رسالة الشهداء في ظلال عاشوراء

خطبة الجمعة 13/11/2013م

د. محمد سعيد حوى

جعل بعض الناس من يوم العاشر من محرم يوماً أسطورياً غير عادي أبداً؛ فتجدهم يحدثونك أنه نجى الله فيه عشرة من الأنبياء، وأنه من شعائر الله، ثم هناك من يجعل من هذا اليوم  يوماً للفرح وعند آخرين يوماً للحزن، وما هذا كله إلا لأنه خروج عن المنهج الشرعي في البحث والتحقيق والاقتداء بالهدي النبوي إن في الفرح أو في الحزن.

والثابت التاريخي  هو :

 استشهاد الحسين بن علي رضي الله عنهم وكوكبة من آل بيت النبوة بلغ عددهم تسعة عشر من أهل بيته، وعندما يقف أحدنا على تفاصيل هذه المأساة يجد أنها فعلاً من أعظم الفواجع في التاريخ الإسلامي إذ كيف يجرؤ بعض ممن يدعي الإسلام أن يعتدي على آل بيت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.

طائفتان تهلك:

نعم هي فاجعة ومأساة تجل عن الوصف ولكنه يهلك بسبب هذه المأساة طائفتان:

 الأولى :

اولئك الذين اجترؤا وقتلوا الحسين ومن معه ظلماً وعدواناً فكان جريمة بشعة لا توصف، ويلحق بهم في الإثم كل من رضي عنهم أو سكت عنهم أو والاهم أو دافع عنهم أو برر لهم بأي شكل من الأشكال. وبحمد الله قد انتهوا هؤلاء جميعاً، ولا نعلم أحداً من المسلمين يرضى بهذا.

 

الطائفة الثانية:

 التي تهلك في هذا هم الذين ادعوا أنهم شيعته وغلوا غلواً مرفوضاً شرعاً، فيرتكبون جملة من الموبقات فاستحدثوا اللطم والمآتم والاستمرار بها على هذا الوصف من البدع  التي لا يرضى الله ورسوله عنها ، وجعلوا هذه القضية سبباً مستمراً للفتنة في الأمة  تحت شعار (يا لثارات الحسين) بينما أن من قتل الحسين قد عاقبهم الله جميعاً وانتهى أمرهم، والأمة الإسلامية جميعاً تبرأ من دم الحسين ، فعندما يستحضرون هذا الشعار (يا لثارات الحسين) إذًن يقصدون ماذا سوى إثارة الفتنة في الأمة واتهام الآخرين والدعوة إلى القتل والقتال المستمر؟!

 وتهلك هذه الطائفة لأنهم هم في الواقع من قتل الحسين إذ أرسلوا له آلاف الرسائل ليخرج إليهم ثم غدروا به وخانوه وتخلوا عنه وهم لذلك يلطمون في الحقيقة، وتهلك لأنها جمعت إلى ذلك جملة من العقائد الباطلة كشتم الصحابة رضوان الله عليهم واتهامهم بالتآمر وابتداع عبادة القبور والقول بعصمة الأئمة وغير ذلك من الأمور الباطلة.

الموقف الشرعي الحق:

ولا بد لنا أن يكون لنا النظر الحق المنبثق من هدي الكتاب والسنة في شأن استشهاد الحسين وآل بيته عليهم الصلاة والسلام ورضي الله عنهم جميعاً، ويتمثل ذلك في :

 

1-      إدانة مطلقة لهذه الجريمة، ورفض قطعي لها ولكل من قام بها.

2-     الاعتراف بفضل آل البيت ومكانتهم وحقهم وحبهم، والنصوص في ذلك كثيرة

(عَنْ يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حُسَيْنٌ مِنِّي وَأَنَا مِنْ حُسَيْنٍ، أَحَبَّ اللَّهُ مَنْ أَحَبَّ حُسَيْنًا، حُسَيْنٌ سِبْطٌ مِنَ الأَسْبَاطِ») سنن الترمذي،3775، حسن.

(عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: «لَقَدْ عَهِدَ إِلَيَّ النَّبِيُّ الأُمِّيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَا يُحِبُّكَ إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَلَا يَبْغَضُكَ إِلَّا مُنَافِقٌ») سنن الترمذي، 3736، صحيح.

وكانت وصية رسول الله بكتاب الله ثم قال( أذكركم الله في أهل بيتي) صحيح مسلم.

3-    أن الحسين بن علي إنما خرج وهو إمام مجتهد من أئمة الهدى وابن رسول الله صلى الله عليه وسلم وسبطه ومحل القدوة إنما خرج على يزيد لأنه يعتقد اعتقاداً  صواباً أن يزيد غير شرعي وبيعته لم تكن صحيحة وأنه فُرض على الأمة فرضاً فضلاً عن الظلم الذي كان في عهده، فما كان لابن بنت رسول الله أن يرى ظلماً وطغياناً ثم يسكت عن ذلك وقد رأى أن هنالك من ينصره بالحق، فإذن خروجه خروج نصرة للحق ورفضاً للظلم.

فلا يعقل أن تتحول الخلافة ملكاً عضوضاً كما حذر النبي صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح ولا يتحرك أحد من المسلمين ضد هذا الانحراف فأعطى الحسين للأمة درساً بليغاً في أن الحق أن تنصر الحق ولو كنت وحدك، أن لا توالي الظلم، أن تدفع كل شيء ثمناً لذلك ولو كلفك حياتك.

4-    والحقيقة الأخرى التي من الواجب أن نقف عندها، أن القضية ليست فقط قضية الحسين رضي الله عنه، بل هي قضية كل أصحاب الرسالات والمبادئ العظيمة والحقائق الإيمانية إذ يقفون دون حقهم ويقدمون أرواحهم شهداء في سبيل الله وخاصة عندما يكون الاعتداء والظلم من بعض من يدعي الانتساب للأمة، لذلك فلم تكن المظلومية فقط مظلومية الحسين وإن كانت هي الأدمى بين ذلك والأفجع والأوقع.

قضية الحسين قضية كل الشهداء في سبيل الحق والعدل ورفض الظلم والانحراف:

 بل هي أيضاً مظلومية عثمان  رضي الله عنه، الذي قدم أعظم درس في التاريخ في رفضه أن يراق دم من أجله، وفي رفضه أيضاً أن يخلع الخلافة فيقدم للطغاة والباغين شرعية لا يستحقونها فأعطى درساً بليغاً في الحفاظ على الحق ولو كلفه حياته، وهاهي مظلومية علي رضي الله عنه الذي أيضاً قاتل الخوارج والبغاة وأعطانا الدروس الأعظم في كيف يساس الناس بالدين بعيداً عن الأهواء فدّين السياسة ولم يسيس الدين ولم يجعل المال ألعوبة ليشتري الذمم ولم يعلن الشعارات الفارغة ليستجلب القلوب؛ فكان دون ذلك بذل دمه الطيب الطاهر، وهذه مظلومية عبد الله بن الزبير الذي رفض أيضاً أن يستسلم للباطل وقد بويع بيعة صحيحة وهو ابن حواري رسول الله، والذي شرب دم حجامة النبي إذ أمره أن يريقه فلم يجد له مكاناً إلا جوفه فقال له النبي: ويل للناس منك وويل لك من الناس، نعم أصبح دم النبوة الحار يغلي في جوفه؛ فلا يقر ظلماً ولا انحرافاً، لذلك وقبل أن يُستشهد وتهدم عليه الكعبة يجري حوار بينه وبين أمه أسماء بنت أبي بكر يقول: (خذلني الناس ، فماذا ترين؟ قالت: أنت والله أعلم بنفسك، إن كنت تعلم أنك على حق وإليه تدعو فامضي له فقد قُتل عليه أصحابك ولا تمكن من رقبتك غلمان بني أمية فيلعبون بها، وإن كنت إنما أردت الدنيا فبأس العبد أنت، أهلكت نفسك وأهلكت من قُتل معك، وإن قُلت إنما ضعفت لما وهن أصحابي فهذا ليس فعل الأحرار ولا أهل الدين وكم خلودك في الدنيا، القتل أحسن، قال: إني أخاف أن يُمثل بي، قالت: إن الشاة المذبوحة لا يؤلمها السلخ) هذه المرأة العظيمة أسماء هي التي وقفت للحجاج عندما قال لها: (كيف رأيتني صنعت بعدو الله؟ قالت: أراك افسدت على ابني دنياه وافسد عليك آخرتك، سمعت رسول الله يقول: إن في ثقيف مبيراً وكذاباً فأما الكذاب فرأيناه، وأما المبير فلا إخاله إلا أنت).

ثم إن الحجاج دخل عليها ليسترضيها بأمر عبد الملك بن مروان فقال: (يا أماه إن أمير المؤمنين أوصاني بك، فهل لك من حاجة؟ قالت: لست لك بأم، إنما أنا أم المصلوب على الثنية).

دماء حارة زكية طاهرة:

هكذا تكون النساء النساء اللواتي يرضعن أولادهن معنى الحرية والبطولة والشهادة والتضحية، بهذه الدماء الحارة الزكية الطاهرة تحرك الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير وسعيد بن جبير وعلماء العراق ضد الظلم والطغيان والبغي والعدوان وقدموا أرواحهم رخيضة في سبيل الله فلا يقال يوماً في التاريخ إن ظلماً وانحرافاً وقع ثم لم تتحرك الأمة ولم يتحرك علماؤها.

5-    إنه وإذ نتكلم عن رسالة الحسين والشهداء فما أبعد هؤلاء الذين يتحدثون عن الحسين ويدّعون التشيع له بينما هم يناصرون الظلم والطغيان بشكل من الأشكال.

6-    لا بد إذن أن نقف ملياً مع الرسائل الاستشهادية التي حملها شهداؤنا عبر التاريخ لا نستثني منهم أحداً سواء حمزة أو عمر أو عثمان أو علي أو الحسين أو ابن جبير أو نور الدين زنكي وخاصة اولئك الذين قتلوا أو اغتيلوا على يد طغمة طاغية ممن يدعي الإسلام، وهاهو التاريخ يعيد نفسه  فكم قدمت أمتنا في هذا العصر بالذات من شهداء كرام لأنهم رفضوا الظلم والطغيان والعدوان، وأصروا على الحرية والكرامة.

7-    إن الدرس البليغ إذن أن الحفاظ على الحرية والكرامة والعزة وتصحيح المسار ورفض الظلم والطغيان لا بد له من بذل الدماء ولا بد له من مواكب الشهداء في ظل مداد العلماء، ولا يظنن ظان أن دماءهم تذهب سدىً ، فأثرها في الأمم والتاريخ والإنسانية بالغ ومستمر.

خطى على طريق الأنبياء:

كل ذلك أيضاً على قدم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الذين تعرضوا من قبل أقوامهم إلى الكثير الكثير من الإيذاء الشديد لو أخذنا أنموذجاً موسى  عندما يقول فرعون في حقه: ﴿ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ ﴾ [الزخرف: 52]

أليس هي ذات العبارات تكرر اليوم في حق المصلحين

 عندما يقول فرعون : ﴿ إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ ﴾ [الشعراء: 54]

أليست هي ذات العبارات تردد اليوم

، عندما يقول فرعون : ﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الفَسَادَ ﴾ [غافر: 26]

ألم يُخرج الأنبياء الطاهرون من ارضهم وكان شعار الظالمين : ﴿ أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 82]

﴿ قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ المَرْجُومِينَ ﴾ [الشعراء: 116]

والإخراج ليس بالضرورة طرداً من الأرض فخسب، أليس عندما تقيد الحريات وتفتح السجون فهو نوع من النفي من الأرض.

 ألم تقم المحاكم الظالمة لهؤلاء الأنبياء الأصفياء فهذا يوسف عليه السلام يشهد ببراءته  كل شيء ثم انظروا إلى هذا الظلم الفظيع ﴿ ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ ﴾ [يوسف: 35] وهكذا لبث في السجن بضع سنين.وعلى أرض مصر يحدث كل ذلك.

8-    ومن ثم كل ذلك يؤكد أن طريق الأنبياء والحق والعدالة والحرية والكرامة محفوف بالدماء والتضحيات والسجون وافتراءات المفترين ولا سبيل لاصحاب الرسالات إلا الثبات والتضحية.

التضحيات ومفهوم النصر:

لكن بعض قصيري النظر ومرضى القلوب يرون في هذه التضحيات تارة أنها تهور أو إنها قصر نظر أو أن اصحابها ليسوا على الحق فلو كانوا على الحق لنصرهم الله، والجواب لهؤلاء إذن عندما صبر موسى وقومه عشرات السنين على ظلم أشد ﴿ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ المُفْسِدِينَ ﴾ [القصص: 4] كان فرعون على حق؟! إذا لم يأت النصر حالاً لهؤلاء الشهداء العظام الذين ذكرنا بعضهم أو الأنبياء هل كانوا على باطل؟!

ما مفهوم النصر؟ هل تسلط الظلم نصر؟ أليس الثبات على الحق نصر؟

 إن هؤلاء المستعجلين والمترددين والمخذلين الذين يقولون بمثل هذه الأقوال قصيري النظر لم يفهموا سنن الله في الابتلاء والتمحيص ورفع درجات الأنبياء والشهداء وأن الله يملي للظالمين لحكم كثيرة، وقف معي مع سورة الحج ﴿ فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ، أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ، وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ، وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ المَصِيرُ ﴾ [الحج: 45-48]

فإذن الزمن في ميزان الله لا شيء، ثم الله تعالى يقول: ﴿ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾ [آل عمران: 140].

9-    نعم هذه رسالة الشهداء الحسين وإخوانه والأئمة من قبلهم عثمان وعلي والعلماء من بعدهم سعيد بن جبير وعلماء العراق  وجميعهم على قدم الأنبياء.

فنحن هنا لا نستدعي التاريخ لكن نؤكد على الدروس التي يجب أن نستلهمها في هذه المواقف العظيمة؛ أن الحق لا بد له من رجال رجال يحملونه ويضحون لأجله، وأن الرجال الرجال لا يقرون انحرافا ولا ظلماً مهما كلف الأمر.