العدل في الشخصية الإسلامية

العلامة محمود مشّوح

العدل في الشخصية الإسلامية

22 / 3 / 1985

العلامة محمود مشّوح

 (أبو طريف)

 إن الله مع الذين اتقوا والذين هـم محسـنون ، أما بعـد أيها الإخوة المؤمنون :

 فما زلنا حتى الآن وإلى مرحلة قد تطول بعض الشيء نحاول أن نتعرّف على الخصائص الجوهرية للشخصية الإسلامية التي تربّى عليها المسلمون فكمل بذلك بناؤهم النفسي والعقلي والشعوري ، وبالتالي كملت بنيتهم الأخلاقية . إلا أني قبل أن أسترسل فيما أنوي الحديث عنه أحب أن أذكّر وألفت النظر إلى مسألة تعتبر وخاصة في هذه الأيام التي التبست فيها المفاهيم وتشوشت ساحة الرؤية أمام الناس ، أحب أن أذكر بمسألة هي غاية في الخطورة والأهمية ، وإنما تكتسب هذه الأهمية على وجه الخصوص من كون معظم الذين يتصدون لإعادة تصحيح مسار الأمة ، لكي يستقيم هذا المسار في مستقبل أيامها ينسونا أو يتناسونا هذه المسألة الجوهرية والتي يجب أن تكون حاضرة في الذهن باستمرار .

 فمهما تحدثنا عنه من شيء حول هذه المقومات والخصائص ، فعلينا أن ندرك أننا ندور وندندن حول المقومات الأساسية للشخصية العربية ـ وأضع تحت كلمة ( العربية ) عدة خطوط للتأكيد ـ بجوهرها الأصيل وبوصفها الذي لم يتعكر نتيجة الشوائب والمؤثرات . فهذا الإسلام العظيم الذي جاء به هذا النبي العظيم جاء في جوهره إسلاماً عربياً ، أي أنه أقام بناءه على أساسٍ من الشمائل والخصائص والمناقب التي عاشت عليها أمة العرب ، ولهذا كان من جواب النبي صلوات الله عليه وآله وسلم للذي سأله قال : عن معادن العرب تسألني ؟ فإن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا . أي إذا هم دخلوا في الإسلام وعرفوا حقائق دين الله تبارك وتعالى ومقررات شرعه . ولعل من يتمتع بذاكرة منكم يتذكر أنني أكّدت وقبل عدة سنوات أن هذه الرسالة اختيرت لها هذه الأمة عن حكمة وعن قصد مدبر على غاية ما يكون الإحكام ، فلو كانت هذه الرسالة من عند البشر وكان الذي يطب لأدواء الناس وأمراضهم واحد من بني جلدتهم لانصرف ذهنه بالرسالة إلى الأسدين : فارس أو الروم ، لأنهما الدولتان والأمتان والقوّتان الأكبر والأعظم في ذلك الزمان .

 لكن الذي أنزل الرسالة هو الله وليس واحداً من أساتذة علم الحضارات الذين ينظرون إلى الظواهر والقشور ، فصحيح أن فارس والروم كانتا أمتين قد استكملتا خصائص الأمة وخصائص الدولة وحصّلتا من العلوم والمعارف والفنون غاية ما وصل إليه الناس لعهدهم ، ولكن الرسالات لا تنظر إلى الظواهر ، ولكن تنظر إلى المقومات والخصائص وإلى الإمكانات والمواهب . فالله الذي أنزل الكتاب على نبيه الأمي العربي وأنزله على أمةٍ لم تستكمل خصائص الأمة ولم تستكمل مراحل الدولة أعلم بأن مسيرة الحضارة والشوط الحضاري الذي قطعته فارس والروم كان على حساب الخصائص الأساسية للشخصية الإنسانية الأصيل . فمئات السنين وألوف السنين مرت على الأسدين : فارس والروم ، ظواهر الحال تدل على أنهما قوتان مرهوبتان ، ولكن واقع الحال يكشف عن أن المجتمع الفارسي والمجتمع الروماني قد نخرهما السوس من الداخل ، أي أن اللبنات البشرية والعناصر الإنسانية قد تحطت بفعل الإذلال الطويل وبفعل القهر وبفعل كل ما تفرزه الدولة من ممارسات ضارة ومدمرة على أنبل وعلى أشرف وعلى أقوى الخصائص الإنسانية .

 من هنا كانت حكمة الله تبارك وتعالى أن لا يُنظر إلى الشوط الحضاري الذي قطعته أمةٌ ما ، لكن أن يُنظَر إلى الإمكانية وإلى الموهبة وإلى الخصائص الأصيلة القادرة على تحمّل رسالة بهذه الضخامة وبهذه العظمة . كل أمم الأرض لم تكن في المستوى الإنساني النبيل والشريف والعظيم والمؤهل الذي كانت عليه أمة العرب حين أُرسل فيها محمد صلى الله عليه وسلم ، بصرف النظر عن كل السلبيات التي ظهرت . لكنه يجب أن نعلم أن العرب بحكم معيشتهم في الصحراء لم يسبق أن سيطرت عليهم القوى العالمية ، بالتالي لم تذللهم ولم تنكس رؤوسهم ولم تحطم في داخلهم معاني الرجولة ومعاني الشهامة ومعاني الشرف ، وإنما بقي الإنسان العربي حتى وهو يعيش ضمن الرمال السافيات والرياح الهوج يشعر أنه يختصر كون الله بكامله ، يختصره في ذاته . من هنا فنحن نعثر في أدبيات الجاهلية على ما يكشف عن هذه الشخصية القوية المستوية الراكزة التي تشعر بوجودها وتشعر بأهميتها لم نجد أبداً في كل أدبيات الجاهلية أن الرئيس أو الملك من العرب كان يتذلل له الناس ، لم يخاطب بصاحب الجلالة ولا بصاحب السـيادة ، لم يخاطب بـ : يا سيدي ويا مولاي ، لأن الإنسان العربي حتى وهو في ذروة الفقر وفي ذروة الضعف وفي أحط الدرجات من الضعف والفقر كان يشعر أنه ند وكفؤ لأكبر رأسٍ في هذا الوجود ، لذلك كان الإنسان العربي ينادي الآخر باسمه مجرداً : يا فلان ، حتى وهو ملك حتى وهو شيخ قبيلة ، فإذا أراد أن يكرمه غاية التكريم قال له : يا أبا فلان . ولهذا نجد أن الوافدين على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الذين كانوا لا يعرفونه شخصياً ، يسألون : أيكم ابن عبد المطلب ، حتى ( رسول الله ) لم يكونوا يلفظون بها : أيكم ابن عبد المطلب ، فيقولون له : هو هذا .

 فالإنسان العربي بالجبلة التي جبل عليها ، بالتركيب الذي طُبع عليه ، بالمسيرة الحضارية والحياتية التي عاشها كان إنساناً ذا مواهب ، تتجلى فيه الفطرة البشرية التي فطر الله الناس عليها من شعور بالأهمية وشعور بالعزة وشعور بالكرامة وشعور بالقدرة على اجتراح العجائب وتحقيق المعجزات . فهذا هو الذي رشّح الأمة العربية من بين الأمم جميعاً لتكون حاملة آخر كلمات الله إلى الناس الذي هو هذا الإسلام . وغير خافٍ على أحد أننا نكلّف الناس شططاً حينما نريدهم أن ينسلخوا من جلودهم ، هذا غلط ، فحين تنزل الرسالة على العرب وبين العرب وبلسان العرب فمعنى ذلك بداهةً أنها تؤسَس وتقوم على الشمائل وعلى الخلائق المعروفة بين العرب .

 عند هذا الحد أُعرّج لأقول : هذه قضية على بساطتها وعلى أنها لا تحتاج إلى الكثير من النظر والمجهود والتحليل ساقطة من حساب الذين يدعون إلى القومية العربية . فالقومية العربية إما أنها دعوة ممسوخة ولابسة لباساً أمريكانياً ، أو ممسخوة ولابسة لباساً سوفيتياً ، أو هي بين بين ، لا تعرف لها لوناً ولا طعماً ولا رائحة . للأسف هذا غلط ، حتى بالنسبة للتيار القومي العلماني الذي أعتبره أنا معادلةً مستحيلة غير ممكنةٍ التحقيق في هذه الأمة ، أي أعتبره دعوة بلا مستقبل ، حتى بالنسبة إلى هؤلاء الناس فإنه ينبغي لهم أن يدركوا أن استحياء المعالم الشخصية للإنسان العربي لن يتم إلا في ضوء القرآن وفي ضوء الإسلام ، وبمقدار ما يبتعد هؤلاء الدعاة عن القرآن وعن الإسلام وعن هدي محمد صلى الله عليه وسلم يكونون في الصف المعادي للعرب وللقومية العربية بالذات . هذا أعتقد يكفي حالياً لأشير إلى مسألةٍ قلت إنها في غاية الأهمية ، لأنها تسمح لنا ولو على صعيد الفكر ، طبعاً مفاتيح الحياة الاجتماعية والسياسية ليست في أيدينا ، نحن نذكر ونتدارس مع الناس بأمل أن ينتبه أبناء هذا الجيل لكي يكونوا أكثر وعياً وأكثر حكمةً وأصح إدراكاً لما ينبغي أن يكونوا عليه .

 نعود الآن لنتذكّر هذه الخصائص التي تحدثنا عن قسمٍ منها في الماضي ، وسنتحدث عن الكثير منها مستقبلاً إن شاء الله إذا أحيانا الله وإياكم . ونذكّر قبل ذلك بأن هذه الخصائص بالذات هي محط الهجوم من قبل أعداء الله وأعداء الإنسانية ، لأن أمتنا حينما تتسلح بركائزها الخلقية الأساسية فلن يوجد بينها من يقبل الذل والضيم والاستعمار والغشم والعدوان على الحقوق . اليوم أحب أن أقف معكم عند خليقةٍ من خلائق الإسلام ، وكما قلت في الجمعة الماضية وأنا أتكلم عن فضيلة الصدق وخليقة الصدق ، أقول اليوم : إننا نعيش فقراً في المفاهيم ، فأن تقول : يجب أن يكون الإنسان صادقاً ، كلام يعتبر في مستوى البديهيات ، لكن عند التحليل رأيتم أن المسألة ليست بهذه البساطة . أريد اليوم أن أتحدث عن العدل مشيراً إلى ذات الملاحظة ، وهو أن العدل حينما يُذكر فهو مفهوم من المفاهيم التي لا تنتطح فيها عنزان ، لا يختلف عليها اثنان ، لكن المسألة أيضاً ليست بهذه البساطة . ولكي نصل إلى ما نريد أن نصل إليه ينبغي أن نعرف أن العدل مستويات ، فعدل مع الذات ، وعدل مع الآخرين على مستوى العلاقة الإنسانية العادية ، مستوى الحياة اليومية ، وعدل في الحكم والقضاء في مستوى السياسة وفي مستوى الفصل في الخصومات ، ولا يصح أن نلتمس العدل في القوانين إذا لم تكن أخلاقنا عادلة ، أخلاقنا الفردية الذاتية الشخصية عادلة ، ولا يصح أن نلتمس العدل في الحكم وفي السياسة إذا لم يكن حس العدل بيننا نامياً نشم رائحته ونتعرّف عليه بأيسر النظر وبالبديهة ، وهذا لا يكون إلا إذا تعلمنا تنمية حس العدل الذاتي ، العدل مع الذات . وقبل ذلك يجب أن نذكّر أن العدل أساس كل شيء ، فبالعدل قامت السماوات والأرض ، والعدل كما تعلمون هو التقدير المضبوط الصحيح ، ولو تصورتَ هذا الكون مختل النسب فينبغي لك أن تعلم أن الكون سيتحطم قطعاً ، لكن الكون بنظامه البديع هذا وباستمراريته الدائمة هو كذلك لأنه قائم على العدل في توزيع النسب ، فلمَِ نذهب إلى هذا ؟ ولِمَ لا ننظر إلى ما قال الله من سورة آل عمران ( شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط ) والقسط هو العدل . عندنا في القرآن الكريم لهذه المادة استعملان : القسط ومنه قول الله تبارك وتعالى ( إن الله يحب المقسطين ) فالقسط هو العدل ، والمقسطون هم العادلون ، وعندنا استعمال آخر وهو ما قال الله جلّ وعلا ( وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطباً ) والقاسطون هم الظالمون والجائرون ، فبين القاسطون والمقسطين فرق ما بين السماء والأرض ، وهذا من عجيب تصرف هذا اللسان بحقائق اللغة .

 فحين يقول الله جلّ وعلا ( قائماً بالقسط ) فإنما يصف ذاته الكريمة تبارك وتقدس بالعدل ، فالله جلّ وعلا وصف نفسه بالعدل ، وحين ينبغي للمسلم أن يكون عادلاً إذ قال رسول الله : تخلقوا بأخلاق الله . ومن أخلاق الله أنه عادل ، فعلى المسلم أن يكون عادلاً تنفيذاً لوصاة رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولا يُقال عن الله جلّ وعلا واتصافه بالعدل يُقال عن النبي الكريم صلى الله الله عليه وسلم ، والله جلّ وعلا يترجم في القرآن الكريم على لسان نبيه المعظم ( وأُمرت لأعدل بينكم ) فالله جلّ وعلا موصوف بالعدل ، والرسول عليه الصلاة والسلام موصوف بالعدل ، وجوهر الرسالة على محمد ومن سبقه من النبيين والمرسلين عليهم الصلاة والسلام كذلك جوهر الرسالة موصوف بالعدل ( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقـوم الناس ) بماذا ؟ ( بالقسـط ) يعنـي بالعدل ( ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس ) فأنتم ترون أن الله جلّ وعلا وصف ذاته الكريمة بالعدل ، ووصف نبيه الكريم بالعدل ، ووصف رسالة محمد ورسالة الأنبياء جميعاً بماذا ؟ بالعدل . وكذلك وصف هذه الأمة بأنها أمة العدل ، ولذلك يقول الله جلّ وعلا ( لتكونوا شهداء على الناس ) والشهداء على الناس لا يكونون إلا إذا كانوا عدولاً مرضين ثقات . فانظر هذا التنسيق البديع ، رب هو غاية العدالة ، ورسول هو مثال العدالة ، ورسالة هي مثال العدالة ، وأمة تدعو إلى الخير والعدل والحق والقسط ، كيف تأخذ هذه الأمور بعضها في رقاب بعض لتنتج أمةً ولا مثلها على الدنيا ولم يرى التاريخ لها ضريباً ولا مثيلاً ، رأيتم كيف رتبت هذه الأمور هكذا .

 نعود الآن بعد أن شرحنا إطار المسألة نعود إلى الجوهر . من دعاء النبي صلى الله عليه وسـلم كان يقول : اللهم إني أسألك كلمة العدل في الرضى والغضب . ونحن نقرأ في القرآن الكريم كلاماً يشير إلى أن الإنسان يظلم نفسه ، كيف يُتصور أن يظلم الإنسان نفسه ؟ حينما يضع الإنسان نفسه في طريقٍ غير منتج فقد ظلم نفسه ، حينما يرضى الإنسان لنفسه أن يقف مع الباطل يكون قد ظلم نفسه . كيف يكون عادلاً مع الذات ؟ بوفائه والتزاماته أمام الله تبارك وتعالى . إذاً وبكل اختصار وبكل بساطة لا يمكن أن يُتصور وجود عدل خارج إطار الشريعة الإسلامية ، لا يمكن ، بدون دول في تفصيلات ربما تعنو على بعض الأذهان أحب أن ألفت النظر إلى الواقع المعاش وبغير حاجةٍ إلى إثارة حساسيات ، دعونا ننظر إلى غيرنا ، البعض يريد أن يتصورنا فوق النقد وفوق التجريح وفوق التشكيك ، دعوهم وما يريدون ، دعونا نظر برا .

 في أدبيات العصر الحاضر تسمع كلاماً يقال عن القوانين البورجوازية وعن العدالة الرأسمالية ، وتسمع كلاماً يقال عن القوانين الماركسية والعدالة الشيوعية أو الاشتراكية ، وتسمع كلاماً يقال عن أخلاق رأسمالية ، وكلاماً يقال عن أخلاق ماركسية أو شيوعية أو اشتراكية ، تراشق التهم وتبادل الهجوم مستمر بين هذه الأطراف ، الشيوعيون يتهمون المعسكر الرأسمالي بالظلم والجور والعدوان على الحقوق ، نفس المقالة يقولها الرأسماليون عن الشيوعيين ، فإذا درسنا الأمر دراسة مستوعبة نخرج بنتيجة : صحيح إن المعسكر الرأسمالي يشكو من وجود ظلم ، هذا كلام لا غبار عليه ، لأنه في الواقع يحابي أصحاب رؤوس الأموال ، لكن صحيح أيضاً أن المعسكر الماركسي والشيوعي والاشتراكي يشكو من ظلم لأنه يحابي ما يسميه بالطبقات الفقيرة والمسحوقة . فهذا يُسقط من منظوره جانباً من البشرية ، وهذا يسقط من منظوره واهتمامه جانباً من البشرية . هل نستطيع أن نوافق على هذه النظرة أو على هذه النظرة ؟ قبل الجواب وبغير حاجةٍ إلى الجواب نستفتي القرآن الكريم لكي نقطع الألسنة ، نحن لا نريد أن ندخل في حوار ولا في نقاش مع الجهلة ، لا لا ، هذا ليس عملنا على الإطلاق ، نستفتي القرآن الكريم ، إن الله جلّ وعلا يقول فيما تقرأون من قرآنكم الذي أُنزل على نبيكم والذي تقرأونه في صلواتكم والذي تتعبدون به ربكم ، ماذا يقول ؟ ( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط ) يعني قوامين بالعدل ( شهداء لله ) أي أن الشهاءة لا تكون لزيد أو لعمرو ، لوضعه أو لوضع هذا ، وإنما لله ( ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنياً ) لاحظوا ( إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما ) يعني الله أولى بالغني وأولى بالفقير ولا علاقة للغنى والفقر بموضوعة العدل ومفهوم العدل ( فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً ) هذا الكلام تقرأونه في القرآن الكريم في سورة النساء ، لمن لا يعرف أين مكان الآية ، فإذاً نحن في غير حاجة إلى أن ندخل في نقاشٍ مع الجهلة ومع المخرفين ، لا ، إنما نحن نقرأ عليكم ما قال الله لكي تعرفوا شمولية العدل في نظر الإسلام العظيم ، فالعدل في الإسلام مفهوم لا ينتمي إلى الواقع البشري أي لا ينبع منه ولا يتكيف به ، لا ، وإنما مفهوم ينتمي إلى جوهر الرسالة ليُكيّف ويغير الواقع البشري ، أي على عكس ما في أذهان الناس من مسألة العدالة ومسألة القوانين عموماً . فعندنا عنصران ، عنصر ثابت هو مفاهيم الشريعة ، وعنصر متغير متبدل هو الوضع البشري ، الشريعة يجب ألا تتكيّف وفقاً لأهواء الناس وما يرغب به الناس وما يميل إليه الناس ، لكن الناس هم الذين يجب أن يتكيفوا وفاقاً لما تريد الشريعة ، وخارج هذا الإطار لا يمكن أن يتحقق شيء من العدل لا قليل ولا كثير .

 هذا الخلق العالي من الإحساس بضرورة العدل بين الناس ، مع الولي ومع العدو ، مع القريب ومع البعيد ، مع الأب ومع الولد ، ومع البعيد أيضاً ، هو الذي تربى عليه المسلمون . ومما يلفت النظر يا إخوة أننا نقرأ في القرآن الكريم تعقيبات على حال المسلمين الأوائل ، فالمسلمون حين جهر النبي عليه الصلاة والسـلام في الدعوة في مكة تعرفون ماذا لقي من الأذى هو وأصحابه رضي عنهم ، كم من البلاء صُبّ عليهم ؟ تعرفون بالتالي أنهم اضُطروا إلى أن يهجروا الوطن ويهجروا البلد ويتركوا دورهم ويتركوا أثاثهم ويتركوا أموالهم ، فراراً بدينهم إلـى الله تبارك وتعالى . أي إحساس بالظلم يشعر به الإنسان في هذه الحالة ؟ شيء كبير ورهيب ، حينما فتح المسلمون مكة تصوّر ناس من المسلمين أنه بعد أن قُطعت شوكة الشرك وتحطمت رؤوس المشركين فإن لهم أن يطلقوا أيديهم للانتقام ، لكن الله كان من وراء ذلك ، فكانت تعاليم القرآن تقود المسلمين على ضد مما يرغبون ، على الضد من أهوائهم وجنوحهم وميلهم ، فكان الله يقول لهم ( ولا يجرمنّكم شنآن قومٍ أن صدوكم عن المسجد الحرام على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوني يا أولي الألباب ) أي لا يحملكم صد المشركين إياكم عن المسجد الحرام وإخراجكم من بلادكم ، لا يحملكم هذا على أن تتجاوزا قانون العدل ( اعدلوا هو أقرب للتقوى ) فخلق العدل الذي جُبل عليه محمد صلى الله عليه وسلم وربى عليه المسلمين كان من وراء انتصارات المسلمين على أنفسهم حتى تكملت وتشذبت وتهذبت ، وعلى الأعداء ، لأن الأمر من حيث النتيجة أصبح معسكر إنساني كامل مكمل ، ومعسكر إنساني يشكو من صنوف المظالم وصنوف الإرهاطات . فإذاً الغلبة لا تكون في العادة وفي مجال تقادير الله جلّ وعلا إلا للصح ، الباطل محكوم عليه بالفشل ، محكوم عليه بأن ينتهي .

 هذه الخلال العالية ليست شيئأ كما قلنا سهلاً ، إنها حصيلة التربية الطويلة وحصيلة المعاناة ، حصيلة التعب على الذات ، حصيلة المراقبة الصارمة للنفس في أدق دقائقها وأخفى خفاياها ، كان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم بين المسلمين مالاً ، إن لم تخنِّ الذاكرة كان ذلك في غزوة حنين ، فقام رجل لعله أن يكون ذا الخويصرة التميمي ، فقال : اعدل يا محمد فإنك لم تعدل .التفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال : ويحك ومن يعدل إن لم أعدل ، لقد خبتَ وخسرتَ إن لم أعدل . لقد خبت أي أنت الذي تقول لي : اعدل ، لقد خبت وخسرت إن لم أعدل ، لماذا خاب ولماذا خسـر هذا الإنسان إذا لم يعدل محمد صلى الله عليه وسلم ؟ ليس في الدنيا من هو أخسر صفقة من إنسانٍ يتبع الظلم ويتبع الجور ، فإذا كان للخويصرة يعتقد أن محمداً صلى الله عليه وسلم نبي مرسل من عند الله بالشريعة التي هي رحمة كلها وهي عدل كلها وهي حق كلها ، فغير جائزٍ بتاتاً أن يُتهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتجنب جادة العدل ، وحاول بعض الأصحاب أن يفتك بهذا الرجل ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : دعوه ، فإنه سيخرج من ضئضئ هذا ـ وضئضئ الرجل هو فقار ظهره ـ سيخرج من ضئضئ هذا أقوام تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم وصيامكم إلى صيامهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة . وبالفعل تسلسل في المجتمع المسلم أناس يدعون زوراً أنهم مسلمون ، ينتمون بهتاناً إلى هذه الأمة وإلى هذه الشريعة ، ولكنهم يخرجون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، لأي سبب ؟ لأنهم يلتمسون العدل في غير حقائق الشرع ، يلتمسون العدل في غير حقائق الشرع ، لقد سبق أن قلنا إن الله جلّ وعلا وصف شريعته المنزلة على الأنبياء جميعاً والتي توّجت بالإسلام المنزل على خاتم الرسل محمد عليه السلام بأنها عدل كلها كما تلونا عليكم في الآيات التي مرت ، ولهذا نجد الله جلّ وعلا يدمغ المعاندين والمعرضين في سورة المائدة ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسـقون ) ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ) ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) وكل ذلك للتشبيه وللتأكيد على أن معاني المعدلة يجب أن تلتمس ضمن إطار الشريعة لا خارج إطار الشريعة . وبهذا تستطيع أن تسحب القناع الآن عن كثيرٍ من الوجوه الكالحة الشائهة التي تدعي أنها وجوه مسلمة وهي ليست من الإسلام في شيء .

 أزيدكم ؟ دعوني أزيدكم أيضاً ، في سورة النساء يقص الله جلّ وعلا نبأ أقوام حالهم قريب من حالنا ، يعني أنهم مرشّين ، إيد بالشمال وإيد بالجنوب ، ما يعرفوا يحطوا رجليهم ، يذكر أنهم ( إذا قيل لهم تعالوا إلى الله وإلى الرسول ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون ) أي يصدون عن الحكم الذي هو حكم الله وحكم الرسول عليه السلام ، بمَ يصفهم الله جلّ وعلا ؟ يقول الله ( أفي قلوبهم مرض ) ومن هم الذين في قلوبهم مرض ؟ أليسوا هم المنافقين ؟ في فواتح سورة البقرة ماذا قال الله عن المنافقين ؟ قال ( في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون ) فحين يقول ( أفي قلوبهم مرض ) فإنما يردهم إلى مستنقع النفاق ( أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا ) أي تشككوا في أحقية الدين ( أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله ) أي هل يخافون أن يظلمهم الله أو يظلمهم الرسول صلى الله عليه وسلم ؟ ( بل أولئك هم الظالمون ) ختام الآية ينزع عنهم صفة الإيمان بصورة كاملة .

 من هؤلاء ؟ هم الذين ( إذا دُعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون ) وهؤلاء المعرضون ليسوا مؤمنين كما ترون وكما سمعتم بآذانكم ما يقول الله ، لا أنا أقول ولا غيري ، يقول الله جلّ وعلا هو الذي يقول ، ثم يعقب على ذلك جلّ شأنه بالسورة ذاتها وبعد هذه الآية ( إنما كان قول المؤمنين إذا دُعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا ) هذان صنفان من الناس ، مؤمنون يلتمسون العدل والحق ضمن إطار الشريعة ، ومنافقون خائبون يلتمسون الحق والعدل خارج إطار الشريعة . فالإنسان المسلم لا يصح أن يكون عادلاً مع ذاته ، عادلاً مع غيره ، برغم الأهواء ، أب أخ قريب صديق عدو ولي كل هذا لا يهم ، المهم هو تحقيق العدالة .

 من آخر الأحداث في حياة النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي توفي فيه صلوات الله عليه ، وأنا أروي لكم هذه الحادثة لأبين لكم مدى حرص النبي صلى الله عليه وسلم على نمو حاسة العدل ، خرج النبي صلى الله عليه وسلم عاصباً رأسه حتى صعد المنبر وهو يشكو من مرض الوفاة ، وخاطب المسلمين قال لهم : أيها الناس إنه قد دنى من خفوق من بين أظهركم . أي دنى الموت ، فمن كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليستقد منه ؟ ومن كنت أخذت له مالاً فهذا مالي فليستقد منه ؟ ومن كنت شتمت له عِرضاً فهذا عرضي فليستقد منه ؟ وأحلوني ، يعني سامحوني ، فإني أحب أن ألقى ربي بنفس ٍ راضية . آخر شيء تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم على الملأ ، يخشى أن يكون صلوات الله عليه قد جنحت به نفسه من حيث لا يشعر باتجاه الظلم والجور ، في المال في الكلام في الضرب ، ولذلك يريد من المسلمين أن يقتصوا منه . على هذه الأخلاق عاش المسلمون ، ونحن نجد أن حاسة العدل قد تخطت كل الاعتبارت في تاريخ المسلمين ، في زمن عمر أسلم جبلة بن أيهم ملك غسان ، وغسان قبائل عربية تسكن شمال الحجاز وجنوب مدينة دمشق ، ملوك الشام آل جفنة ، المقصودون من الشعراء والذين كانوا يُعتبرون من أقوى وأعرق القبائل العربية ، جاء جبلة ملكهم فأسلم في زمن عمر ، وذات يوم وهو يطوف في الكعبة داس أعرابي من بني فزارة على ردائه ، فانحلّ رداؤه ، فلطمه جبل فهشم أنفه . وهذا تصوّر ملوكي ، يعني أن الملوك يرون فيها تشريفاً للرعية هذ اللطمة ، لكن هذا الفزاري تلميذ محمد وليس خريج المدارس السياسية العفنة التي تسود اليوم ، لا ، هذا خريج مدرسة محمد ....

 ................. انقطع الشريط .....................

ولكن وصلت الخطبة إلى النهاية.