من البلوطي إلى البوطي

الشيخ عصام عميرة ابو عبد الله

الخطبة الأولى) أيها الناس: جاء في كتاب (الجواب الكــافي لمن سأل عن الدواء الشافي) للإمــام ابن قيّــم الجوزيّة: وكان بعض السلف يقول في خطبته: ألا رب مهين لنفسه وهو يزعم أنه لها مكرم، ومذل لنفسه وهو يزعم أنه لها معز، ومصغر لنفسه وهو يزعم أنه لها مكبر، ومضيع لنفسه وهو يزعم أنه مراع لحقها، وكفى بالمرء جهلا أن يكون مع عدوه على نفسه، يبلغ منها بفعله ما لا يبلغه عدوه، والله المستعان. ثم يقول: فاذا نسي العبد نفسه أهملها وأفسدها وأهلكها، قال تعالى: {ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون}. فلما نسوا ربهم سبحانه نسيهم وأنساهم أنفسهم، كما قال تعالى: {نسوا الله فنسيهم}، فعاقب سبحانه من نسيه عقوبتين، إحداهما أنه سبحانه نسيه، والثانية أنه أنساه نفسه، فالهلاك أدنى اليه من اليد للفم. ومن تأمل هذا الموضع تبين له أن أكثر هذا الخلق قد نسوا أنفسهم حقيقة وضيعوها، وأضاعوا حظها من الله وباعوها رخيصة بثمن بخس بيع الغَبن، وإنما يظهر لهم هذا عند الموت، ويظهر كل الظهور يوم التغابن، يوم يظهر للعبد أنه غُبن في العقد الذي عقده لنفسه في هذه الدار، والتجارة التى أتجر فيها لمعاده. فباعوا وأشتروا وأتجروا، وباعوا آجلا بعاجل، ونسيئة بنقد، وغائبا بناجز، وقالوا هذا هو الزهرة.... فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين... وكل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها...

أيها الناس: يصدق كلام ابن القيم على العامة والخاصة، وعلى الجهلاء والعلماء، وعلى الحكام والسوقة، وعلى الأغنياء والفقراء، فما من شريحة من شرائح الخلق إلا ويصدق عليها هذا القول. وإننا من هذا المنبر نرسل قول الإمام ابن القيم إلى علماء زماننا بعامة، وعلماء سوريا بخاصة، نصيحة لهم وتحذيرا وإنذارا، حتى لا يهينوا أنفسهم ولا يذلونها، ولا يصغرونها ولا يضيعونها، فهو قول مناسب وقته، قليل حجمه، كبير معناه وأجره، مغمور مصدره، مشهور مورده، بسيط فهمه، صعب تطبيقه. فلا تتكبروا عليه، وإن جاءكم من تلميذ تربى على موائد علمكم، ومتكلم عز عليه صمتكم، وعامل ساءه صنيعكم، وخطيب يتضاءل أمام جهبذياتكم. ولكنه أبى إلا أن يسديها لكم نصيحة من القلب مخلصة، في زمن كثر ناصحوه وقل منتصحوه. إن أخذتم بها أجرتم وأنقذتم أمتكم، والله معكم ولن يتركم أعمالكم. وإن أهملتموها فالله حسيبكم، والنار تنتظركم لتكونوا أول من تسعر بكم.

يا علماء سوريا: ألم يأتكم نبأ المتظاهرين المنتفضين الثائرين على حكم طاغية الشام بشار ليلا ونهارا؟ ألم يبلغكم أن جلاوزة الطاغية قد قتلوا الآلاف منهم وجرحوا، وهدموا المنازل وأحرقوا الممتلكات، واعتقلوا وعذبوا سرا وجهارا؟ ألم يأتكم نبأ حمزة الخطيب، ذلك الطفل الذي بلغ الحلم لتوه، فقطعوا إحليله، ومزقوا بالرصاص جسده، وتركوه ينزف حتى الموت ليكون أصغر شهيد من شهداء الكلمة في التاريخ، بل مع سيد الشهداء، ولنعم دار المتقين. ألم تسمعوا وتشاهدوا أعمال الاحتجاج على هذا المجرم ونظامه في الداخل والخارج؟ يا علماء سوريا، يا خطباء المنابر، يا فرسان الجمعات في مساجد الشام، ألم تسمعوا في كل جمعة عن جمعة للشعب، وجمعة للتحرير، وأخرى للرحيل وغيرها كثير؟ ماذا قلتم في جمعة الغضب؟ وما هو موقفكم من جمعة الحرائر؟ وماذا أنتم قائلون اليوم في جمعة أطفال الحرية؟ أم تراكم لها منكرون؟ وتجعلون رزقكم أنكم تسكتون؟ وماذا يملك العالِم غير لسانه؟ فإن حبسه بين فكيه قتله، والنار أورده، وإن حركه بالباطل قتل الناس ونفسه، وإن أطلقه بالحق كان أمضى من الحسام المهند على الباطل وأهله. فلماذا التمسك بهذا النظام الإجرامي الكافر المهترئ الذي شارف على نهايته وأنتم تنظرون، وساكنا لا تحركون. يا علماء سوريا: يا علماء سوريا: إن الله قد أخذ عليكم ميثاقا غليظا لتبينن العلم للناس ولا تكتمونه، وأنتم ورثة الأنبياء، ولكم فيمن سبقكم من العلماء أسوة، وفي إمام المسجد العمري بدرعا نموذج حي أمام أعينكم. فاليوم هو يومكم، فأروا الله منكم ما يحب، وأروا بشارا وجلاوزته ما يكرهون. ولستم بحاجة إلى من يعلمكم ما تقولون، فأيديكم في العلم عليا، وألسنتكم في التعبير عنه طولى. وأما إذا أشكل الأمر، وأرتج عليكم القول، فإليكم نفحتان من نفحات العلماء التي عبقت بها الأجواء يوم أن مروا بظروف تشبه ظروفكم، وأحوال أقل سوءً من أحوال أمتكم. فهذا العز بن عبد السلام، سلطان العلماء، يواجه سلطان الديار المصرية في يوم العيد بموكبه العظيم وشرطته وحاشيته، والأمراء يقبلون الأرض بين يديه، فناداه قائلاً: يا أيوب! ما حجتك عند الله إذا قال الله لك: ألم أبوئ لك ملك مصر، تبيح الخمور؟ فقال: أويحدث هذا؟ فقال: نعم، في مكان كذا وكذا حانةٌ يباع فيها الخمر. فقال السلطان: يا سيدي، هذا من عهد أبي. فهز العز بن عبد السلام رأسه وقال: أنت من الذين يقولون: إنا وجدنا آباءنا على أمة؟! فأصدر السلطان أمرًا بإبطال الحانة، ومنع بيع الخمور. وانتشر الخبر بين الناس، ورجع العز إلى مجلس درسه، فجاءه أحد تلاميذه يقال له الباجي، فسأله: يا سيدي كيف الحال؟ فقال: يا بني رأيته في تلك العظمة، فأردت أن أهينه لئلا تكبر نفسه فتؤذيه. فقال: يا سيدي! أما خفته؟ فقال: والله يا بني لقد استحضرت عظمة الله تعالى، فصار السلطان أمامي كالقط.

(الخطبة الثانية) أيها الناس: بعد هذه الرسالة العامة إلى العلماء في سوريا وغيرها، هذه واحدة إليك يا محمد ابن سعيد البوطي خاصة، يا خادم حافظ وبشار، من المنذر بن سعيد البلوطي، سلطان الأندلس ومعلّم الملوك وراية الحق. عاش في زمن الخليفة عبد الرحمن الناصر الذي كان مولعا بالعمارة وإقامة المعالم وتشييد الدور، وهو الذي بنى مدينة الزهراء، واستفرغ جهده في تنميقها وإتقان قصورها وزخرفة مصانعها، حتى أشغله ذلك عن صلاة الجمعة ثلاثة أسابيع متوالية، فأراد المنذر أن يعظ الخليفة، ويكسر من غروره، ويحاسبه على إنفاقه الأموال الطائلة في التشييد والعمارة، وعلى انشغاله بذلك عن الإقبال على الله. فلما كان يوم الجمعة، وحضر الخليفة، صعد المنذر المنبر، فبدأ الخطبة بقول الله تعالى: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ، وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ، وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ، أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ، وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}. وأتى بما يشاكل هذا المعنى من التخويف بالموت وفجاءته، والتزهيد في الدنيا والترغيب في الآخرة، وأسهب في ذلك، وأضاف إليه ما حضره من الآيات القرآنية، والأحاديث، وآثار السلف، وأقوال الحكماء والشعراء وغير ذلك، حتى بلغ التأثر بالناس مبلغه، وضجوا بالبكاء، وكان للخليفة من ذلك نصيب كبير. إلا أنه وجد في نفسه على المنذر، وشكا إلى ولده الحكم ما لقيه من والده الشيخ، وقال: والله لقد تعمدني بالكلام، وقد أسرف علي وبالغ في تقريعي، وأقسم ألا يصلي وراءه مرة أخرى. فرحم الله أولئك العلماء العاملين، الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر، رحمهم الله، لم يخافوا في الله لومة لائم، أو جبروت حاكم. إنهم قوم شعروا بثقل الأمانة الملقاة على عواتقهم، فشمروا لحملها، وأيقنوا بحفظ الله لهم وتأييده إياهم، فبذلوا في سبيل إظهار دينه كل ما يملكون، ونصحوا للأمة حق النصح، فلا عدمت الأمة أمثالهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

يا علماء المسلمين: إذا لم تتحركوا الآن والأمة في هبتها، وذروة انتفاضتها على الطواغيت من حكامها، فمتى سيكون تحرككم لنصرتها؟ واعلموا أن الأمة ستتدبر أمرها مع حكامها وأعدائها وتقيم خلافتها، سواء عليكم أتحركتم لنصرتها أم لم تتحركوا، وبعد ذلك ستتدبر أمرها معكم، ولات ساعة مندم.