تفسير سورة النساء 5

العلامة محمود مشّوح

تفسير سورة النساء

19 / 5 / 1978

(5)

العلامة محمود مشّوح

 (أبو طريف)

       بسم الله الرحمن الرحيم

       الحمد لله رب العالمين ، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد :  

       فقد تحدثنا فيما مضى عن قول الله تعالى في أول سورة النساء ( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً ، وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنـه كان حوباً كبيراً ) فهاتان الآيتان الكريمتان فمضى الحديث عنهما بحمد الله ، ونأخذ بالحديث عما يلي من قول الله جل وعلا ( وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا ، وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً ) فنقول مستعينين بالله جل وعلا :

       أما قوله الله تعالى ( فإن خفتكم ألا تقسطوا في اليتامى ) فذلك الخوف المشار إليه بالآية الكريمة مبناه على غلبة الظن ، فمن غلب على ظنه أنه لن يعدل في شأن اليتيمة التي في حجره فليبتغِ الطيب الحلال من النساء مما سوى هذه اليتيمة مثنى وثلاث ورباع . لأن معنى قوله تعالى ( فإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى ) إن خفتم أن لا تعدلوا في أمر اليتامى ، لأن القسط هو العدل ، قال الله تعالى ( شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط ) يعني بالعدل ، وخيرما يوضح المراد بالقسط في اليتامى هنا هو ما جاء في حديث عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها قالت حين سألها عروة عن معنى هذه الآية قالت : هي اليتيمة تكون في حجر وليها ـ يعني الوصي عليها ـ وتكون ذات مال ، فيرغب في مالها ، ويرغب ألا يذهب مالها للأزواج ، فلا يعطيها سنتها في الصداق يعني المبلغ المتعارف عليه في المهر . لأن للنساء مهوراً معروفة ، وقد رُوي عن الإمام مالك إمام دار الهجرة رضي الله عنه أنه قال : للناس مناكح وأكفاء معروفة . فاليتيمة التي تكون تحت وصاية قيّم عليها ، وتكون ذات مال ، ويطمع القيّم والوصي في مالها ، ويخشى أن يذهب ذلك منه إلى الأزواج ، كان هذا الوصي في الجاهلية لا يأذن لليتيمة أن تتزوج مَن تشاء ، فيلغي إرادتها ويهدر رغبتها ويجبرها على أن تتزوج منه ، ولكنه لا يبلغ به سنتها في الصداق ، يعني لا يعطيها مهر أمثالها من النساء ، وإنما ينزل بها عن ذلك كثيراً أو قليلا .

       فالله جلّ وعلا ينهى الأوصياء عن ذلك ، لينزه العلاقة الزوجية عن شوائب الطمع وعلائق المادة المقيتة ، فيوجه أنظار الأوصياء توجيهاً حكيماً ، ولكن في نفس الوقت هو توجيه شديد الدلالة ، فالله  جلّ وعلا بعد أن يقول ( وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى ) يقول ( فانكحوا ما طاب لكم من النساء ) لاحظوا ( ما طاب لكم من النساء ) ومن قبل تكلمنا عن معنى الطيب من النساء ومن الرزق ومن الأخلاق ، وقلنا إن الطيب في غالب استعمالات الشريعة هو الحلال ، وقلنا إن دلائل ذلك في الكتاب والسنة كثيرة ، فحين يقول الله تعالى ( فانكحوا ما طاب لكم من النساء ) بعد قوله تعالى ( وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى ) فكأن الذي يستقر في الذهن أن إجبار اليتيمة على أن تتزوج من وصيها بمهر هو أدنى من مهر أمثالها من نسائها ليخرجوا هذه العلاقة عن أن تكون علاقةً طيبة ويلحقها بالعلاقة الخبيثة ، لأن فيها معنى من معنى الإكراه ومعنى زائداً على معنى الإكراه وهو الطمع والجشع في نفس الوصي وفي نفس الولي . فالله تعالى يوجه هؤلاء الناس إلى شعور بالمقت والتقزز من علاقة زوجية مبنية على الشره والطمع ، وعلاقة زوجية ليست مبنية على الرغبة وعلى التفاؤل .

       ( وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء ) أي اتركوا التزوج باليتيمة التي هي في حجركم وتحت وصايتكم وابتغوا غيرها من حلائل النساء ، لأن الطيب هو الحلال .

       ( فانكحوا ما طاب لكم من النساء ) أي أن في النساء غير اليتيمة غنى عن هذه اليتيمة ، ثم يرّغب الرجال كي يوّجه عواطفهم ورغباتهم بعيداً عن الشره والطمع في أموال اليتامى يقول ( مثنى وثلاث ورباع ) في هذا اللفظ معنى لا بد من عرضه ، وإن كنت لا أحب أن ألجأ إلى تقرير بعض القضايا النحوية أو اللغوية المعمقة ، لكن هنا لا بد من الخوض بصورة موجزة عن هذه الصيغة . فقوله تعالى ( مثنى وثلاثاً ورباع ) الخطأ في فهم هذه الصيغة أدى ببعض الطوائف من المسلمين إلى خطأ في تقرير القاعدة الشرعية ، وبالرغم أن من المعروف أن ما أُبيح للرجال في الزواج حداً أقصى هو أربعة ، لا يجوز الجمع بين أكثر منهن ، فإن بعض طوائف المسلمين أخطأ في مفهوم المدلول اللغوي ، ومن حيث الأساس فقولنا : مثنى تفيد اثنين اثنين ، وثلاث تفيد ثلاثاً ثلاث ، ورباع تفيد أربعاً أربعاً ، هذا من حيث المدلول اللغوي ، لكن الخطأ في فهم المدلول جر إلى فهوم غريبة جداً ، فالرافضة من الشيعة تقول بأنه مباح للرجل أن يجمع بين تسع نساء ، ويستدلون بذلك بأن النبي تُوفي عن تسع نساءٍ جمع بينهن في حياته ، ويستدلون في ذلك أيضاً بهذه الآية الكريمة ( فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ) أن استدلالهم بأن النبي عليه الصلاة والسلام توفي عن تسع جمع بينهن ، فهو غفلة عظيمة عن واقع أن هذا من خصائص النبي عليه الصلاة والسلام المبين في القرآن الكريم ( يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن ) وقصرَه الله تعالى عليهن ولم يُجز له أن يتزوج بعدهن أبداً ، فقال ( لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تتبدل بهن من أزواج وإن أعجبك حسنهن ) فهذا الجمع من خصائص النبي عليه الصلاة والسلام .

       وما كان من الخصائص اللغوية فلا ينسحب على آحاد الأمة ، ولا يجوز البناء عليه ولا القياس عليه . وأما استدلالهم بالآية فكما قلنا خطأ في فهم الوضع اللغوي لهذا البناء ، لماذا ؟ لأن قولنا : مثنى ، لا يحمل تماماً معنى اثنين ، وقولنا ثلاث ، لا يحمل تماماً معنى ثلاثة ، وكذلك قولنا رباع ، لا يحمل تماماً معنى قولنا أربعة . هذا من البناء الذي يسمى المعدول ، من الأعداد المعدولة عن الأصل الوضعي في اللغة ، لأن الأصل : اثنين ، فعُدل بها عن الأصل إلى هذا البناء وهو ( مثنى وثلاث ورباع ) وسوف نبين لكم عما قليل فرق ما بين اللفظ الأصلي واللفظ المعدول به .

       فالرافضة حين قالوا : يجوز للرجل أن يجمع بين تسع نساء ، مستميلين إلى هذه الآية قالوا : إن الله قال ( مثنى وثلاث ورباع ) وعطف بينها بالواو ( مثنى وثلاث ورباع ) فحاصل جمع اثنين وثلاث وأربع يساوي تسعة ، بناءً عليه يجوز للرجل أن يجمع بين تسع نساء وفاقاً لنص الآية الكريمة ، وهذا خطأ .

       خطأ آخر ناتج عن سـوء الفهم للوضع اللغوي ، إن بعض فقهاء الظاهر قالوا : إن مثنى ليست في معنى اثنين ، ولكنها في معنى اثنين اثنين ، تقول : جاءني القوم مثنى ، أي جاؤوني اثنين اثنين ، فبناءً على هذا قالوا : يجوز للرجل أن يتزوج ـ وفاقاً لنص الآية ـ مثنى أي اثنين اثنين ، وثلاث أي ثلاث ثلاث ، ورباع أي أربع أربع ، المجموع ثمانية عشر ، هذا طبعاً ناتج عن سوء الفهم للوضع اللغوي . أكثر من ذلك كيف يُخرج الإنسان سوء فهمه للوضع اللغوي إلى تقرير قواعد في الشريعة ما أنزل الله بها من سلطان ، بعض فقهاء الظاهرية يقولون : إن الرجل إذا تزوج واحدة كان بها ، لكنه إذا اراد أن يتزوج ثانية لا يجوز له إلا أن يتزوج اثنتين بعقدين في مجلس واحد ، لأن الله قال اثنين ، إذا أراد أن يثلث في مجلس واحد بعقود ثلاثة ، يعني الإنسان يدخل في آن واحد على زوجتين أو على ثلاث زوجات أو على أربع زوجات ، وهذا كله ناتج عن سوء الفهم للوضع اللغوي .

       ما هو الفرق بين العدد المعتاد الآتي على الطريقة العربية المعتادة وبين العدد المعدول كما جاء في الآية الكريمة ( مثنى وثلاث ورباع ) ؟ الفرق يتضح بالمثال التالي : لو تصورنا أن الله جلّ وعلا قال ـ ولله المثل الأعلى ـ : فانكحوا ما طاب لكم من النساء اثنين وثلاثة وأربعة . فالذي يتبادر إلى الذهن بسبب وجود واو العطف بين ألفاظ العدد هو الجمع بين حاصل العدد اثنين وثلاث وأربعة تسعة ، وهذا وهم دلت السنة وحقيقة اللغة على رده ، ومضى عهد الصحابة والتابعين وسلف الأمة رضي الله عنهم ولم يؤثر ولم يُنقل إلينا عن أحد منهم أنه جمع بين أكثر من أربع نساء في عصمته بآنٍ واحد .

       من ناحية أخرى قولنا : جاءني القوم اثنين وثلاثة وأربعة .. ماذا تفهم من هذا الكلام ؟ تفهم من هذا الكلام أن مجموع القوم الذين جاؤوك هم حاصل جمع هذا العدد ، فالقوم هم اثنين وثلاثة وأربعة يعني تسعة ، فالمجيء باللفظ على الأساس اللغوي على وضعه اللغوي الأصلي يعطي للعدد حداً محدوداً ، فالقوم الذين جاؤوك هم هذا المجموع لا أكثر ، لكن حينما تقول : جاءني القوم مثنى وثلاث ورباع ، فما الذي حددته ؟ حددت وضعية القوم أثناء المجيء فقط ولم تحدد العدد ، قد يكون العدد الذي جاءك ألفاً أو عشرة آلاف ، لكنه بقولك : جاءوني مثنى ، تدل على أنه جاؤوك اثنين وراء اثنين ، رتباً مشكلاً من اثنين فاثنين وهكذا ، وقد يكونون ألفاً وقد يكونون عشرة آلاف وقد يكونون مليوناً أو أكثر . فالعدد غير محصور ، بينما في الوضع اللغوي الأصلي العدد محصور .

       وظيفة العدل هي أن لا تحصر العدد ولكنها تحصر الهيئة والكيفية ، فحينما تقول : جاءوني مثنى ، أنت دللتَ على كيفية المجيء ، أنهم جاؤوك اثنين اثنين .  حينما تقول : جاءوني ثلاث ، تدل علـى أنهم جاؤوك ثلاثة بعد ثلاثة ، حينما تقول : جاءوني رباع ، تدل على أنهم جاؤوك أربعة بعد أربعة ،  أما نهاية العدد فهي غير محصورة أي مسكوتاً عنها .

       فهذا أحد الفوارق بين العدد المعدول والعدد العادي ، لماذا لجأت الآية الكريمة هنا إلى استعمال صيغة وبناء العدد المعدول ؟ لجأت لأنه لا مجال لحصر العدد لاستحالة حصر الرجال المتزوجين ، فالناس الذين يتزوجون عدد غير محصور ، فلا سبيل إلى حصر العدد من الرجال المتزوجين بالنساء ، لكن هناك سبيل ـ وهو المراد ـ بحصر الهيئة والكيفية التي يتزوج عليها كل راغب في الزواج ، وهي تحديدها في أن تكون اثنين أو ثلاثة أو أربعة ، وهذا هو ما يؤديه استعمال صيغة العدد المعدول ، فهذا هو الفارق بين العدد المعدول والعدد الذي يأتي على بنائه الأصلي .

       ( فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا ) إذا غلب على ظنكم أنكم سوف تقعون في الجور والظلم وترك العدل وعدم الخشية من الله سبحانه وتعالى في العلاقة الزوجية ( فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ) أو هنا ليست عاطفة على واحدة ، وإنما عاطفة على أصل الزواج ( انكحوا ما طاب لكم من النساء ) إما نسـاء حرائر ، اثنين وثلاثة وأربعة ( وإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة ) هنا انتهى الكلام الذي يتحدث عن العدل ( أو ما ملكت أيمانكم ) فنكاح الرجل لما ملكت الأيمان مطلق غير مقيد بعدد محصور كما سوف يأتي إن شاء الله تعالى .

       بعض الناس من العلماء المعاصرين والمحدثين ممن تأثروا بالهجمة التبشيرية النصرانية التي شُنت على الإسلام منذ مطالع هذا القرن ، وللأسف بينهم علماء مشهود لهم بالعلم والكفاءة ويتمتعون بشهرة عالية بين الناس ، يرون أن الله سبحانه وتعالى لم يأذن للمسلم أن يتزوج بأكثر من واحدة ؟ ما الدليل على ذلك ؟ قالوا : الدليل على ذلك أن الله بعد أن بيّن جواز الزواج بأربعة قيّد ذلك بشرط العدل وقال ( وإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة ) ثم علق هذا الشيء أي هذه الإباحة على شرط مستحيل ، لأن الله قال في السورة نفسها بعد عدد من الآيات كما سوف يأتيكم ( ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم ) فالله جلّ وعلا ينفي عن قدرة الإنسان إمكانية تحقيق العدل بين النساء ، فإذا قال الله : إنكم لن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم عن تحقيق ذلك ، وقال بأنه يأذن لنا بأن نتزوج ما طاب لنا من النساء مثنى وثلث ورباع إلا إذا خفنا عدم العدل فحينئذٍ يقتضي الاقتصار على واحدة ، فالله جلّ وعلا أذن وفاقاً أو تعليقاً على شرط مستحيل الوقوع وهو العدل بشـهادة نص القرآن لقوله ( ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم ) المؤسف أن هذا الكلام يدل ـ لا على سوء فهم فسبيل الفهم ميسور ـ لكن يدل على هزيمة عقلية وروحية في ذات القائلين بهذا الكلام ، إنهم يريدون مجاراة التيار العام ، ويريدون أن يتفادوا بتصاورهم أمام الهجمة التبشيرية الطعن بالإسلام ، ويسـيئون إلى الإسلام والقرآن من حيث يريدون أن يحسنوا للدفاع عنه ، لأننا حين نقول : إن الله أذن لنا بأن نتزوج أربعاً ، ولكنه قال لنا إن ذلك مشروط بالعدل ثم بيّن لنا أن ذلك مستحيل فما مؤدى هذا الكلام ؟ مؤدى هذا الكلام أن القائل عابث غير جاد وهازل ، ما معنى أن أبيح لك الشيء ثم أعلق هذه الإباحة على شرط مستحيل الموقوع ؟ ما معنى ذلك ؟ معنى ذلك أن القائل لا يعلم ما يقول ـ تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً ـ . وهذا كلام عربي مبين واضح ، أذن الله بالزواج من أربع ، وحضّ على العدل ، وبيّن أن العدل المستحيل في الآية الأخرى غير العدل القاهر الأمور به هنا ، فالعدل هنا بين النسـاء عدل في البيتوتة ، أن تبيت عند هذه ليلة وعند هذه ليلة وعند هذه ليلة وعند هذه ليلة بلا مجاملة ولا محاباة ، العدل المقصود هنا هو العدل في الطعام والشراب والكساء ، العدل المقصود هنا هو العدل بالرعاية والمعاملة الظاهرة ، أما العدل المراد بقول الله ( ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم ) فهو عدل القلب ، في الميل ، لأن هذا شيء لا يتحكم فيه إلا الله سبحانه وتعالى بأن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء ، وأزواج النبي عليه الصلاة والسلام يعرفن أنه كان يحب عائشة رضي الله عنها أكثر من سائرهن ، وأصحاب النبي عليه الصلاة والسلام جميعاً يعرفوا أن عائشة رضي الله عنها أحب وآثر أزواج النبي عليه والسلام إلى نفس النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يقل أحد من الناس أن النبي عليه الصلاة والسلام بميله إلى عائشة أكثر من سواها من نسائه كان ظالماً وكان قاسطاً ، تنزه شخصه الكريم عليه الصلاة والسلام عن ذلك ، لكنه كان يقسم بعدل ، وكان إذا سافر سفراً يقرع بين نسائه ، فأيتهن خرجت القرعة لها خرجت معه في السفر ، وكان يطعمهن على سواء ، ويلبسهن على سواء ، لا يفرق بين إحداهن على الأخرى ، ولا يفاضل بينهن على الإطلاق ، وتمتعن ببشاشته وبره وبره على قدر المساواة ، لا تزيد الواحدة عن الأخرى ثوباً ولا كفاً الطعام ، أما بالنسبة للميل القلبي فهواه بالنسبة لعائشة أكثر من غيره .

       وكان عليه الصلاة والسلام يدرك هذا من نفسه الشريفة حق الإدراك ، ويقول : اللهم إن هذا قسمي ـ يعني قدرتي وحظي ونصيبي ـ فيما أملك ـ الذي أملكه هو المعاملة الظاهرة أن أعدل فيها ـ فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك . ميل القلب تملكه أنت ولا أملكه أنا . فالنبي عليه الصلاة والسلام بيّن بسلوكه وبفعله وبقوله المراد بقول الله جلّ وعلا ( ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم ) فلم يبقَ لهؤلاء القائلين بأن الإسلام لا يجيز الزواج بأكثر من واحدة أي متكأ يتكؤون عليه .

       ذيول الآية طويلة وبقياها التي تستدعي الكلام تتقاضان أن نرجئ الحديث عن بقيتها إلى الجمعة القادمة إذا أحيانا الله وأحياكم ، وسأقتصر على ذلك راجياً من الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا جميعاً فهماً في كتابه ولسنة نبيه وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين والحمد لله رب العالمين.