانية التي مهدت لها حضارات آلاف السنين ، فهذه التفاحة ساهمت بشكل كبير في منع اﻹنسانية دخول عصرها الجديد الذي سيكتسب به اﻹنسان قواه الخفية لتجعله مختلفا كل اﻹختلاف عن بقية الكائنات الحية.

روح اﻷديب الروسي فيودور ديستوفسكي شعرت بذلك الهجوم العنيف الذي بدأ يحدث من جميع الجهات ضد روح الله فذهب وكرس كل ما يملك من معارف فلسفية ودينية ونفسية وبراعة في الصياغة اﻷدبية ليكتب روايته الخالدة " اﻷخوة كارامزوف " لتكون جرس إنذار يدق بأعلى صوته ليستيقظ المثقفون ليروا حقيقة ما يحدث ، حيث ذكر فيها عبارته الفلسفية الشهيرة " إن لم يكن الله موجود فإن كل القيم واﻷخلاقيات تسقط عن نفسها ويصبح كل شيء مباح من أصغر الذنوب إلى أبشع الجرائم ". ورغم أن الكثير من المثقفين فهموا قصده في ذلك الوقت ولكن للأسف بفضل نظرية داروين ذات الحجج القوية دخل المنهج العلمي المادي إلى جميع المدارس فتحول اﻹنسان المعاصر إلى إنسان متقدم جدا في العلوم المادية ولكنه منحط أخلاقيا وأعمى روحيا.

من يبحث اﻵن في نوعية اﻷعمال الفنية واﻷدبية التي تسيطر على كافة نواحي النشاطات الفنية ، سينما ،أغاني ،موسيقى ،روايات. .. نجد أن معظمها مشتقة من نفس أسلوب التعبير الروحي في أعمال أميل زولا وبول سيزان. . ..المجتمعات اﻹنسانية في معظم مناطق العالم مع مرور الزمن بدأت تتحول إلى مجتمعات تسيطر عليها الغرائز الحيوانية حيث لا مكان فيها للمبادئ السامية واﻷخلاق الحميدة. العالم بأكمله يتحول شيء فشيء إلى مجتمعات يحكمها قانون الغاب ( إن لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب ) . جميع الديانات بدأت تخسر دورها لتتحول إلى مجرد أفكار سطحية ضررها أكثر من نفعها.....اﻹيمان بالله أصبح إيمان ببغائي لا معنى له. ... الشعور بروح الله في داخل اﻹنسان أصبح يختفي منذ الطفولة... الجريمة دخلت عالم اﻷطفال ﻷول مرة في تاريخ البشرية. ..اﻹنسان المعاصر أصبح يرى بعين قابيل (عين المجرم ) لكل شيء يجري من حوله. .. صفات اﻷنبياء السامية واﻷخلاق الحميدة عند اﻷطفال أصبحت تعبر عن الضعف والتمسك بها يدعو إلى سخرية الجميع. ....نظرية دارون وصلت كشعور روحي إلى أعماق اﻷطفال. ..المجتمع اﻹنساني يتحول بالتدريج إلى مجتمع قردة. القوى الخفية (الخوارق ) التي تعبر عن وجود روح الله في اﻹنسان تحولت إلى خرافات وظهرت بدلا منها قوي مادية خارقة (القنابل الذرية واﻷسلحة الفتاكة ) التي بإمكانها أن تسبب فقط الكوارث والدمار..... نظرية داروين أصبحت أهم من الكتب المقدسة بالنسبة للعلماء ،حتى كنيسة الفاتيكان إستسلمت لها فإضطرت إلى اﻹعتراف بصحتها. ..معظم علماء الدين اﻹسلامي فعلوا الشيء نفسه ، معظم الديانات إعترفت بصحتها خوفا من إبتعاد المؤمنين عن دينهم. ولم يفكر أحد من رجال الدين هؤلاء أن اﻹعتراف بأن أصل اﻹنسان قرد يلغي مباشرة وجود روح الله في داخل اﻹنسان ، وعدم وجود هذا الجزء من روح الله يعني أن المعجزات وقصص اﻷنبياء جميعها ليست إلا خرافات.

ولكن الله موجود ويعطي لكل داء دواء ولكل مشكلة حل لها ، ففي تلك الفترة التي ظهرت فيها آراء هؤلاء المطففين اﻷربعة (داروين، ماركس، زولا ، سيزان ) كان علم الفيزياء قد وصل إلى طريق مسدود، فكان اﻹعتقاد عند الجميع بأن علماء الفيزياء قد إكتشفوا كل شيء عن الفيزياء ولم يعد هناك سوى بعض التفاصيل الهامشية ليكتمل هذا العلم. في تلك الفترة بالذات ظهر شاب ألماني إسمه ( ماركس بلانك) من عائلة راقية علميا وأخلاقيا وكأن هذه العائلة كانت قد جمعت فيها كل النتائج الحسنة لعصر النهضة ، ربما هذا المستوى الروحي الراقي الذي عاش به هذا الشاب هو الذي جعله يغير إسمه من (ماركس ) الذي كان إسم الفيلسوف المزيف إلى (ماكس ) ليكون هذا التغيير دليلا روحي يعبر به عن دوره في دحض آراء هذا المزيف وشلته اﻷخرى. فبعد تخرجه من الثانوية العامة أخبر والده بأنه يريد متابعة تعليمه في دراسة الفيزياء ، فأرسله والده إلى صديقه الذي كان بروفسورا في علوم الفيزياء ليأخذ منه فكرة عن هذا المجال من العلوم ، فأخبره البروفسور بأن علم الفيزياء لم يعد به شيء يدعو للإهتمام، وأن الدراسة في هذا المجال ستجعل منه مدرس فيزياء بسيط لا أكثر ولا أقل لذلك نصحه بأن يختار علم آخر يسمح له في نيل الشهرة والمجد ، ولكن كون هذا الشاب من عائلة راقية أخلاقيا لم يكن يهمه المال والمجد والشهرة ولكن أن يعمل في المجال الذي يحبه ويشعر بأنه سيستطيع تقديم الفائدة للآخرين من خلاله ، فإعتذر من البروفسور بلطف وأخبره عن شدة رغبته في متابعة تعليمه في علم الفيزياء.

الله عز وجل إختار هذا الشاب (ماكس بلانك ) ليحطم ذلك الحاجز أمام أعين علماء الفيزياء ليكشف لهم عن فيزياء جديدة أغرب من الخيال، وليثبت لهم ( وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) ، ففي عام 1900 بالضبط وأثناء تجاربه على الضوء إكتشف هذا العالم أن الطاقة لا تصدر بسريان مستمر ولكن بشكل وحدات كمية. أي مثل الصوت الذي يصدر من العود أو البيانو نقرة نقرة وليس بشكل مستمر كصوت المزمار أو الكمان. لذلك سميت هذه الفيزياء الجديدة بالفيزياء الكمية ( نسبة للوحدات الكمية ) أو بميكانيكا الكم (الكوانتم).

قد يتساءل القارئ اﻵن ما علاقة الفيزياء بنظرية داروين وما علاقتها بمقالة الأسبوع الماضي (التخاطر ) وما علاقتها بالقوى الخفية عند اﻹنسان أو بالباراسيكولوجيا أو الميتافيزيقيا ؟ ......هناك علاقة كبيرة وبدون فهم مبادئ علم ميكانيكا الكم ، ستبقى الروح شيء غير موجود بالنسبة لكثير من العلماء وخاصة علماء العلوم المادية. فهذا العلم كان يجب أن يكون مفتاحا يفتح باب عصر روحي جديد أمام اﻹنسانية يكون بمثابة القسم الثاني ( الروحي ) لعصر النهضة ، أي عصر نهضة الروح. ولكن للأسف بسبب إنتشار آراء المطففين اﻷربعة ( داروين،ماركس ،زولا ،سيزان ) الذين حولوا المنهج العلمي إلى منهج مادي فقير عاجز عن رؤية مضمون اﻷشياء ، لذلك لم يفهم أحد سبب الظهور الفجائي لهذا العلم الجديد ( لواحة للبشر...عليها تسعة عشر..) هذه اﻵيات تقصد ما حصل في القرن التاسع عشر ، فما حصل في هذا القرن لم يحصل في تاريخ البشرية بأكمله، حيث أدى إلى دخول اﻹنسانية بعمى روحي ومثل هذا العمى الروحي الذي يعيشه علماء العصر اﻵن لم يحصل مثله في تاريخ اﻹنسانية. ورغم أن الكثير من المفكرين حاولوا إستخدام معلومات علم ميكانيكا الكم في مجالات روحية ،ولكن بقيت فوائد هذا العلم محصورة في المجالات المادية فقط، فمعظم اﻹختراعات الجديدة اليوم تعتمد على علم ميكانيكا الكم ،كالحاسوب والهواتف الخلوية والليزر . ....إلخ.

في المقالة القادمة إن شاء الله سنتكلم عن هذا العلم كنظرة فلسفية مختلفة نهائيا عن نظرة المختصين بالفيزياء ، ليأخذ القارئ بطريقة سهلة ومبسطة معلومات مهمة عن مواضيع هذا العلم الذي يعتبر باب الدخول إلى الروح. أو بمعنى أصح باب فهم تلك العلاقة بين الروح والمادة . وليعلم القارئ بأن المعجزات المذكورة في الكتب المقدسة ليست خرافات بل تتبع علم أرقى بكثير من تلك العلوم المادية الفقيرة التي يعتمد عليها علماء العصر الحديث.