هجرة المسلمين إلى الحبشة 1

العلامة محمود مشّوح

هجرة المسلمين إلى الحبشة

12 / 3 / 1976

(1)

العلامة محمود مشّوح

 (أبو طريف)

إن الله مع الذين اتقوا والذين هـم محسـنون ، أما بعـد أيها افخوة المؤمنون :

نحن الآن في صدد البحث في موضوع الهجرة إلى الحبشة ، وكان حديث الجمعة الماضية ينصب على هذا الموضوع أيضاً ، وإنما دعاني إلى أن أُولي عناية خاصة بهذه القضية التي ربما مرّ عليها كثير من الدارسين للسيرة مرّ الكرام دون أن تستلفت انتباههم إلى ما تحمله من دلائل وما تثيره من قضايا خطيرة . أقول : إنما حملني على ذلك أنني وجدت المستشرقين الذين امتهنوا الدراسات الإسلامية بنية الكيد والدس والطعن ، يرون في هذه الهجرة بداية اتصال بين الإسلام والمسيحية أدى إلى إخصاب الإسلام بالكثير من عقائد النصرانية وتلوينه بالعديد من اتجاهاتها ، كما وجدت أن فريقاً من الدراسين للسيرة من المسلمين بالذات قد ذهبوا إلى أن هجرة الحبشة حلقة في سلسلة البحث عن مستقر للدعوة الإسلامية . وكنت منذ زمن طويل أعجب لهذه العقول ، ولكني لا آبه لمثل هذه الاتجاهات في التفكير ، وأحاول أن أهوّن من شأنها وأن أقلل من خطرها ، والإنسان كل إنسان بلا حاجة إلى أن يوقع نفسه في أوهام الغرور ، كل إنسان طالما هو حي يفكر ويدرس ويلاحظ يتطور ، وكلما حقق على صعيد الفكر بلوغ مرحلة فهو قادر بالمثابرة والدأب على أن يتجاوز هذه المرحلة انطلاقاً منها وتأسيساً عليها .

 ومنذ زمن ليس بالبعيد تكشفت لي حقيقة بسيطة تتعلق بالدراسات الإسلامية عموماً وبدراسته من زاويته التاريخية على وجه الخصوص ، وانتويت في نفسي أمراً ، أعرف تماماً قصور وسائلي فيه ، وأعرف بصدق أن المسألة التي انتويتها لا يقوم لها الأفراد ، وإنما هي بحاجة إلى جهود جماعية مكثفة ، ولكن ما الحيلة ؟ ونحن في العالم العربي والعالم الإسـلامي ما زالت تسودنا روح الفردية في العمل ، وما زال ظننا بالعمل الجماعي والجهد المشترك سيئاً ، فلذلك قررت أن أنهض بالمهمة على ما سوف يعتورها من قصور ونقص ، إلى أن يأذن الله تعالى لهذه الأمة أن تعي تمام فوائد العمل المشترك وفوائد المجهود الجماعي .

 وكانت بداية المباشرة في هذا المجهود صيف هذا العام ، في أوائل الصيف قررت أن أتناول سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ، ومضيت في ذلك شوطاً لا بأس به وإن كان ضمن حدود المقدمات ، لم ندخل صلب الموضوع ولم نحاول أن نتعرف بعدُ حتى على بدايات الحركة ، لكن ضرورة إثارة موضوع الهجرة دفعت إلى الأمام في ذهني قضية الهجرة إلى الحبشة . وهنا ملاحظة أحب أن أبيّنها لإخوتي جميعاً ، وهي ملاحظة هادية في مجال الدراسات الإسلامية عامة والتاريخية منها على الخصوص .

 نحن حتى الآن تعودنا أن نتناول الحوادث بصورة مجتزأة ، أي أننا نأخذ حادثاً معيناً أو واقعة تاريخية خاصة نقص قصتها ونحاول أن نستنتج منها ما شاء الله أن نستنتج ، هذه الطريقة غلط ، ليس هذا وحسب ، ولكنها أيضاً طريقة تزيّف الواقعة التاريخية من حيث أنها تعطيها على العموم تفسيراً زائفاً ومشوّهاً . في الدراسات التاريخية لا بد لنا أن نضع المنظور التاريخي كله أمام أعيننا ، ولا بد لنا من أن نعمل جغرافية كاملة للحدث التاريخي ، أي لا بد أن نربط الحدث التاريخي بسلسلة الحوادث التي سبقته بها ، ولا بد لنا أن نعامله هو والسلسلة كلها على ضوء المعطيات الأساسية للدعوة بالذات . من هنا كنت متحرجاً جداً كما ذكرت لكم في أول مرة منذ خطبتين في تناول هذا الموضوع ، كنت أخطط في ذهني أن بيني وبين هذه القضية مرحلة قد لا تقل عن سنتين على أقل تقدير ، لأنني أردت أن يكون الكلام على هجرة الحبشة وسوابقها جائياً في سياق الكلام على مجمل السيرة ، لكن الله شاء أن يُطرح الموضوع في هذه الأيام وليكن .

 في الجمعة الماضية طرحنا على أنفسنا سؤالين ، الأول : ما دام الإسلام ما زال في بداياته ، والقرآن لم يتنزّل منه إلا الشيء اليسير ، والدعوة بعدُ غضة طرية وجديدة في قلوب الناس وعقول الناس ، ألا يشكل بالنسبة للمسلمين نوعاً من المغامرة أن نرسلهم إلى أرضٍ غريبةٍ عنهم ، الدار غير الدار واللسان غير اللسان والدين غير الدين ؟ ونظرنا فوجدنا أن الأحوال السائدة في النصرانية لا تسمح بإعطاء شيءٍ من هذه التأثيرات ، وأن الأحوال السائدة في الجزيرة العربية قبل الإسلام وإبّان مجيء الإسلام شهدت دخول قبائل كثيرة من قبائل العرب في النصرانية ، وإذاً فالمسلمون لا يمكن أن يتأثروا بشيءٍ من هذه العقائد التي سوف يقابلونها في الحبشة . سؤالٌ آخر : الحبشة من حيث هي جزء من الإمبراطورية الرومانية ، هل كانت الحبشة وهل كانت الإمبراطورية الرومانية عموماً قادرةً على اجتذاب اهتمام المسلمين القلائل الذين هاجروا إليها ؟ وكان جوابنا في كل مرة عن هذين السؤالين بالسلب أن لا . ذلك كان خلال تحليل تاريخيٍِ طويل ، لا أقول تحليل معمق ، بل أعترف بصراحة أنه كانت فيه فجوات ، وهي فجوات لا بد أن تكون نظراً لطبيعة الوقت الممنوح للإنسـان للمنبر ، ولطبيعة الأحاديث التي تقال علـى المنابر ، وللمسـتوى العلمي الذي يجب أن نراعيه حين نحدث الناس .

 نحن اليوم أمام يومٍ آخر يتعلق بنفس الموضوع ، التفسير التاريخي يمكن أن يمارى فيه ، لأنه فهم ، والفهم يختلف باختلاف الطبائع واختلاف الأمزجة واختلاف الاستعدادات واختلاف التكوين الثقافي واختلاف الهوى الإنساني ، طالما أننا يمكن من خلال التحليل التاريخي ومن خلال تفسير الواقعة التاريخية أن نتعرض لتساؤلات ، فلنعامل المسألة على ضوءٍ أكثر ثباتاً وأكثر رسوخاً . هل كان يمكن من قِبَل النبي صلى الله عليه وسلم أن يفكر بأن يجعل من الحبشة داراً ومستقراً للدعوة ؟ كما سارعنا في الجمعة الماضية بالنفي ، نسارع الآن أيضاً بالنفي على أساسين ، الأول : تاريخيٌ صرف ، والثاني : تابعُ لقوانين النبوة وقوانين الدعوة بالذات .

 ونبدأ بالمنظور الثاني ، ذكرت لكم في الجمعة الماضية أن الهجرة إلى الحبشة كانت في رجب من السنة الخامسة للمبعث ، والنبي صلى الله عليه وسلم هاجر إلى المدينة على رأس ثلاثة عشر عاماً من المبعث ، فبين الهجرة إلى الحبشة وبين الهجرة إلى المدينة ثماني سنوات ، ماذا كان الموقف خلال السنوات الثمانية التي مرت بين الهجرة إلى الحبشة والهجرة إلى المدينة ؟ لنضع في اعتبارنا القضية التي روجّ لها كتّاب المسلمون لهم وزنهم ولهم اعتبارهم ، لنضع في اعتبارنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يهدف من هؤلاء المهاجرين إلى الحبشة أن يكونوا طليعة البعث إلى الحبشة لكي تكون الحبشة مقراً ومنطلقاً للإسلام ، بعد ذلك ماذا جرى ؟ جرى أن الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يعالن الناس بالدعوة ، فبشر وأنذر ، ولم يترك وسيلةً إلا سلكها من أجل إيصال البلاغ والبشارة والإنذار إلى الناس ، وكان يلقى ما يلقى صلوات الله عليه من صد ومن تكذيب ومن مجابهةٍ ومن أذى وكان يصبر ، لكن ردّ الفعل في المجتمعات لا يكون باستمرار آخذاً منحى الأذى ، فأنا أستطيع أن أضغط عليك فإذا أفلحتُ بالضغط عليك كان بها ، وإذا لم أُفلح بهذا الضغط فعليّ أن أجرب وسيلةً أخرى ، والناس منذ كانوا يجربون هذه الوسائل ، إذا لا أستطيع أن أجعلك توافقني على منهجي وعلى رأيي بالقوة وبالإرهاب فلأحاول أن أشتريك ، فلأحاول أن أرغبك ، هذا كان ، لكي تعلموا أن الأمر ليس بدعة العصر الحاضر ، شراء الذمم وشراء الضمائر وقيادة الناس من باب المصالح والشهوات والأطماع الدنيوية شيءٌ قديم رافق البشرية منذ كانت وعرفت الصراع بين الآراء والاتجاهات المتضاربة . جاء الناس المشركون إلى النبي صلى الله عليه وسلم يعرضون عليه إغراء ، قالوا له : إن كنت تريد مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً ، وإن كنت تريد نساءً زوجّناك ما شئت من نسائنا ، وإن كنت تريد ملكاً سودناك علينا ، أي جعلناك ملكاً علينا ، فلا نقطع أمراً دونك . فكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يزيد على أن يبيّن له أنه رسولٌ من الله إليهم ونذير لهم بين يدي عذابٍ شديد . ثم نزل البلاء مرةً أخرى وذهب من ذهب من المسلمين إلى الحبشة ، وسري الأمر وحقب بينهم وبين المسلمين ، وجاء الوفد القرشي المشرك إلى أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم وكافله وحاميه ، هذا كان بعد الهجرة إلى الحبشة ، قالوا له : يا أبا طالب إن لك فينا سناً ومنزلةً وشرفاً ، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلن تنهى ، فإما أن تكفه عنا وإما أن ننازلك وإياه حتى يهلك أحد الفريقين . أي أن قريشاً أنذرت أبا طالب ، إما أن يكفّ محمداً صلوات الله عليه عن الدعوة بتاتاً أو أنها هي الحرب المعلنة التي لا تضع أوزارها إلا بفناء المسـلمين أو فناء المشركين . فجاء أبو طالب وكان رجلاً يحب عافية قومه ، لا يميل إلى العنف ، ويريد استبقاءه ، فاستدعى إليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال له : يا ابن أخي إن قومك جاءوني فقالوا كذا وكذا ، فأبقِ عليّ وعلى نفسك ، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق . ماذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يجيب ؟ يقيناً إن الزمان وقف في تلك اللحظة ليسمع الحكم عليه من شفتي محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، في تلك اللحظة كانت الدنيا كلها معلقةً على طرف لسان محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، إنْ قال : لا ، أخذت اتجاهاً معيناً ، وإنْ قال : نعم ، أخذت الدنيا اتجاهاً آخر . كان الرد بلا تردد : يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته أو أهلك دونه . وانتهى الأمر ، عاد النبي صلى الله عليه وسلم مستعبراً ، يظن أن عمه قد بدا له فيه بَداء وأنه قد ضعف عن نصرته وأنه خاذله فاستعبر لا لأنه خاف ، ولكن لأن النبي صلى الله عليه وسلم في تلك اللحظة يكاد يفقد الثقة في العون الأرضي عموماً لتبقى ثقته بالله تبارك وتعالى ، وإذ ناداه عمه وقال له : انطلق يا ابن أخي فقل ما أحببت فوالله لا أسلمك لشيءٍ أبداً ، مضى النبي صلى الله عليه وسلم في طريق الدعوة .

 فكّروا في هذه الحادثة ، حينما نخطط لكي ننتقل من أرضٍ نشعر أن كل ما فيها يعادينا ، أن كل ما فيها يحاربنا ، أن كل ما فيها يدفعنا في صدورنا ، حينما نفكر بأن ننتقل إلى أرض أخرى أليست الكياسة والعقل والروية وحسن التصرف يقتضي جميعاً منا أن نلاين ؟ طالما نحن نريد أن ننتقل من هذه الدار فلماذا نزيد البلاء على أنفسنا ؟ لو كان النبي صلى الله عليه وسلم يفكر بأن يجعل مستقره في الحبشة لكان موقفه مع قومه أكثر ليونة مما كان عليه ، مع أننا نرى أنه وقف موقفاً أشدّ صلابةً من الصخر ، هذا واحد .

 الشيء الثاني أن البلاء تصاعدت وتيرته ، والمسلمون في الحبشة ، تصاعدت وتيرته بصورةٍ مخيفة ، في السنة الخامسة في رجب قلنا هاجر أول فوج من المسلمين إلى الحبشة ، في مطلع المحرم من السنة السابعة للمبعث قررت قريش المقاطعة العامة وأن تطبقها على بني هاشم مسلمهم وكافرهم على سواء ، وكان ما يُعرف في التاريخ الإسلامي بحصار الشعب ، حُصر المسلمون والكافرون من بني هاشم أيضاً في شعب أبي طالب في مطلع المحرم من السنة السابعة ، كم مضى من السنة الخامسة إلى الحصار ؟ سنتان ، لم يحصل خلالها أي اتصال بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المسلمين الموجودين في الحبشة إذا اعتبارناهم طليعة بعث ليفتشوا عن مستقرٍ لهذه الدعوة ، ولم يجرِ أي اتصال بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين نجاشي الحبشة ملك الحبشة بصورةٍ باتة ، الحصار كان حادثاً رهيباً سوف أشرحه إذا مدّ الله في عمرنا وأشرح أرجاعه بالنسبة للمسلمين وبالنسبة للمشركين على سواء ، ولكني أكتفي بأن أقول : إن الحصار استمرّ من مطلع المحرم في السنة السابعة للهجرة إلى السنة العاشرة للهجرة ، سنتان ونصف ، وبعضهم يمتد إلى ثلاث سنوات ، لاقى المسلمون خلالها أهوالاً لا تطاق ، يحدثنا سعد بن وقاص رضي الله عنه في حديثٍ معبر عن الحالة العامة التي كان يقاسي ويعاني منها المسلمون في تلك الأيام ، يقول : إن الجهد والجوع بلغا من المسلمين مبلغاً لا يتصوره العقل ، كان الرجل ليخرج من الشعب يمر فلا يتكلم معه أحد ولا يبيعه أحد ولا يشتري منه أحد ، والمسلمون يرجعون في المساء إلى الشعب لا يسمعون إلا بكاء الصبيان وتضوّر الرجال والنساء من الجوع ، قال : خرجت ذات يوم أنا وصاحبٍ لي فـي الليل لأبول ، قال : فلما أخذت أبول سمعت تحت بولي خشخشة ، فمددت يدي في الظلام فإذا قطعة جلدٍ يابسة ، قال : فأخذتها وغسلتها وحرقتها واستففتها ، أي التهمتها ، فتقويت بها ثلاثة أيام . يبلغ الجهد والجوع من المسلمين لشدة الحصر هذه الدرجة التي تدفع المسلمين أن يأكلوا ما لا يؤكل ، لو كان لنا أمل في أن ننتقل إلى دارٍ أخرى فلماذا كل هذا العناء ولماذا كل هذا النصب ؟ مع ذلك سوف ننظر أيضاً .

 في السنة العاشرة فُكّ حصار الشعب وخرج النبي صلى الله عليه وسلم وخرج المسلمون ، في السنة العاشرة بعد ارتفاع الحصار كانت رحلة الطائف ، والناس يعرفونها ، ذهب النبي صلى الله عليه وسلم ماشياً على قدميه يقطع في الذهاب والإياب ما لا يقل عن مائةٍ وأربعين كيلو متراً في تلك الأيام الشديدة القيظ لكي يصل بني ثقيف في مستقرهم في الطائف لماذا ؟ ذهب يرجو أن يجد عند قبيلة ثقيف رغبةً في إيواء محمدٍ صلى الله عليه وسلم وفي إيواء المسلمين معه وأن يقبلوا هذه الدعوة لتستقر في الطائف كي تكون القاعدة وتكون المنطلقة للإسلام الدين الجديد . لو أننا كنا نفكر بأن نجعل الحبشة هي قاعدة الانطلاق ، هل يعقل أن نمد يدنا هنا وهاهنا ، نضع أتباعنا في الحبشة يفتشون عن موطئ قدم ثم نذهب إلى الطائف نحاول أن نقنعهم بأن يقبلونا ويقبلوا ديننا معنا ، هذا تصرف لا يعقل .

 أيضاً خلال هذه الفترة التي نتحدث عنها كان النبي صلى الله تعالى عليه وآله يطوف في القبائل ، يرحل إلى منتجعاتهم وأماكن إقامتهم ، لأي غرض ؟ يعرض عليهم هذا الدين ، وذات يوم استقر هو وأبو بكر عند إحدى قبائل العرب ، فقرأ عليهم القرآن وشرح لهم مبادئ الإسلام وطلب منهم أن يؤووه وأن يؤازروه وأن يناصروه ، قالوا له : والله إن هذا الذي تدعو إليه لحسن ، ولكن إذا نحن تابعناك على دينك ، أتجعل لنا الأمر من بعدك ؟ يعني نكون نحن خلفاءك بعد أن تموت ؟ هنا تتميز أخلاق النبوة عن أخلاق الزعامة ، أخلاق النبوة وفاء مطلق للقيم وللمبدأ الذي يحمله الإنسان ، وأخلاق الزعامة وصولية وخادعة وكذب ، المهم أن يحقق في عملنا ربحاً راهناً ويومياً ، ودع الأمور للغد ، الغد هو يحل مشاكله . فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يُعرَض عليه عرضٌ معقول ، في بادئ الرأي العرض معقول جداً ، نحن نحميه ونقبل معك الإسلام نسلم ونجرد سيوفنا ورماحنا ونجيش رجالنا لنصرك في وجه العرب جميعاً ، تحت شرطٍ واحد هو أن نكون من بعدك الخلفاء ، فما كان من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن قال بغير تردد : إن الأمر لله يضعه حيث يشاء . لا مجال للمساومة ، نحن طلاب دين ولسنا طلاب دنيا ، ونحن جنودٌ لله تبارك وتعالى يضع الواحد منا حيث شاء في الوقت الذي يشاء ، ومَن أراد هذا الإسلام عن رغبة وصدق توجه فبها ونعمت ، ومن أراد الإسلام رغبةً في الدنيا فالله تعالى غني عنه وغني عن العالمين . قالوا له : أفنهدر نحورنا للعرب حتى إذا استبد لك الأمر كان الأمر لغيرنا دوننا ، اذهب لا حاجة لنا بأمرك . وانصرف النبي صلى الله عليه وسلم .

 أيضاً ، ولكي تدركوا كيف تكون ؟ وهذا كلام موجه إلى الشباب بخاصة لكي يعرفوا كيف تعالج الواقعة التاريخية ؟ كيف يعالج الحدث التاريخي ؟ خلال الفترة التي كان المسلمون فيها في الحبشة ، في المرحلتين المكية والمدنية على السواء ، جرى بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين نجاشي الحبشة اتصالان ، اتصال عام في عام الوفود حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم كُتبه إلى ملوك العالم القديم وأمراء العالم القديم جميعاً يدعوهم إلى الإسلام ، أرسل إلى كسرى وإلى قيصر وإلى مصر المقوقس ومن جملة من أرسل إليهم أرسل كتاباً إلى نجاشي الحبشة يدعوه إلى الإسلام ، وقبل ذلك كان أرسل إليه رسالة ، لاحظ ، بماذا تتعلق هذه الرسالة ؟ لم تكن وصيةً بالمسلمين ، ولم تكن متعلقةً بشأنٍ من شؤون الدعوة ، ولم تكن متعلقةً بدعوة النجاشي ورعية النجاشي إلى الإسلام ، كانت متعلقةً بأمرٍ شخصي خاص ، أقول شخصي تحت المنظار العام ، ولكننا كما سوف نلاحظ بعد تحليل الحدث وبعد محاولة تفسيره ، سنجد أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يتصرف تصرفاً شخصياً على الإطلاق وإنما يتصرف باستمرار لمصلحة الدعوة ومن أجل الدعوة . كانت أم حبيبة بنت أبي سفيان من جملة النساء المهاجرات إلى الحبشة ، مات زوجها عنها في الحبشة وترملت هناك ، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم كتاباً إلى النجاشي يأمره أن يزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان وأن يجهزها ويرسلها إليه في المدينة ، كان ذلك بعد الهجرة . بالله عليكم ماذا تفهمون من هذه الواقعة ؟ ربما يتصور الكثير أن النبي صلى الله عليه وسلم اشتهى أم حبيبة ، وهذا كلام لاكته ألسنةٌ لا تعرف ماذا تقول ؟ قاله أناسٌ لا يدرون ماذا يخرج من رؤوسهم ، لكننا سنمضي ، ضعوا المسألة في الإطار التاريخي ، أبو سفيان ماذا يعني ؟ أبو سفيان سيد الوادي وزعيم قريش غير منازع وقائد القافلة التي كان مجيئها سبباً لإثارة حرب بدر ، ثم هو قائد الحملة التي نكّلت بالمسلمين في أحد ، ثم هو قائد جيش الأحزاب المحزِّب والمجمّع على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين ، ثم هو السيد المطاع في مكة . إنسانٌ هذا شأنه ، لو أننا تألفناه ، فإن تألفنا إياه سيعود إلى الدعوة بمنافع كثيرة . محمد صلى الله عليه وسلم مَن ؟ رجل من بني هاشم وبني المطلب ، بنو هاشم تاج الأمة العربية بشهادة الأعداء والخصوم على السواء ، ومحمد بشهادة الأعداء والخصوم درة هذا التاج ، فحين يصهر محمد صلى الله عليه وسلم إلى أبي سفيان ولو رغماً عن إرادته ولو من غير الرجوع إلى رأيه واستشارته فإنما يفتح الطريق أمام أبي سفيان لكي يكون أقرب إلى الدعوة وأقل عنفواناً وشراسةً في مكافحة الدعوة . وفعلاً صحّت فراسة النبي صلى الله عليه وسلم ، زُفّت أم حبيبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ووصل الخبر أبا سفيان ، أترون أبا سفيان غضب ؟ لا ، حينما قيل له : إن محمد صلى الله عليه وسلم أعرس بابنتك أم حبيبة ، قال : هو الفحل لا يقدع أنفه ، وهذا كلام تقوله العرب كنايةً عن العزة القعساء التي لا تُرام والتي هي من خصائص الزعماء العظام جداً ، فالفحل من الإبل لا يمكن أن يُضرب على أنفه بالعصا ، لأنك متى ضربت فحل الإبل الذي هو فحلٌ على الحقيقة على أنفه بالعصا هاج هيجاناً لا يقف عند حد قتله ، بل سيقتل معك آخرين أيضاً . كذلك الرجال الأعزة في العرب كانوا يُشبّهون بهذا الفحل ، فأبو سفيان اعترف وأقرّ بأن الإصهار إلى محمد شرفٌ يناله الإنسان ولو كان من غير رأيه ولو كان من دون استشارته .

 ماذا كان بعد ذلك ؟ كان بعد ذلك أن عهد وعقد الحديبية فُسخ ، وجاء أبو سفيان حين شعر بتهديد المسلمين لمكة إلى المدينة يحاول أن يشد العقد ، ودخل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ، دخل على ابنته أم حبيبة ، فلما دخل أراد أن يجلس على فراش النبي صلى الله عليه وسلم ، فدفعته ابنته عنه وكفت الفراش ، قال : ما هذا يا بُنية ؟ قالت : هذا فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت امرؤ كافرٌ نجس ، لا تجلس على فراش النبي صلى الله عليه وسلم ، ما هذا ؟ أمر غريب ، كل شيءٍ كان يتصوره أبو سفيان إلا أن يُمنع من الجلوس على فراش النبي في بيت ابنته بالذات ، إذاً ما شأن محمد ؟ هنا بدأ قلب أبي سفيان يتحول عن العداوة الشرسة التي كان يضمرها للإسلام والمسلمين ، وبدأ يحاول أن يدخل محمد صلى الله عليه وسلم مكة ، لكن من غير قتال .

 وفي الواقع ذلك الكتاب الصغير ، تلك الوصاة التي بعث بها النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي لكي يزوجه أم حبية رضي الله عنها ، كان الهدف منها يرتد إلى أين ؟ إلى مسقط رأس النبي صلى الله عليه وسلم إلى قلب الجزيرة العربية إلى مكة المكرمة ، لأن هذه البقاع هي التي قدّر الله تعالى أن تكون مقراً ومأوى لهذه الدعوة الكريمة التي جددت ما اندرس من تعاليم الأبوين الكريمين إبراهيم وإسماعيل صلوات الله وسلامه عليهما جميعاً . وبالفعل جاءت الحوادث مصدقةً كل هذا ، وحين توجه النبي صلى الله عليه وسلم ليفتح مكة كان موقف أبي سفيان رضي الله عنه عاملاً هاماً جداً في فتح مكة بغير قتال .

 إذاً نحن من تسلسل الحوادث التاريخية نرى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفكر يوماً ما في أن يجعل من الحبشة داراً ومستقراً ومنطلقاً لدعوة الإسلام ، لكن يبقى السؤال : لماذا ؟ هنا لا بد لنا من أن نرجع لنعاين المسألة أو لنظر في المسألة في ضوء قوانين الدعوة بالذات . حادث النبوة ما هو ؟ النبوة في الواقع باختصار صلة بعالم الغيب ، ما لونها ؟ ما كيفيتها ؟ الله أعلم نحن لا ندري عنها شيئاً إلا ما أخبرنا به الله تبارك وتعالى بقوله ( ما كان لبشرٍ أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء ) وإلا ما أخبرنا به النبي صلى الله عليه وسلم ، وإلا هذه الأوصاف التي وُصفت بها أحوال النبي صلى الله عليه وسلم حين كان يأتيه الوحي ، وكل هذا سبق أن تكلمت عنه في أوائل الصيف الماضي ، لا أريد أن أعيد شيئاً منه إطلاقاً . إنما أريد أن أقرر أن حادث النبوة حادث خارق ، حين كان الله تعالى يرسل رسلاً إلى الناس كانت الناس تتعجب ، حينما يأتيها الرسول فيقول : أنا مرسل إليكم من قبل الله تبارك وتعالى ، يتعجب الناس ، هل صحيح ؟ كيف يمكن أن يكون الرسول بشراً مثلنا ، ابتداءً من نوح عليه السلام كما قص الناس علينا في سورة الأعراف ( لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فقال يا قومِ اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يومٍ عظيم ، قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين ، قال يا قومِ ليس بي ضلالة ولكني رسولٌ من رب العالمين ، أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون ، أوَعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجلٍ منكم ) هنا موضع التعجب ، كذلك في نفس السورة يحدثنا الله تعالى عنه فيقول ( وإلى عادٍ أخاهم هوداً ) وحين يقتص النبأ يقول لهم هود بعد أن قالوا له ( إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين ، قال يا قومِ ليس بي سفاهة ولكني رسولٌ من رب العالمين ، أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح لكم أمين ، أوَعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجلٍ منكم لينذركم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون ) فالناس إذاً كانت تعجب ، كيف يمكن أن يكون النبي بشراً من سائر البشر ؟ هذا التعجب هو الذي قاد إلى الضلالة التي جعلت المسيحية في رأيها السائد والغالب تعتقد أن عيسى ليس بشراً من الناس وإنما هو إله ، فردّ الله عليهم كما جاء في سورة المائدة ( ما المسيح بن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام ) ( انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون ) هذا التعجب أزاله الله تعالى ، أزاله بماذا ؟ أزاله بلفت نظرهم جواباً على تساؤل ( وقالوا لولا أُنزل عليه ملك ) فقال الله لهم ، مَن الذين قالوا ؟ كفار العرب المشركون : لولا أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ملك ( وقالوا لولا أنزل عليه ملك ) ماذا قال الله ؟ قال ( ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر ثم لا يُنظرون ) لا يمهلون ( ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً وللبسنا عليهم ما يلبسون ) ماذا يُفهم من هذا ؟ يُفهم أن الشيء الذي تصورته العرب كما تصورته الأمم السابقة أن وحي الله إلى الناس أمر عظيم وأنه لذلك لا يسوغ ولا يمكن أن يحمله إلى الناس بشـر من جملة الناس ، ولهذا كانوا يقولون ( ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيراً ) كما جاء ذلك واضحاً في سورة الفرقان ، فالله تعالى لفت نظرهم إلى أن رؤية الملائكة على الحقيقة لا تتم إلا يوم القيامة ، وحين يرون الملائكة على الحقيقة ( فلا ينفع نفسٌ إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً ) وكما قال الله تبارك وتعالى ( وقال الذين كفروا لولا أُنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتواً كبيراً ، يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذٍ للمجرمين وقيل حجراً محجوراً ) حين تُرى الملائكة على الحقيقة على أصل خلقتها فإن ذلك سيكون يوم القيامة ، فإذاً طلب الناس المشركين بدافعٍ من تعجبهم أن يرسل الله إلى الناس بشراً رسولاً ، طلبهم أن يكون الرسول ملكاً طلبٌ غير يمكن وغير متيسر ، أولاً : لأن رؤية الملائكة على الحقيقة لا تكون إلا يوم القيامة ، ويوم القيامة ينتهي كل شيء . وشيء آخر ( ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً وللبسنا عليهم ما يلبسون ) لو أن الله تعالى أذن بأن يرسل إلى الناس ملكاً لكانت الحكمة الربانية قاضية بأن يكون الملك على صورة الرجل ، وإذاً يعود اللتباس مرةً أخرى إلى وضعه الذي هم فيه ، لأنهم يرون أمامهم صورة الرجل ولا يرون حقيقة الملك ، لأن المُرسَل من إليهم أناس رجالٌ من بني آدم ، فالذي يُرسل إليهم رجلٌ من أبناء آدم أيضاً ، ولهذا نجد الله تعالى يقول في سورة الإسراء ( قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً ) علامَ يدل هذا ؟ يدل على أول قوانين النبوات وهو وحدة الجنس ، لا بد في النبوة وحدة الجنس ، الملائكة ترسل إليهم ملائكة ، والرجال من بني آدم يُرسل إليهم رجالٌ من بني آدم وليس غير ، فطلب المشركين والكافرين أن يكون الرسول ملكاً من الملائكة طلبٌ لا يُعقل ، وطلب لا معنى له ، هذا أول قوانين النبوات .

 ما هو القانون الثاني ؟ القانون الثاني : أن الله تعالى قضت حكمته من حيث أن الرسول مبلِّغ ومبيِّن عن الله جلّ وعلا أن يكون هذا الرسول مرسلاً بلسان قومه ، لا يصح أن يُرسل العجمي إلى العرب ، ولا يصح أن يرسل العربي إلى العجم ، هنا نرفض بصورةٍ باتة الفكرة القائلة بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يهدف من الهجرة إلى الحبشة أن يتخذها مستقراً للدعوة ، لأن الدار غير الدار ولأن اللسان غير اللسان ، يقول الله ؟ يقول الله تعالى ( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم ) كل نبي من أجل التفاهم يُرسل إلى أمةٍ من الأمم لا بد أن يُرسل بلسان قومه ، من أجل ذلك يقول الله تعالى في وصف القرآن الكريم ( إنه لتنزيل رب العالمين ، نزل به الروح الأمين ، على قلبك لتكون من المنذرين ، بلسانٍ عربيٍ مبين ) ثم يقول بعد ذلك ( ولو نزلناه ) يعني القرآن ( على بعض الأعجمين ، فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين ) هكذا يبين الله تعالى الأمر في سورة الشعراء ، لو أن الرسالة نزلت على رجلٍ من الأعاجم فقرأ عليهم القرآن بلغةٍ غير لغتهم وبلسانٍ غير لسانهم .. فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين ، لأن الإفهام مستحيل ، فالرسول يرسل ليبيّن ، والبيان مؤسس على الإفهام ، والإفهام مستحيل مع اختلاف اللسان . فإذاً القانون الأول من قانون النبوات هو وحدة الجنس ، أي أن أبناء آدم تكون الرسل إليهم من أبناء آدم ، والقانون الثاني وحد اللسان ، فلا بد أن يكون الرسول من لسان القوم المرسل إليهم لكي يتم البيان . ولهذا نجد الله تعالى يقول في أخريات سورة مريم ( فإنما يسرناه ) أي القرآن ( بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر قوماً لداً ) فالأمر أمر تيسير ، ومن الواضح البدهي جداً أن القرآن لو كان بغير لغة العرب ما كان ميسراً على الإطلاق .

 وصلنا إلى هنا ونحن نقارب الساعة في الحديث ، لكني أريد أن أستمر ، أنا أقدر تماماً أن الإخوة الذي تكلّفوا المجيء في هذا الجو غير المريح راغبون في السماع ، لكني أنذركم بأننا وصلنا إلى مأزقٍ خطر . قلنا إن النبي صلى الله عليه وسلم أُرسل إلى الناس من العرب وبلغة العرب لتنطلق الدعوة بعد استقرارها من بلاد العرب بالذات ، لكن هل العرب هم كل الناس ؟ طبعاً لا ، هنالك أمم كثيرة تعمر المسكونة ، وهنالك لغات متعددة يتكلم بها الناس على وجه الأرض ، هذا واحد ضعوه في حسابكم . الشيء الثاني : نحن نعلم أن الرسالة الإسلامية رسالة محمد صلوات الله عليه وآله رسالة عامة إلى الناس عامة ، أي أنها موجهة إلى العرب وإلى غير العرب على السواء ، فإذا كان الأمر كذلك ، فحين يكون القرآن ميسراً للفهم والتذكر بالنسبة للعرب أهل اللسان ، فهو غير ميسر بالنسبة للذين يتكلمون لغةً أخرى غير اللغة العربية ، كيف نوفق بين هذين الأمرين ؟ هذا واقع الراهن ، بالأحرى المسألة ليست مسألة توفيق ، إنما هي مسألة محاولة للتعرف على الحلول التي وضعها الإسلام في ضوء أهدافه العامة والنهائية ، انتبهوا يا شباب . الإسلام يهدف إلى أن ينتشر في الدنيا جميعاً لا خلاف على ذلك ، ووعاء الإسلام عرب ، فهل معنى ذلك أن الإسلام يريد أن يعمم اللغة العربية على الناس جميعاً ؟ بسرعة نقول : نعم ، ونشد رأينا بالآتي : أولاً : كل دارسٍ للتاريخ وخاصة التاريخ القديم يعلم أن الذين درسوا المسألة كانوا يظنون أن موطن الحضارات الأولى كان في مصر ، ثم تبين خطأ هذا الرأي ، وانتقلوا إلى الظن بأن موطن الحضارات الأولى كان في ما بين النهرين أي بلادنا هذه ، ثم تبين خطأ هذا الرأي ، واستقر رأي معظم الباحثين على أن الموطن الأول للحضارات والمهد الأول للجنس البشري كان في جزيرة العرب ، ويحدثنا القرآن عن أحوالٍ سابقة وعن أزمنةٍ سحيقة كانت الجزيرة العربية خلالها تتفجر بالعيون والأنهار وتنتشر فيها البساتين وكانت معمورةً بالقرى والظلال ، حتى إن سكانها اشتاقوا إلى رؤية الصحراء فقالوا كما ذكر القرآن ( ربنا باعد بين أسفارنا ) أرادوا أن يشعروا بلذة السفر ، لا يخرج الواحد منهم من ظلٍ إلا إلى ظل ولا من قريةٍ إلا إلى قرية ، ثم حصل جفاف شديد سبب الهجرات ، موجات من الهجرة ، وأنا أعرف أن الحبشة من أقرب البلاد إلى العرب ، لأن موجات الهجرة عرفت طريقين في الماضي السحيق ، الطريق الذي هو طريق الحبشة والصومال وساحل إفريقيا الشرقي والجنوبي ، والطريق الثاني هو صحراء سيناء ، وأن الموجات التي عُرفت بالفينيقيين والآراميين والكلدانيين والآشوريين وما أشبه ذلك هي موجات عربية ، وأن إبراهيم عليه السلام رجل من العرب ، ولكن بُعدهم عن الوطن الأم جعل اللسان يتبلبل وجعل اللغة تختلف .

 وقبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم بما لا يزيد على ثلاثمائة عام كانت لغة اليمن مغايرةً للغة عليا قريش ، كان الواحد من أهل الحجاز لا يستطيع التفاهم مع الواحد من أهل اليمن نظراً لتباين اللغات ، ونحن مهم يكن من أمر ، سواء قلنا إن الإنسانية انتشرت من آدم وحواء أو قلنا إن الإنسانية انتشرت من قرد أو قلنا إنها تفرعت من الإميبيا فلا شك عند جميع الدارسين أن الإنسانية المنتشرة اليوم تفرعت من الوحدة ، أي أن الكثرة نتيجة للوحدة ، وأن أصل الحياة واحد ، ليكن قرداً ليكن أميبيا ليكن آدم ، المهم أن أصل الانتشار واحد ، وأن التفرق إلى أمم وأقطار وشعوب عارض وما كان عارضاً فهو إلى زوال ، انتبهوا جيداً ، أنا أقول كلاماً ربما يكون مفاجأة للكثيرين ، ولكنه هو الحقيقة العلمية التي هي أصلب من الصخر ، ما دام الأمر كذلك وما دام أن الله تعالى يشير بصراحة إلى وحدة الأصل وإلى غاية الخلق ، فيقول ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى ) هذه وحدة المنشأ ( وجعلناكم شعوباً وقبائل ) لأي شيء ( لتعارفوا ) كيف يتم التعارف مع بُعد الأوطان ومع اختلاف الأجناس والألوان ومع تعدد الألسنة واللهجات ، لا يمكن ، من تمام التعارف أن يعيش الناس إخوةً متفاهمين ، وشرط التفاهم أن يتكلموا جميعاً لغةً واحدة ، ومن هنا فإننا نجد أن الإسلام قرر اللغة العربية وعاءً لهذا الإسلام بهدف أن تنتشر العربية مع انتشار الإسلام ، فلا يوجد شعب يعتنق الإسلام إلا ويتكلم بعدها العربية .

 هنا نقف أمام سؤال بسيط يثيره إخواننا الذين يزايدون بقضية القومية العربية ، يقولون : إن من مقومات القومية كذا ومن مقومات القومية كذا ، باختصار أقول لهم : لا يوحنا الدمشقي الذي كان في عصر الأمويين يشكك ويطعن في الإسلام تحت حماية الدولة الأموية ، ولا غيره من أنصار ميشل عفلق ومنيف الرزاز وأنطون سعادة وأشباههم من النصارى الذين يريدون أن يفلسفوا لنا القضية القومية العربية ، لا هؤلاء ولا ذاك أعرب من محمدٍ صلى الله عليه وسـلم ، محمد سـيد العرب وأصفاهم على الإطلاق ، بماذا يُعرّف القومية ؟ يقول : يا أيها الناس إن العربية ليست من أحدكم بأمٍ ولا أب ـ يعني ليست عنصرية ـ وإنما هي اللسان ، فمن تكلم العربية فهو عربي . رأيتم ؟ إذن فمسألة العنصر سخافة لا يقف عندها أحدها من الناس إلا من سفه نفسه واستهتر بعقله وعقول الناس ، من هذا المنطلق نحن نقول : إن الإسلام أراد أن يقضي على الفوارق وأن يذيب الجنسيات وأن يستوعب الألسنة بانتشاره ، كيف ؟ كل مسلم مطالب بالصلاة ، تمام ؟ كل مصلٍ لا بد له أن يقرأ القرآن ، حقيقة هذه ؟ القرآن عربي ، فإذاً كل مسـلم لا بد له أن يعرف اللغة العربية لكي يستطيع قراءة القرآن . أذكر قضيةً فقهيةً بهذه المناسبة يشنع بها البعض على إمام الأئمة أبي حنيفة رحمه الله تعالى فيقولون : إن أبا حنيفة رضي الله عنه أجاز قراءة القرآن بالأعجمية لمن لا يحسن العربية ، أحب أن أبين المسألة ، فالخلاف بين الشافعي والحنفي بالنسبة لمن لا يحسن العربية أن الإمام الشافعي قال : لا تجوز قراءة القرآن بغير العربية على الإطلاق ، فالإنسان الذي لا يعرف العربية عليه أن يتعلم اللغة ، وإلى أن يتعلمها فحين يصلي يقف في الصلاة ويدعو ولا يقرأ القرآن . وأما أبو حنيفة فقال : لا ، لا داعي لهذا التكلف كله ، يقف ويقرأ القرآن بلغته منقولاً إلى لغته ، ويصلي ، فهو خلاف على الشكل ولكن الجميع متفقون على أن المسلم مطالب بأن يتعلم اللغة العربية . من هذه العتبة ننطلق إلى العالم الواسع لنقول : إن العربية تنتشر مع انتشار الإسلام ، ضرورة معرفة كل إنسانٍ مسلم باللغة التي نزل بها القرآن وللغة التي نطق بها محمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم .

 ولو أن الأمور جرت بعد الخلافة الراشدة على النهج الذي أراده الإسلام لوجدنا اليوم ما يقرب من مليار نسمة يتكلمون اللغة العربية ، ولكن الخلافة الراشدة مضت ، والذين جاؤوا من بعد مع الأسف ملوك وحكام يهمهم المجد الدنيوي ولا يهمهم سيادة المعنى الإسلامي في غايته النهائية ، ولقد أذكر أنه حينما استقلت الباكستان في أواخر الأربعينات وكانت تعد مائةً وعشرين مليون مسلم ، كانت لغتها الإنكليزية بفعل الاستعمار الطويل في الهند ، فكتبت إلى جامعة الدول العربية تطلب إليها إيفاد المدرسين والمعلمين لكي يقرروا اللغة العربية لغةً رسميةً في الباكستان ، وإذا كان خلفاء بني أمية وخلفاء بني العباس ومن جاء بعدهم بعد ذلك طلاب دنيا فحكام اليوم خونة ومأجورون ومارقون ، فلذلك لم يُجب أحدٌ منهم طلب الباكستان ، ولو أنه أُجيب لأضيف إلى الأمة العربية خلال هذه الفترة التي لا تتجاوز ربع قرن أكثر من عددهم بالفعل . هذا من حيث المبدأ ، تعالوا ننظر إلى الضرورات ، وحسبي في هذا الميدان أن أضع أمامكم حقائق رقمية ، الخبراء يقدرون تقديراتٍ مخيفة ، يقولون : إن العالم في عام ألف وثمانمائة وخمسين بلغ تعداده مليار نسمة ، واقتضى وصوله إلى المليارين ثمانين ، أي في عام ألف وتسعمائة وثلاثين بلغ عدد سكان العالم مياري نسمة ، يعني ألفي مليون نسمة ، ثم بلغ عام ألف وتسعمائة وسبعين ثلاثة مليارات ، ويُفترض أنه الآن يقارب الأربعة مليارات نسمة ، هذا الانفجار السكاني يُقدّر أنه في عام ألفين سيكون سكان العالم متراوحين بين ستة مليارات وسبعة مليارات نسمة ، ليس هذا الشيء المخيف في الموضوع ، الشيء المخيف أن ثلثي هذا الرقم يسكنون في دول العالم الثالث ، يقدر أنه في عام ألفين ستكون في آسيا أربع مليارات نسمة ، وستكون في إفريقيا ستمائة وخمسين مليون نسمة ، وسيكون في أوروبا ستمائة مليون نسمة ، وسيكون في أمريكا الجنوبية اللاتينية أربعمائة وخمسين مليون نسمة ، وسيكون في الاتحاد السوفييتي أربعمائة وعشرين مليون نسمة ، وسيكون سكان أمريكا الشمالية أربعمائة مليون نسمة ، هذا الانفجار السكاني يذكرني بحادثة لطيفة تروى فيما يتعلق بقضايا الحرية ، يقال إن إنكليزياً وفرنسياً كانا مسافرين في قطار ، وكان الفرنسي بما عُرف عن الفرنسـيين من رعونة يقرأ جريدته ويفتحها على سعة يديه ، وكان الإنكليزي ذا أنفٍ طويل ، فأصابت أصبع الفرنسي أنف الإنكليزي ، نبهه بلطف ، ما هذا ؟ قال له : أنا حر ، قال له : يا أخي حريتك تنتهي عند حدود أنفي ، بعد حدود أنفي لا حرية لك أبداً ؟ الانفجار السكاني في الواقع سيسبب مشكلة هذا الأنف بالذات ، لأن الإبقاء على واقع القومية الذي تجاوزه الزمن والذي أصبح هذا الوقت زمن التكتلات الكبيرة ، هذا الانفجار السكاني لو أبقينا على القضايا القومية بنفس المفاهيم سوف يؤدي إلى تطاحن تكون نتيجته دمار البشرية ، لا سيما في ظل الرعب النووي المخيف والهيدروجيني الذي يدمر كل ما على الأرض . هنا تُفتح أمام الإسلام بآفاقه التي تكلمنا عنها إمكانية لا حد لها ، إمكانيات هائلة على الإطلاق ، في الجمعة الماضية في كلامنا جردنا إخواننا اليساريين من مبرر المزايدة علينا كمسلمين فيما يتعلق بقضايا العدل الاجتماعي ، وأقيد اليساريين الذين لا يلتزمون بالماركسية ، أما الذي يلتزمون بالماركسية فلا شيء لنا معهم . في هذه الجمعة أبنا أننا نحن المسلمين بالفعل دعاة العروبة الصحيحة الإنسانية ، وإذا كان دعاة القومية العربية يقولون بعروبةٍ تمتد من المحيط إلى الخليج .. فنحن نحمل لواء عروبة إسلامية تمتد على ظهر الكرة الأرضية عموماً ، فأينا بالله عليكم أقوم قيلاً ؟ وأينا أهدى سبيلاً ؟ وأيينا أقدر على أن نعطي هذه الأمة مكانةً ممتازة إنسانية وذات رسالة إنسانية ؟ وهي رسالة حقيقية فعلاً لأنها تقوم على دعائم الحرية البشرية والكرامة الإنسانية ، وهذا درس ينبغي أن لا يغيب عن الأذهان مع عتب أو مع حسرة ، نحن المسلمين أو بالأحرى نحن دعاة الإسلام قصّرنا في عشرات السنوات الماضية ، ما كنا نملك رؤية واضحة فتركنا اهتمامات العالم العربي تتسرب من بين أيدينا ، تلقفها نايف حواتمة وما أشبه ذلك من هذا المسار الذي لا تعرف له أصلاً ، من أين جاء ؟ أي بقعةٍ من الأرض لفظته كما يُلفظ القذر ؟ لا تدري ، تلقفها هؤلاء فإذا هم يزايدون علينا ، ميشيل وحنا وو.. العرب ، أما أحمد ومحمد وعبد الرحمن ، فليسـوا عرباً ، هذا عجيب ، هذا تلاعبٌ بالواقع وتزييف ، لكن من المسؤول عنه ؟ نحن تركنا قضايا الأمة العربية لم نهتم بها ، كنا مأخوذين بسحر العالمية ، مع أن العالمية هدف والهدف لا يلغي الطريق ، مع أن العالمية هدف والهدف لا يلغي المنهج ، وكنا غافلين عن تعرف المنهج من خلال المعطيات الحقيقية لهذه الدعوة ولهذا الدين ، مع أنها كانت قريبةً منا ، لماذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يقبل الجزية من العرب ؟ بالنسبة لغير العرب الإنسان منهم مخير ، الإسلام أو القتل أو الجزية ، لكن العربية إما الإسلام وإما السيف ، واحد من أمرين ، لأن رسول الله لا يقبل من العربي ابن إبراهيم ابن إسماعيل عليهما السلام إلا أن يكون مسلماً فقط ، لا شيء غير الإسلام . لماذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يوصي في آخر حياته : لا يجتمع بجزيرة العرب دينان . حتى إذا كانت خلافة عمر أجلى اليهود الذين كانوا يزرعون خيبر لحساب المسلمين ، أجلاهم إلى الشمال حتى لم يبقَ في الجزيرة العربية إلا العرب ؟ لماذا كان عمر وهو الخليفة الراشد الملهم ، الملهم ، لا البطل الملهم ، لماذا كان يقول : أوصي الخليفة من بعدي بالأعراب خيراً فإنهم أصل العرب ومادة الإسلام ؟ كل ذلك لأن العرب حملة الرسالة ، أهل الرسالة ، هل معنى ذلك أننا نعطيهم امتيازاً ونعود لنسـقط في العرقية والعنصرية ؟ لا ، وإنما نحن نرتب عليه مسؤولية ، وفعلاً في هذه الأيام مسؤولية العالم ومسؤولية الدنيا ومسؤولية المصير البشري تتوقف على وعي المسلمين ، وعلى وعي المسلمين في العالم العربي قبل أي أحد لهذه المهمة ، إن أحسنوا التصرف بها وحدةً وتجاوزاً للخصومات والخلافات واهتماماً برسالتهم التي هي الإسلام فسوف يقدمون الخدمة التـي أرادها الله أن يقدموها للعالم ، وإلا فشـأنهم شأن أمم كثيرةٍ بادت ، والله تبارك وتعالى غير عاجز عن أن يأتـي بقومٍ آخرين خيراً منا نحن ، ( فإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكون أمثالكم ) .

 أسأل الله تبارك وتعالى أن لا يجعلنا من أبناء ذلك اليوم ، وأن لا يحرمنا من شرف الجندية تحت لواء محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، وأن لا يحرمنا من شرف الدعوة إلى الله في ظل مبادئ الإسلام وفي ظل آيات القرآن الكريم ، وإلى الجمعة القادمة إن شاء الله سأنظر في موضوع الهجرة من زواية أخرى ، هي زاوية الضمانات والاحتياطات أو بتعبير أدق من زاوية الدروس المستفادة من تاريخ النبوات السابقة على الإسلام ، وصلى الله تعالى على سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين .