الخاطرة 157 : قانون ( عسى أن تكرهوا شيئا )

خواطر من الكون المجاور

كثير من شباب اليوم يسمعون العبارة " عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم " عندما تأتي الظروف بعكس ما يشتهون ، دون أن يستوعبوا حقيقة معنى هذه العبارة وأهميتها في حياة اﻹنسان، ليشعروا بردة فعل روحية ترفع من معنوياتهم ليصبروا على تلك المصائب أو العراقيل التي تواجدت فجأة أمامهم ، ليتابعوا طريقهم مسلمين أمرهم لله. فنجدهم في كثير من اﻷحيان مع كل عرقلة يواجهونها في طريقهم يصيبهم الحزن والغم أو نجدهم يفقدون أعصابهم فتسير أمورهم من السيء إلى الأسوأ بسبب سوء حالتهم النفسية التي تمنعهم من التفكير بشكل سليم لما يحدث بهم.

وحتى أوضح بشكل أفضل ما أقصده سأذكر لكم هذه الحادثة التي حصلت معي قبل سنوات طويلة :

في إحدى الأيام من السنوات اﻷولى من وجودي في اليونان قرر بعض الأصدقاء أن نذهب إلى مدينة باترا لنمضي فيها يومين لنشاهد هناك الإحتفالات والإستعراضات الشعبية في الكرنفال والذي يحدث كل عام قبل بدأ فترة الصيام الكبير في الديانة المسيحية. وكوني أهتم جدا بدراسة التعبير الروحي لتقاليد وعادة الشعوب وخاصة الدينية منها ، رحبت بالفكرة وقبلت الذهاب معهم. وﻷن إحتفالات كرنفال مدينة باترا مشهورة يذهب إليها سنويا عدد كبير من السياح لذلك حتى نضمن تذاكر سفر ومكان إقامة قمنا بحجز التذاكر وغرف في الفندق قبل فترة طويلة من موعد السفر .

كنت قد إتفقت مع أحد أصدقاء الرحلة أن يأتي إلى بيتي قبل ساعة ونصف من موعد إنطلاق القطار لنذهب معا إلى محطة القطار وهناك سنلتقي ببقية الشلة لنسافر معا. ولكن شاءت الظروف في ذلك اليوم أن أتأخر حوالي نصف ساعة عن الموعد ، وعندما وصلت إلى البيت كان صديقي في إنتظاري وكان منزعجا جدا ومتوتر اﻷعصاب بسبب تأخري ، وما كان علي سوى أن أحاول أن أخفف من توتره قائلا له لدينا وقت كاف وسنصل إن شاء الله إلى محطة القطار في الوقت المناسب.

عندما خرجنا إلى الشارع بدأنا نبحث عن سيارة تاكسي لتنقلنا إلى محطة القطار ،كانت جميع سيارات الأجرة التي مرت أمامنا محجوزة ، فقد كان ذلك اليوم يوم الجمعة ظهرا وفي هذا اليوم بالذات من الصعب جدا أن تجد سيارة تاكسي حرة وذلك بسبب موسم اﻹحتفالات والعطلة الدينية فعادة كانت نسبة كبيرة من سكان مدينة أثينا بعد إنتهاء الدوام في الدوائر الحكومية يغادرون المدينة لقضاء إجازة أيام العطلة الرسمية في قراهم مع أهلهم أو في أماكن سياحية للمشاركة في إحتفالات الكرنفالات.

صعوبة إيجاد سيارة تاكسي لينقلنا إلى المحطة ، زادت توتر أعصاب صديقي أكثر فأكثر ، كان كل دقيقة ينظر إلى ساعته ، وكنت أحاول في كل مرة أن اقلل من توتره هذا قائلا له ( عسى أن تكرهوا شيئا وهو خيرا لكم ) وكونه يؤمن بوجود الله ، كانت هذه اﻵية القرآنية تجعله يتمالك أعصابه من جديد . ولكن بمجرد أن يرى سيارة تاكسي أخرى تمر من أمامنا بدون أن تقف لنا ، كان يعود إلى حالة التوتر واﻹنزعاج ثانية.

بالنسبة لي كان فكري فقط أن أحاول تهدئة توتر صديقي، فرغم رغبتي الشديدة بالذهاب إلى مدينة باترا لحضور إحتفلات الكرنفال ، ولكن كنت أومن بما يسمى القدر أو المشيئة اﻹلهية ، فبعض اﻷحيان تأتي ظروف معينة تجعلنا لا نستطيع أن نفعل ما نريد لسبب ما لا يعلم به سوى الله عز وجل ، فنحن لا نسيطر على مجريات اﻷحداث ، لذلك ما يجب علينا القيام به في مثل هذه الحالات سوى أن نحاول أن نفعل قدر ما نستطيع وأن نسلم أمرنا لله عز وجل ، أما أن نثور ونغضب ونفقد أعصابنا فهذا لا يدل سوى على شيء واحد وهو أننا في تلك اللحظات نكشف عن حقيقتنا ، فالشخص الذي يسلك هذا السلوك عندما يجد أن اﻷمور تسير عكس ما يشتهي هو في الحقيقة إنسان تسيطر عليه الأنانية وحب الذات ، لذلك فهو يرى ما يتعلق به شخصيا وليس ما يتعلق بالوضع العام والذي في هذه الحالة يسيطر عليها القدر نفسه أي ما نسميه المشيئة اﻹلهية ليتابع الكون بأكمله طريقه حسب المخطط اﻹلهي الذي رسمه الله له.

بعد إنتظار أكثر من ربع ساعة وجدنا سيارة تاكسي لتنقلنا إلى محطة القطار ، وﻷن المحطة في الظروف العادية تبعد حوالي عشرون دقيقة تقرييا ، هدأت قليلا أعصاب صديقي فلدينا حوالي أربعين دقيقة ، وقت كاف لنصل إلى محطة القطار بدون تأخير ، ولكن بمجرد أن إقتربنا من مركز المدينة عادت اﻷمور إلى أسوأ من قبل ، فشدة ازدحام السيارات في الطرقات كانت فوق ما نتصور، فخلال أكثر من ربع ساعة قطعنا مسافة لا تتجاوز الثلاث مئة متر فقط ، عندها لم يتحمل صديقي الوضع ، فعاد توتره العصبي إليه وراح يقول بعصبية بأننا سنتأخر وأن القطار سيغادر بدوننا ، فرحت من جديد أحاول تهدئته قائلا له بأننا بمجرد أن نعبر مركز المدينة سيكون الطريق مفتوح أمامنا وسنستطيع الوصول قبل موعد مغادرة القطار.

وفعلا بعد خروجنا من مركز المدينة كان الطريق أقل إزدحاما ،ورغم أن سائق التاكسي حاول قدر اﻹمكان أن يسرع لنصل قبل موعد مغادرة القطار ، ولكن عندما رأى صديقي أن عقارب الساعة إقتربت من الرابعة وأننا لا نزال بعيدين عن محطة القطار ، شعر بخيبة أمل شديدة ، وكان رأيه أنه من اﻷفضل أن نعود إلى البيت بدلا من الذهاب إلى المحطة من أجل اللاشيء ، فالقطار حتما سيكون قد غادر ، ولكني طلبت من السائق أن يتابع طريقه إلى المحطة ، وأن لا نفقد اﻷمل ، فتحججت لصديقي قائلا له بأنه عادة في مثل هذه الظروف تحدث أشياء كثيرة تؤدي إلى تأخير موعد مغادرة القطار. هذه الفكرة أعادت لصديقي بعض اﻷمل في إحتمال أن نلحق القطار قبل مغادرته.

عندما وصلنا إلى المحطة خرجنا من سيارة التاكسي ودخلنا المحطة جريا وبداخلي أمل في أن نرى أصدقائنا وكذلك القطار لا يزال بإنتظارنا ، ليعلم صديقي أن سلوكي الهادئ في مواجهة العراقيل يجلب البركة لتنتصر على تلك العراقيل .ولكن كانت المحطة شبه خالية من الناس ، وعندما سألنا أخبرونا أن القطار المتجه نحو مدينة باترا قد غادر قبل عشرة دقائق تقريبا.

يبدو أن صديقي من شدة القلق وتوتر اﻷعصاب التي مر بها خلال تلك دقائق قد أرهقته ، لذلك عندما رأى أن القطار قد غادر بدوننا ، لم يقم بأي ردة فعل ليعبر عن سخطه وإنزعاجه ، كان حزينا ومرهقا ، وربما بسلوكه هذا لم يرغب في أن نتناقش بما حصل ،ليلقي اللوم علي بسبب وصولي إلى البيت بوقت متأخر، فقط حاول أن ينهي الموضوع قائلا بأنه ليس لنا حظ في حضور الكرنفال وكان رأيه أن نعود إلى منازلنا وننسى أمر السفر، ولكني طلبت منه أن ينتظر قليلا ﻷذهب وأسأل فربما هناك قطار آخر سيذهب إلى نفس المدينة ، ولكن صديقي أصر أن ننسى الموضوع وأن نلغي السفرة فليس له القدرة أن يبقى في المحطة ساعات طويلة ﻹنتظار قطار آخر ، فالطقس كان شتويا بكل معنى الكلمة ، رياح باردة تلفح الوجه تجمد الدم في اﻵذان والأنف ، ومطر رذاذي يعطيك شعور بالكآبة والخمول. ولكني أيضا لم أرغب أن أكون أنا السبب في عدم سفرنا ، وخاصة أننا قد حجزنا غرفة في الفندق لليلتين ، وأيضا أصدقاءنا هناك يتمنون وجودنا معهم لتكبر الشلة ، فكما هو معروف كلما كانت الشلة بأفراد أكثر كلما كانت المتعة والتسلية أكبر.

وبينما كنت أحاول إقناع صديقي أن نذهب ونسأل في مكتب التذاكر فيما إذا كان هناك قطار آخر سيذهب إلى مدينة باترا ، رأيت قطارا قادما ليتوقف أمام المحطة ويهبط منه رجل يرتدي بدلة جابي التذاكر ، فسألته عن جهة سفر القطار الذي أتى، فأخبرنا بأنه تم تشكيل رحلة إضافية إلى مدينة باترا بمناسبة الكرنفال ، فأخبرته عما حصل معنا ، فأخذ تذاكرنا ونظر إليها ، ثم أخبرنا بأنه يمكننا السفر على نفس القطار بنفس التذاكر ولا داعي أن ندفع ثمن تذاكر جديدة ، وكانت المفاجأة سارة أكثر عندما علمنا بأن القطار سيغادر المحطة خلال ساعة على الأكثر ، وهذا يعني أننا لن ننتظر كثيرا.

شيء غريب حصل في تلك اللحظة ، فعندما كان جابي القطار يتحدث إلينا كان ينظر إلي بنظرة غريبة وقد لاحظ صديقي أيضا هذه النظرة الغريبة ، وعندما إبتعد عنا سألني صديقي إن كنت أعرف هذا الرجل من قبل فنظراته إلي كان لها معنى وكأنه يعرفني من قبل ، فأخبرته بأنني لا أعرفه وأنها المرة اﻷولى التي ألتقي به.

بعد قليل عندما صعدنا إلى القطار ، لنبحث عن مقاعد خالية نجلس عليها ، رأينا الموظف نفسه يتفحص الكابينات ليتأكد أن أمور الركاب تسير على ما يرام ، وعندما إقترب منا سألناه فيما إذا كان هناك أماكن خالية لنجلس عليها ، فرأيته ينظر إلي بنفس تلك النظرة الغريبة للحظات ثم يسألني " من أين أنت ؟ " فأخبرته بأنني من سوريا (سيريا باللغة اليونانية ) فإرتسمت على وجهه إبتسامة إستغراب ، وقال لي بأنه من جزيرة ( سيروس ) وأن له شاب قريب يشبهني كثيرا، وأن الصدفة الغريبة ليس فقط في الشبه في ملامح الوجه ولكن أيصا في إسم البلد ( سيريا - سيروس ) ، ضحكنا ثلاثتنا على هذه الصدفة الغريبة ، وفجأة وكأن شيئا قد خطر على فكره ، رأيناه يطلب منا أن نتبعه ، فذهب بنا إلى أماكن الدرجة اﻷولى ، وطلب منا أن نجلس قائلا لنا بأنه هنا أفضل لنا من أماكن الدرجة العادية ثم تركنا وذهب. وبعد دقائق قليلة إنطلق القطار في رحلته نحو مدينة باترا.

كان الطقس في الخارج قاسيا جدا ولكن في داخل القطار كان كل شيء على أحسن حال ، مقاعد مريحة جدا ومكيفات هوائية جعلت المكان دافئ ولطيف ، هذا الجو اللطيف دفع كثير من الركاب ومنهم صديقي أيضا ليغمضوا أعينهم ويغفوا في نوم عميق.

عندما وصلنا مدينة باترا وإلتقينا بأصدقائنا في الفندق ، علمنا بأنهم وصلوا قبلنا بحوالي فقط ربع ساعة وأن رحلتهم كانت مزعجة جدا جعلتهم يلعنون تلك اللحظة التي قرروا فيها أن يحضروا الكرنفال ، فالمكيف في القطار لم يكن يعمل والهواء البارد كان يدخل في القطار من كل مكان ليصل إلى العظم ، بحيث جعل رحلتهم تبدو وكأنها رحلة إلى القطب الشمالي.

لا أدري إذا كان صديقي قد تأثر بهذه الحادثة وأخذ منها درسا لا ينساه ليعلم أن عصبيته وقلقه طوال الوقت كان نتيجته فقط إرهاق نفسه ، ولكن بالنسبة لي فمثل هذه اﻷحداث تبقى راسخة في أعماق فكري لتأتي إلى ذهني في كل ظرف مشابه ، لتمدني بالصبر لأستطيع بكل هدوء مواجهة الظروف القاسية . فهناك فرق كبير بين سلوك اﻹنسان الذي يتصرف بهدوء ليحاول تصليح اﻷمور ،وبين إنسان يفقد أعصابه فيثور أو يحزن أو يغضب أمام كل محنة أو مصيبة تداهمه ، وسلوكه هذا بدلا من أن يصلح اﻷمور يجعلها تزداد سوءً أكثر فأكثر.

الكون بأكمله ليس سوى كهف ولدت فيه اﻹنسانية ثانية بعد طردها من الجنة لتحاول تصحيح تكوينها لتستطيع العودة ثانية إلى وطن اﻷم وهو الجنة. واﻵية القرآنية (عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم ) هي في الحقيقة قانون إلهي يسيطر على إتجاه الأشياء واﻷحداث ، فاﻹنسان كتكوين خلقي يحوي داخله جزء من روح الله ، وهذا الجزء مرتبط بروح الله العالمية التي تسيطر على كل شيء ، فعندما يحاول اﻹنسان إراديا أو لا إراديا الخروج عن الطريق الذي رسمه الله له ، تأتي الظروف من حوله لتعرقل مسيرته لتعيده ثانية إلى الطريق السليم ، لذلك على اﻹنسان أن يؤمن بالقدر اﻹلهي وأن يواجه جميع اﻷحداث سواء كانت سعيدة أو مؤلمة بروح تملؤها الطمأنينة والثقة. فيجب علينا أن نعلم بأننا جزء بسيط جدا من كون له أبعاد لا يستطيع عقل إنسان أن يتصور قياساتها، وأن كل شيء في هذا الكون يجب أن يسير بشكل منسجم مع اﻷشياء اﻷخرى ، فإذا كل واحد منا تمنى لنفسه ما تشاء لإنقلبت موازين الحياة بأكمله ولتحول العالم إلى كتلة هائلة من المتناقضات ، لذلك ولمنع حدوث هذه المتناقضات تحدث أمور كثيرة مخالفة لما نرغب لتسير اﻷمور كما هي في المخطط اﻹلهي.

ويجب علينا أن نعلم بأننا مهما بلغنا من الذكاء أو القوة في اﻹدراك سنبقى كائنات لا تعلم إلا القليل ، لذلك علينا أن نفعل ما نستطيع القيام به ونسلم أمرنا لله ، فهو اﻷعلم لحقيقة ما هو لخيرنا وما هو لشرنا. وقد نعلم سبب تلك العرقلات التي وجدناها في طريقنا بعد وقت قصير كما حصل في الحادثة التي ذكرتها قبل قليل ، أو ربما نعلم سببها بعد سنوات عديدة ،أو ربما لا نعلم سببها أبدا ، " وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون " اﻵية 216 من سورة البقرة.

وسوم: العدد 751