واخشوا يوماً

د.عبد الحكيم الأنيس

د.عبد الحكيم الأنيس

خطبة الجمعة بتاريخ: 22-3-2013

الموافق 10 جمادى الأولى 1434

ألقاها عبد الحكيم الأنيس في مسجد أبي هريرة بدبي

أما بعد:

فيا أيها الأخوة المؤمنون:

 اللهُ عز وجل الذي خلقَ هذا الوجود، خلقَ الكونَ وما فيه، خلقَ الأرضَ وما عليها، هذا الخالقُ العظيم هو أعلمُ بما خلق وبمَنْ خلق، هو أعلمُ بما كانَ وما يكونُ، هو الخالق، وهو المقدِّر، وهو المدبِّر، وهو الفعّال لما يريد، هذا الخالقُ العظيمُ الذي شاءت إرادتُه وحكمتُه أن يخلق الأرضَ، وأن يخلق عليها الإنسانَ، أنزلَ كذلكَ على هذا الإنسان نوراً يضيء حياتَه، ويُبيِّن له ما سيَلقى في هذه الدنيا، ويُبيِّن له أن بعد هذه الدنيا داراً أخرى سيَصيرُ إليها، وينقلبُ إليها، قريباً أم بعيداً، عاجلاً أم آجلاً، هكذا قدَّر الله: يأتي الإنسانُ إلى هذه الدنيا في عبورٍ سريع، ربما ينتظرُ الإنسانُ فرصتَه ملايين السنين، ثم يأتي ليَقضي على ظهر هذه الأرض سنواتٍ معدودةً، أياماً قليلة، ثم يرحلُ لينتظر الحياةَ الأخرى، ولا ندري ربما سينتظرُ مرةً أخرى زمناً طويلاً لا يعلمه إلا الله، ما بين هذا وذاك يقضي الإنسانُ هذه الرحلة القصيرة، وهو مكلَّف فيها أنْ يُعدَّ إعداداً يليق بالحياة التي سوف ينقلبُ إليها.

 فيا أيها الإنسان:

 هل أنتَ على وعيٍ بهذا الخلق، وهذا الوجود، وهذه الكينونة، وهذه الرحلة؟

هل أنت تعلم ما هو السفرُ الذي ينتظرك، وما هي الرحلة التي أنتَ مقبلٌ عليها، وما هو البلدُ الذي ستُسافرُ إليه، وكم سوف تمكثُ هناك؟

 هل أنت على وعيٍ بهذا؟

هل أنت تعرفُ طبيعةَ البلد الذي سوف تُسافر إليه، وما ينبغي أنْ تحضِّر له، وماذا يجب أنْ تحملَ معك؟

إذا أردت أن تعرف هذا كله فإنَّ المصدرَ الموثوقَ الوحيدَ هو أن تعود إلى الذي خلَقَ الكون، وخلَقَ الدنيا، وخلَقِ الآخرة، وبيَّن لك أيها الإنسانُ أولَك وآخرَك، وجودَك و عدَمك، حياتَك وموتَك، إقامتَك وسفرَك، اللهُ وحده هو الذي يعلمُ كل هذا، هو الذي خلق كلَّ هذا، وهو الذي نبَّهك إلى كل هذا، فدليلُ سفرك هو (القرآن)، عُدْ إلى القرآن لتعرفَ أين كنت، وكيف تعيش، والى أين سوف ترحل، وما الذي ينبغي أن تحملَ معك، وما الذي ينبغي أنْ تعرفه مِنَ الرحلة القادمة، ومِنَ السفر الآتي، ومِنَ البلد الذي سوف ترحلُ إليه وتمكثُ فيه، القرآنُ هو الذي يدلُّك على كل هذا، وهو الذي يحذِّرك مِنْ مخاطر الطريق، ومِنْ أخطار الرحلة، ومِن الشيء الذي ينبغي أنْ تحذرَهُ تمامَ الحذر، لأنَّ الخطأ الذي يقعُ بحقِّ ذلك السفر خطأٌ قاتلٌ، ربما ينبني عليه هلاكُ الأبد، عذابك في الأبد، وإذا أحسنتَ قراءة هذا الكتاب، وعرفتَ حقيقةَ هذه الرحلة، ربما تنقلبُ إلى نعيمٍ دائمٍ خالدٍ أبد الآبدين، في وجودٍ لا نهاية له أبداً، فتخيَّلْ أيها الإنسانُ أهمية هذه الأيامِ القليلة التي تقضيها على سطح هذه الأرض قبل أن تنقلبَ إلى باطنها في رحلةٍ مؤقتةٍ، ثم تبعثَ وتقومَ بين يدي الله، القرآنُ وحده هو دليلُك، هو مرشدُك. هو الكلامُ الناطقُ الحقُّ الذي لا يقبل الخطأ:

 هو الذي تحدَّث إلينا عن أولنا، ماذا كنا في الأزل، وصَدَقَ.

 وهو الذي يحدِّثنا ماذا سيكونُ في الأبد، ولابُدَّ أن يكون صادقاً أيضاً.

 القرآن هو الذي يقول: (يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور).

 آية واحدة تشرحُ لك المصيرَ، وتخوِّفك من المخاطر المُقبلة المُحدقة بك أيها الإنسان، الخطرُ الأوحدُ الذي يجبُ أن تخشاه: (واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا).

 وما الذي يجعلك تغفل عن هذه الحقيقة؟

 غرورُك بهذه الدنيا، عشقُك لهذه الدنيا الفانيةِ، القصيرةِ، الغدَّارةِ، المتقلبةِ، الزائلةِ، الحائلةِ، المملوءةِ بالأمراضِ، بالأكدارِ، بالآلامِ، بالظلمِ، بالظلماتِ، بالفقرِ، المملوءة بالمكاره، وأنتَ تعشقُها، وتتشبَّثُ بها، وتنتظرُ وصلَها، ولا تُلقي بالاً إلى الدار التي ينبغي أنْ تحبَّها، وأنْ تُقبلَ عليها، لأنها دارٌ باقيةٌ قائمةٌ حقيقةٌ نعيمٌ أبداً، لا مرضَ، لا همَّ، لا غمَّ، لا كدرَ، لا زوالَ، لانهايةّ فيها. تترك كلَّ هذا من أجل أيامٍ معدودةٍ مملوءة بالمكاره، نعمْ مملوءة بالمكاره، بالمكاره التي لا حصرَ لها.

 ما هي الحقيقة التي تجعلك في غفلة عن هذا؟

عشقُك لهذه الدنيا، ولهذا يقولُ الحقُّ العليمُ: (فلاتغرنكم الحياةُ الدنيا) لاتغترَّ أيها الإنسان، أنتَ راحلٌ، أنت زائلٌ، أنت عابرُ سبيل، لستَ مقيماً،لم تُخلق لهذه الدنيا أبداً، ولا يُمكِنُ أنْ تبقى في هذه الدنيا أبداً، (إنك ميت وإنهم ميتون) (إنك ميت وإنهم ميتون):

 أين الأنبياء؟ أين المرسلون؟ أين الصالحون؟

 أين الآباء؟ أين الأجداد؟

أين الأكاسرة؟ أين القياصرة؟ أين الفراعنة؟

 القانونُ الرباني سيأتي على الجميع: الزوال، (فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولايغرنكم بالله الغرور).

 فيا أيها الإنسان: عُدْ إلى دليل سفرك: إلى القرآن الكريم، إقرأْهُ، افهمْهُ، انظرْ فيه، عد إليه مصاحباً، تالياً، ذاكراً، متأمِّلاً، متفكِّراً، إنَّ أحدنا ربَّما يصرِفُ من وقته لقراءة جريدةٍ، أو مجلةٍ، أو كتابٍ لاقيمة له، يصرِفُ له من وقته الغالي العزيزِ النفيسِ الشيءَ الكثيرَ الذي لايَصرِفُ بعضَه لقراءة كتاب السفر، بل لقراءة كتاب الحياة و السفر: (القرآن) الذي يدُلُّنا على كل شيء، ويُعلِّمنا كلَّ شيء، ويحذِّرنا من أخطار الطريق التي سوف تعترضنا، كتاب الله القائل: (واخشوا يوماً)

 أيها المسلم:

 هل أنت تخشى ذلك اليوم؟ اسألْ نفسك هذا السؤال، فهذا هو المقياسُ، وهذا هو المعيارُ، واللهِ إنَّ امرَأً يضعُ أمامَهُ هذا السؤال: هل هو يَخشى اليومَ الآخر، القيامةَ، السؤالَ، البعثَ، النشورَ، القيامَ بين يدي الله: لهو الفالحُ الناجحُ، فضعْ هذا أمامك، واعملْ له، ولا تخشَ شيئاً سواه لتكون من الفالحين الناجحين.

 أقول هذا القول وأستغفر الله.