تفسير سورة النجم(4)

العلامة محمود مشّوح

تفسير سورة النجم

الجمعة 22 صفر 1397 / 11 شباط 1977

( 4 ـ 5 )

العلامة محمود مشّوح

 (أبو طريف)

       إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ، أما بعد أيها الإخوة المؤمنون :

لعل اليوم نستطيع أن ننهي الكلام عن سورة النجم ، ولولا أن مشكلة من المشكلات استغرقت جانباً من هذه الأحاديث لكان منظوراً للكلام على السورة أن ينجز قبل اليوم ، ولكننا اغتنمنا الفرصة ونحن عازمون على أن لا نفرط إن شاء الله تعالى في فرص من هذا القبيل لكي نتعاون على الوصول إلى فهم أفضل لكتاب الله تعالى .

       كان مما شغلنا به أنفسنا في الجمعة الماضية عود على فاتحة السورة الكريمة ، ولقد صرفنا في هذا مجهوداً ما أدري هل وُفقنا فيه أم لم نوفق ؟ لكنه على أي حال هو الذي استيسر من القول ومن الفهم جميعاً .

       لقد كنا تحدثنا قبل الجمعة الماضية عن فاتحة السورة ، ثم أدرنا الحديث عن الفاتحة بالذات من زاوية جديدة وفي ضوء جديد ، وغرضنا الأساسي أن نلفت قارئ القرآن إلى حقيقة جوهرية وهي أن هذه السورة الذي يضعها بين يديه شيء كامل له صفات وخصائص الكائن الحي الذي يرفض البتر والتجزئة ، وإذا أُريد إليه أن يُنظر إليه بصحة فينبغي أن يُنظر إليه في كليته ، ومن الخطأ بل من الخطل لقارئ القرآن أن لا يحيط بعمومات القرآن ، لأن ذلك سوف يربكه لا محالة ، وسوف يحجب عنه كثيراً مما ينبغي أن لا يحجب عن قارئ القرآن .

       لا أذكر فيما قرأت حول سورة النجم حديثاً أبعد المنحى الذي أخذنا به في الجمعة الماضية وإنما جرّنا إلى هذا مزيد من التدقيق في السورة ، وبكل صدق وأمانة أقول لكم إنني حين شرعت أُرتب في ذهني خصائص السورة الكريمة في البداية وأخطط للحديث عنها لم يكن يخطر في بالي أي شيء من هذا الذي قلته في الجمعة الماضية . وأحب أن أغتنم هذه الفرصة لأشير إلى شيء طال حوله التساؤل وكثرت علي فيه الملام ، للأسف حينما تكون الأمة بمجموعها على درجة ليست سارة من الرقي العقلي ومن النضج تستحسن أي شيء ، ولقد يعلم الله أنني أقل الناس اكتراثاً واحتفاءً بهذا الذي أقول ، ولكني أفاجأ دائماً هنا وفي كل مكان من يقول لي : لماذا لا تدوّن هذه الأفكار ولا تكتبها إنها حق الناس عليك . مرة أخرى أستدعي إلى نفسي شعور الأسف ، إن هذا ليس شيئاً يستحق العناية ولا شيئاً يستحق الاهتمام ، ولقد مضى الناس الذين يحق لهم أن يقولوا في القرآن ، إن القول في القرآن شديد ، وإنه لا يتنطّح له إلا من ضرب الله عليه الشقاء وسوء القول ، ولولا أننا في أمة وفي زمن كهذا الذي تعرفون ما كان لهذا الذي نقوله .

       كان الناس في الماضي حينما كانت نفوسهم نقية ونظيفة وكان التوجه إلى الله صادقاً أصيلاً وكانت المعرفة بحقائق الشريعة موفورة وكانت الرغبة في الحق هي المحور الذي يدور عليه الناس حينما كان الناس بهذا الشكل ، كان القول في القرآن ميسراً مذللاً مهيأة أسبابه ، ولا تستغربوا فالله جل وعلا يقول ( ومن يؤمن بالله يهدِ قلبه ) ويقول أيضاً ( واتقوا الله ويعلمكم الله ) فالإنسان حينما يكون على درجة معينة من الصلة بالله جل وعلا فالله جل وعلا يفتح أمامه مغاليق الأمور وينير له معميات السبل ويكشف له عن أبواب من العلم لم تكن تخطر له ببال ، ونحن لسنا هكذا ، لا تقاة ولا ورعاً ولا علماً ولا إحاطة ولا تجرداً من حظوظ النفس ورغباتها ، مع هذا فبالمعاناة والصبر وبمداومة البحث والتفكير تنقذف لنا بين الآن والأخرى أفكار ، ربما يجدها الناس جيدة ولكن تأكد أنني أفقد اهتمامي بها لمجرد أن أقولها ، ولو أنني كتبتها لفقدت الثقة بها لمجرد أن أرمي القلم من يدي ، إنني أُلاحظ وأنا أدرس معكم القرآن ووقائع السيرة أنه في مسار الطريق تتكشف أمور لو لم نكن قلنا شيئاً في البداية ثم رجعنا إليه نعاود النظر فيه ونعيد القول ثم نعود إليه مرة أخرى ومرات ما خرج معنا هذا الشيء الذي يجده بعض الناس ثميناًُ ، كيف أستطيع أن أُجاذف في أمر أجده أشق الأمور على الإنسان ؟ كيف أستطيع أن أتعجّل تدوين كلام أن أدرى الناس أو من أدراهم بأنه حينما يوضع بين يدي الأجيال يُقرأ مصحوباً بقداسة الكلمة المكتوبة ما الذي سيتركه من انطباعات ومن آثار ومن نتائج فـي نفس قراء نعلمهم وقراء لا نعلمهم الله أعلم بهم ، ثقوا يا إخوة بكل أمانة أنني كلما تصورت حالة من هذا القبيل شعرت أني أنسحب ولا أستطيع أن أتحمل هذه المسؤولية ، إن الأمر كبير .

          خذي عني وحسبك ذاك مني       على ما فيّ من عوج وأمتِ

ولولا أن الزمان منقلب فهذا المكان ليس لي ، بصدق هذا المكان ليس لي لكن زماننا منكوس ، زماننا معكوس . خذوا عنا يا إخوة وجنبونا الملامة وجنبونا الطلبات ، نحن دونما في أنفسكم بكثير ، ولكن الله جل وعلا قضى علينا أن نقف موقفاً لا نريده ، ولوددت والله لو أن بعضكم كفاني هذه المواقف ، وأني وادع مطمئن خالي الذهن من كل هذا الذي يشغله .

       فاتحة السورة كما وضعناها من جسم السورة كانت إذاً من الله حجاجاً في وجه المشركين حول موضوع أساسي من الموضوعات المبكرة التي طرحتها الدعوة وهو موضوع النبوة ، وآيات فاتحة السورة حينما سُحبت لتوضع في سورة النجم فليس لتشير إلى الحادثة البعيدة أي حادثة الإسراء والمعراج ، ولكن لتشير إلى المصدر الذي يتلقى منه رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الوحي ولتشير إلى الواسطة التي توصل هذا الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلا تقوّل إذاً ولا اختراع ولا أهواء ولا تصورات وإنما هو شعاع صادر من منبع حق هو الله جل وعلا ، ثم لا تلقّي لمحمد صلى الله عليه وسلم لا من خرافات الفرس ولا من أساطير العرب ولا من بقايا أهل الكتاب المنتشرين في الجزيرة العربية ، وإنما التلقي من أمين الوحي جبريل ذي القوة المكين عند الله جل وعلا ، فالسورة بفاتحتها لا تضع في اعتبارها تفصيل حادثة الإسراء والمعراج وإنما تضع في اعتبارها بيان أحقية الوحي وكونه صادراً من الله جل وعلا بواسطة الأمين جبريل عليه الصلاة والسلام ، فالسورة إذاً نستطيع أن نقول بعد كل المراحل والأشواط التي قطعناها إنها بالفعل من السور المبكرة في النزول جداً ، وليس صحيحاً أننا كلما عثرنا على آية من سورة تشير إلى واقعة معينة محددة التاريخ أن السورة نازلة في هذا التاريخ ليس صحيحاً هذا وإنما الصحيح أن ننظر من داخل السياق وأن نحاول من مجموع قرائن السورة أن نتعرف سيقت الواقعة بهذا الموضع من كتاب الله جل وعلا ، أمامكم كمثل حي القصص في القرآن ، كم من السور حوت أخبار آدم ونوح وصالح وفرعون وثمود وعاد وموسى وبني إسرائيل .. سور عديدة لا تكاد تخلو من سورة إلا ما ندر من ذكر هذه القصص ، الناظر المتعجل في القرآن يتصور أن ثمة تكراراً ، وهذا خطأ مبين ، في الحقيقة حينما تساق قصة أو واقعة في سورة وتساق هي بالذات بالنص أو تغيير طفيف في سورة أخرى فالغرض مختلف ، الواقعة جاءت هنا لغرض وجاءت هناك لغرض آخر ووظيفة قارئ القرآن هي أن يدرك بالحس اللطيف وباستلهام معلم إبراهيم صلوات الله عليه لماذا سيقت الوقائع هنا وهناك وما هي الأغراض التي عالجتها هنا وهناك ؟ وهـذه أعلم أنها مهمة الشأن ، عسيرة وصعبة ، لكن لا بد من المعاناة ، فالذي أريده حقاً هو أن أستنهض هممكم وأن أستثير تطلعاتكم لكي تكون قراءتكم للقرآن مصحوبة بقدر أكثر من العناية . نأتي الآن بعد هذه الملحوظة التي لا بد منها كموعظة لي ولكم ولكل قارئ للقرآن .

       نأتي الآن ونحاول أن ننظر لما تبقّى من السورة ، لكني أريد أن أعيد إلى أذهانكم بعض الآيات التي سبق أن تلوناها ليس لنشرحها ولكن لنستحضرها . حينما واجهت السورة من المشركين من العرب بالتنديد بآلهتهم والعيب لها والانتقاص منها ومنهم قال الله ( أفرأيتم اللات والعزى ، ومناة الثالثة الأخرى ، ألكم الذكر وله الأنثى ، تلك إذاً قسمة ضيزى ، إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان ، إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى ، أم للإنسان ما تمنى ، فلله الآخرة والأولى ، وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى ، إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمّون الملائكة تسمية الأنثى ، وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً ، ذلك فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى ) هذا المقطع تحدثنا عنه ، لكني أريد أن أقف عند آخر شيء منه لأشير إلـى موقفين يتباينان ، موقف المؤمنين وموقف غير المؤمنين ، فأنتم ترون من استعراض هذا المقطع من السورة الكريمة أن هذه التصورات والأفكار التي سكنت عقول العرب الجاهليين من قبل سماها الله جل وعلا ظنوناً ، شيء يظنه الإنسان ، يتخيله ويتصوره ، ولكن الله جل وعلا بيّن أمراً جوهرياً ، بيّن أن ميدان الدينيات ليس كسائر الميادين ، نحن نتعامل في الدنيا نأخذ ونعطي ، نشتري ونبيع ، نشق الأرض ونستودعها البذور ، ونضرب في الأرض يميناً وشمالاً ، تصرفاتنا هذه مبنية على حسابات وعلى تصورات وعلى خبرات وعلى تجارب ، لكن هل هذه التصورات معصومة من أن تخطئ ؟ لا ، إنك تشتري السلعة وأنت تاجر وفي حساباتك وظنك أنك سوف تربح كذا وكذا ، وأي تاجر متمرس يتهيّب أن يضع لنفسه رقماً معيناً للربح ، لماذا ؟ لأن عامل الربح تتحكم فيه ظروف متعددة لا تقع تحت الحساب غالباً ولا يمكن التحكم بها في أغلب الأحيان ، ولكن غالب الظن أن الصفقة في الأسواق وأن البيع والشراء يعود على الإنسان بربح معقول ، شؤون الدنيا مبناها على هذه القاعدة ، قاعدة العمل بغالب الظن ، ولولا أننا نأخذ أنفسنا بهذه القاعدة لبطل العمل تماماً ، لأن استخلاص الحقيقة المطلقة القاطعة في أي أمر من الأمور شيء يكاد يدخل في حد المستحيلات . هذا ما يتعلّق في شؤون الدنيا ، ولكن شؤون الدين لا تنبني على شيء كهذا التفكير وهذا التصور ، في موضوع الدينيات لا مجال لشيء غير الحقيقة المطلقة ، لأن موضوع الدينيات موضوع مصير ، لا يتناول وجود الإنسان في الدنيا وإنما يمس مصير الإنسان في الدنيا والآخرة جميعاً ، فالله جل وعلا حينما بيّن لنبيه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين أن هذا الذي تأخذ به العرب ومن نحى نحوهم إنما هو ظنون بين أمرين أو ثلاثة أمور ، كونها ظنوناً وأن الظن غير الحق ( وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً ) وأن هذا الذي يقولونه هو مبلغهم من العلم ، هو كل ما يملكون من العلم ، ولو كان عندهم شيء آخر من العلم لأخذوا به ولقالوا بمقتضاه . تدركون الآن ما أعني بتقرير هذه الحقيقة البسيطة جداً ، سأشرح لكم هذه المسألة شرحاً موجزاً .

       إن الإنسان أي إنسان ولا تتصوروا أن هذا الوصف مقصور على العرب الذين خاطبهم محمد صلى الله عليه وسلم بهذا القرآن ، الناس جميعاً جبلة واحدة ، تركيب واحد ، وإنما يتباينون ويختلفون وتتعدد مواقفهم تبعاً لظروف هي ناشئة مع نشأة المجتمع الإنساني وليست كامنة في ذات الإنسان التي فُطر عليها ، إن العرب حينما قالت هذا الكلام لم تكن تملك مبلغاً آخر من العلم تقوم به ، إنسان حينما يكون على مستوى علمي وعقلي معين يأخذ هذا الذي هو فيه متأقلماً مع هذا الجو الذي هو فيه راضياً عما وضعه الله جل وعلا فيه ، حينما تأتيه بالشيء الجديد يقع الإنسان تحت تأثير عاملين متناقضين ، عامل الثبات وعامل الجذب ، عامل الوفاء للذي كان عليه وعامل التطلع نحو هذا الشيء الجديد الذي يشعر الإنسان أن فيه شيئاً ما من الحقيقة ، الإنسان مفطور كفطرة على أنه يحب الاستقرار ، يحب أن يكون أليفاً ، يحب أن لا يغير باستمرار ، تلك فطرة إنسانية عامة لا تجد خلافها إلا على ندرة وعلى شذوذ ، والمتنبي كان يعلل خوفنا من الموت بإلفنا للحياة فيقول :

           إلف هذا الهواء أوقع في النفس أن الحمام مرّ المذاقِ

في الواقع أن الموت لا شيء فيه ولكن خوفنا من تغيير الجو الذي ألفناه وتأقلمنا معه وانصهرنا بمعطياته هو الذي يصور لنا أن هذا الحال الجديد الذي سنقدم عليه قد لا يكون مريحاً بنفس الدرجة التي نحن عليها الآن ، وهذا في الحقيقة أمر له نتائج بالغة ، الصراع بين الأجيال وفي عصرنا هذا نجد أن الصراع بين الأجيال يبلغ مداه ، والناس يتحدثون عن ثورات الشباب في الشرق والغرب عموماً ، ما سرّ هذا ؟ سرّه أن الشيوخ من الناس يحبون أن يظلوا على ما هم عليه ( ذلك مبلغهم من العلم ) وصلوا إلى مرحلة من العلم معينة فهم بها راضون ، لكن العلم متطور ومتجدد ، الأجيال الجديدة تتلقى من العلم فنوناً وقضايا ربما لا يعرفها الجيل الماضي أو لا يعرف عنها إلا القليل . سأقرب المسألة إليكم أكثر ، الطالب يبدأ الدراسة في المرحلة الابتدائية ويبقى يدرس حتى يدخل الجامعة وينتهي من الجامعة ، فإذا انتهى من الجامعة ووضع الشهادة في جيبه ذهب يطلب الرزق من الله جلا وعلا ، قلما يلتفت إلى أن يزداد علماً ، إنه يعرف أن العلم متطور وأن الدنيا تضيف الجديد في كافة العلوم ، لكنه يرى أن المرحلة العليا من الدراسة تكفيه ، الأشياء الجديدة لا يعرفها هو كما يجب وإنما سيعرفها الجيل الذي سيليه ، والجيل الذي يليه يفعل نفس الأمر وهكذا ... هنا نجد أن الإنسان الذي بلغ من السن مرحلة عالية قلما يحسن التعرّف على قضايا الأجيال المعاصرة ، فمن هنا ينشأ الصراع بين الأجيال ، جيل يريد أن يبقى محافظاً على الذي هو فيه ، وجيل يريد أن يغير لكي يتلاءم  مع مقررات العلم ، ويقيناً لو أن التفاعل كان حقيقياً بين الأجيال لانتهت هذه النقيضة الملحوظة ، ولكن الأمر كما نرى حتى الآن كما صوّره المتنبي حينما صوّر صراع الأجيال فقال عن الدنيا :

          تملكها الآتي تملك سالب      وفارقها الماضي فراق سليب

     بين الجيلين صراع ، أحدهما محكوم عليه أن ينهزم بالحسرة ، والآخر محكوم عليه أن ينتصر بكل مشـاعر الظفر ، والسبب في ذلك كما قلنا هذه الحقيقة البسيطة .

       إن الإنسان حينما تُكشف له آفاق العلم على غير الوجه الذي كان عنده ، بإضافات أخرى ربما يعارضك ، ربما يتأبى عليك ، ربما يرفض هذا الذي تقوله له ، ذلك مبلغه من العلم ، ولهذا ألحق الله جل وعلا ( إن ربك هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى ) لماذا قال الله هذا الكلام في هذا الموضع ؟ لو أننا نعيش ضمن مقررات البشرية ، لو أننا نعيش في ظلال إنسانية ، لو أننا نتحرك من منظور تقدمي ، لكان الكلام على غير هذا الشكل ، ذلك مبلغهم من العلم صحيح ، ولكن ليس ربك أعلم بمن ضلّ عن سبيله ولا هو أعلم بمن اهتدى إنما اغسل المخ ، اسحل الناس ، اقتل كل الذين يخالفونك في الرأي . تلك رعونة الإنسان ، ضيق صدر الإنسان وتعجله ، ضيق أفق هذا الإنسان . لكن الذي يتحدث هنا هو الله الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركّبك ، الله هو الذي أودع فيك القوى والحوافز والمواهب ، الله الذي يعرف بأية قوانين تتشكل قناعاتك وتتمّ تصوراتك وتستطيع أن تبني لنفسك ما تريد ، الله الذي خلقك هو أعلم بك ، يعرف أن مسألة القناعة ليست شيئاً يصب في الدماغ على شكل حقن ، وليست شيئاً يُدخل إلى قلوب الناس بالقهر والغلبة والعنف والعنفوان ، ولكنه التراكم ، تراكم الأشياء والقناعات والخبرات والتجارب العقلية هو الذي سوف يولّد قناعاتك . خذ مثلاً وكثيراً ما نرى هذا إنساناً منغمساً في الفسوق من فرقه إلى قدمه ، يشرب الخمور ويزني ولا يتورع عن الموبقات ، نرى نماذج من هذا القبيل فإذا نحن نستيقظ في الصباح وإذا هذا الأخ المفترى في المسجد ، نتصور أن الأمر عبارة عن كهرباء مسّت الإنسان أو شيئاً كما يقول ابن الرومي :

إن للحظ كيمياءً إذا ما مسّ كلباً أحاله إنسانا

       لا ، الأمور ليست كما تتبدى وتظهر ، هذا الإنسان الذي تراه الآن انقلب في طرفة عين من إنسان فاسق فاجر إلى إنسان تقيّ ملازم للمسجد ، هذا الإنسان أنت لم ترَ منه إلا الظاهر ولم ترَ منه إلا القشر فقط ، أما ما يدور في عالمه الداخلي من صراع ومن تناقض ، وأما ما يديره بينه وبين نفسه من حوار ومن أخذ وعطاء فكل ذلك مغيّب عنك . نتائج هذا هو هذه النقطة التي انفجر عندها التكوين الفاسد لكي يولّد الإنسان التقي المستقيم ، هذا الإنسان عشرات الأيام وربما الشهور والسنين وهو يخوض معركة قاسية مع نفسه في غاية القسوة . كثير من الناس واسألوا الفساق وحدثني كثير منهم ، واسألوا الفجرة وحدثني كثير منهم ، اسألوا الزناة وحدثني كثير منهم ، والله إن بعض الزناة رووا لي أنهم يزنون فإذا انتهوا من الزنى بصقوا على أنفسهم ، هو إنسان مغلوب على نفسه وهو يعرف في الداخل أنه مخطئ ، فهذا الإنسان حين تراه ينقلب بين عشية وضحاها إلى إنسان تقي لم يكن في الأمر شيء معجز ولا خارق ، وإنما أمر إنساني بحت ، لأن الإنسان مهما يكن شقياً أو بعيداً عن الله أو مهم يكن مجرداً من مشاعر الإنسان فهو أولاً حزمة من الأحاسيس ومن المشاعر من القوى ومن المواهب ، ولا تنسَ هذا القبس المقدس ، هذه الجزوة المباركة التي هي فطرة الله التي فطر الناس عليها . الإنسان يرضى بالذي هو فيه وفاقاً لقانون الرضى بالمستوى المعين من العلم ، لكن وظيفة الأديان والشرائع والوحي والرسالة هي أن تفتح باستمرار آفاقاً جديدة أمام ناظريك ، ربما يكون لك موقف ، لا بأس ، سيكون لك موقف بكل تأكيد ، ونحن حين نرجع إلى وقائع السيرة النبوية ونجد أن الله جل وعلا هدى على يد نبيه محمد صلى الله عليه وسلم عشرات الألوف من الناس ، ماذا نجد ؟ نجده يقول : ما دعوت أحداً إلى الإسلام إلا كان عنده كبوة وتردد . دعني أنظر .. دعني أفكر .. حتى ربيبه علي رضي الله الذي نشأ عنده في بيته حينما فاتحه بالإسلام قال له : دعني أستشر أبا طالب ، أراد أن يستشير أباه . قال صلى الله عليه وسلم : ما دعوت أحداً إلى الإسلام إلا كانت عنده كبوة وتردد إلا ما كان من ابن أبي قحافة ( أبي بكر الصديق ) فإنه ما عكم عنه ، أي ما تردد ، فبمجرد أن دعاه استجاب له . واحد من عشرات الألوف من الناس ، لأن موقفهم يخضع لهذين العاملين : تطلع الإنسان إلى أن يأخذ بالجديد وإلى أن يكون وفياً إلى مقررات العقل وإلى يكون أن وفياً لقواعد العلم ، ورغبة الإنسان بالمحافظة على الشيء المألوف . هذا التجاذب والتناقض هو الذي أوجب على المسلم وهو يدعو إلى الله جل وعلا أن يتذرع بالصبر وأن يطيل باله ولأن يوسع صدره وأن يذكر باستمرار أن الله جل وعلا جعل قلوب عباده بين أصبعين من أصابعه وأنه يكل الهداية والإضلال إلى أحد من الناس ، وهـو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء ، وأن وظيفة الأنبياء والمرسلين فمن دونهم البلاغ ولا شيء إلا البلاغ ( إن ربك هـو أعلم بمن ضلّ عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى ) ارجعوا إلى وقائع تستطيعون أن تضيفوها إلى هذه الحقيقة من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم . عمر ، من عمر ؟ هو إنسان أشد قساوة من الصخر ، وأشد جفاءً من الحيوان ، أضلّ من حمار أهله ، عمر هذا هو في الجاهلية ، وحينما بدأت بعض طلائع المسلمين تتحرك للهجرة إلى الحبشة مرّ على امرأة منهم ، قال : أين يا أم فلان ؟ قالت : إلـى أرض الله ، والله لقد قهرتمونا وضيقتم علينا . قال : صحبك الله . وكأن المرأة لمست من لهجة عمر ليناً ورقة ، فلما جاء زوجها قالت له هذا الذي قاله عمر لها . قال لها : لعلك طمعتِ في إسلامه ، إن عمر لا يسلم حتى يسلم حمار الخطاب . حينما يسلم حمار أبيه سوف يسلم عمر . لكن عمر أسلم وكان الشديد في أمر الله ، وأسلم وكان الرقيق على المسلمين ، وأسلم وكان يوم الخلافة يقول للمسلمين : إنـي أضع خدي على الأرض لصاحب الحاجة حتى تقضى حاجته . عمر بهذا الشكل أسلم ولكن بعد صراع وبعد نضال بينه وبين نوازع نفسه استمرت سنين ، النبي صلى الله عليه وسـلم يوم نكب النكبة العظمى في أحد ، ورأى ما حلّ بأصحابه من القتل والتمثيل مما لم تتعوده العرب ، إن العربي يقتلك ولكن لا يمثل بجثتك أبداً ، هـو رجل شريف حتى وهو يقتل ، العربي شريف ، ومع ذلك فإن أعصاب المكيين انفلتت من بين أيديهم من جرّاء هذا الذي جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم ، فلم يكتفوا بقتل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ولكنه مثلوا بجثث القتلى . وحين رأى صلى الله عليه وسلم هذا المنظر المؤلم القاسي أقسـم لئن أمكنه الله منهم ليمثلن بهم مثلة ما سمعت العرب بمثلها قط . ولكن محمداً صلى الله عليه وسلم ليس رئيس دولة ولا زعيم أمة ولا قائد جيش ولا تاجراً من تجار السياسة ولا أفّاقاً من هؤلاء الأفّاقين الذين يصنفون فـي قاموس السياسيين بين قطّاع الطرق ، محمد صلى الله عليه وسلم نبي ورسول ثم هو بعين الله جل وعلا ، إن كلامه محسوب على الأجيال ، وإن تصرفاته جميعاً في سجل الإنسانية ، وإن أية زلة من لسان سوف تجرّ وراءها ما لا يحصى من الخطأ والزلل . ولهذا فالله جل وعلا أنزل عليه في هذا الموقف الهائل وهو بين الآلام والأحزان والدماء والدموع ( ليس لك من الأمر شيء أو يتوب الله عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ) وبالفعل حين نتتبع تراجم رجالات الإسلام نجد أن هؤلاء الذي توعّدهم محمد صلى الله عليه وسلم وهؤلاء الذين دعا عليهم قد أسلموا جميعاً وحسن إسـلامهم وكان منهم قادة الجيوش ، كان منهم خالد بن الوليد الذي أنزل الهزيمة بالمسلمين في أُحد فكان سيف الله الذي سلّه الله على أعدائه من المشركين وكان  قائد المعارك المظفرة التي خاضها المسلمون على وجه العموم . وكان منهم أبو سفيان سيد البطحاء الذي فقد عينه في معركة اليرموك وهو يقاتل ويحرض المسلمين على القتال .

       هذا الكلام الموجز جداً ، مسألة موقف الناس من الرسالة ليست مسألة مبنية على علم ، لكنها مبنية على ظن ، لماذا ؟ لأن الناس بطبعهم يميلون إلى المحافظة على ما ألفوه ، إن تغيير الجو قد يوجد أمام مفاجأة لا تريد أن تواجهها ، فأنت من أجل ذلك تسد أذنيك وتسد عينيك عن رؤية الشيء الجديد ، ولكن على حملة الشيء الجديد وهو هنا هذه الرسالة أن لا يستحسروا أمامها هذا الواقع الإنساني ، عليهم أن يصبروا وأن يثابروا وأن يستمروا في بث هذا العلم الجديد الذي يحملونه إلى الناس ، وأن يطيلوا الصبر ، يتركوا الناس في نزاعهم مع أنفسهم ، إن موقف المسلمين ثابتون على دينهم غير مفرطين في شيء من صغيره ولا من كبيره ، وموقف المسلمين في دعوتهم إلى الله لاجئون إليها في كل وقت وفي كل موقف ، وموقف المسلمين في رقابتهم الصارمة على أنفسهم على مقالهم على تصرفاتهم معوان خير معوان على أن تكون دولة المستقبل لهذا العلم الجديد الذي ينسخ الظن الذي كانت فيه الجاهلية . إننا نريد أن نؤكد على هذا الكلام ونؤكد عليه لماذا ؟ نؤكد عليه لأننا حقاً نعيش عصراً لا أعرف في العصور أكثر وقاحة منه ولا أكثر جرأة على مقررات العلم منه ، إنك تأخذ مسلوكاً شيوعياً قذراً جاهلاً أحمق أرعن فتراه يقول لك إن الإسلام ينافي العلم وإن جميع ما جاء من عند الله جل وعلا هباء وخرافة وإن قضايا العلم ومقررات العلم تقول خلاف ذلك . هل نسي هؤلاء الناس وأشباههم كثير وكثير أكثر من الدود هل نسي هؤلاء أن فتنة العقل البشري بالعلم مضت عليها مائة سنة ، وأن العقل البشري يوم كان يقف في القرن الثامن عشر ليدل بما وصل إليه من مخترعات ومكتشفات تصاغر الآن ووضع خده على الأرض وأن كل شمس تطلع في كل يوم تضيف إلى مجهولات الإنسانية مجهولات كثيرة يقف العلم أمامها عاجزاً ، هل نسي هؤلاء الناس ذلك ؟ هل نسي هؤلاء الناس أن مقررات المذهب الماركسي الشيوعي الوسخ أصبحت شيئاً يجب أن يُلقى في مزبلة التاريخ ؟ هل نسي هؤلاء الناس أن ما يتعاجبون به اليوم من مقررات ماركس في منتصف القرن التاسع عشر أصبحت أحاديث خرافة ووهماً من الأوهام ؟ هل نسوا جميعاً أن العلماء اليوم أكثر تواضعاً مما كانوا من قبل ؟ هل نسوا جميعاً أن العلماء اليوم هم يقولون أن العلم يصف ولا يفسر ؟ هل نسي هؤلاء أن العلماء اليوم هم الذي يقولون إن العلم برمته وبجملته جملة من الحقائق والمشاهدات التي نوضع بعضها إلى جانب بعض ويستخلص منها قانون قد يُخرق وقد لا يُخرق ولكن من يحرك القانون ؟ من الذي أوجد الظاهرات ؟ ما كل هذه الظاهرات ؟ العلم يقول هذا شيء لا نعرفه . إننا في هذا العصر الذي نُواجه فيه بهذه الدعوى العريضة الوقحة نريد أن نقول للناس : خيّطوا بغير هذه المسلة . خذوا هذا الكلام ، إن العلم ليس معكم ، إن العلم مع القرآن والإسلام ، وإن ما أنتم فيه كما قال الله إنه الظن الذي لا يغني عن الحق شيئاً ، وإن موقفنا وهو موقف هل أقوله لعامة الناس أم أهمس به في آذان إخوتي وأحبابي وأبنائي من الشباب الذين عاهدوا الله جل وعلا على السير في طريقه والدعوة إلى سبيله ، ليكن للفريقين ، إن موقفنا تجاه هذه العجاجة المصطنعة محدد في هذه الآية ( فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغه من العلم ) إن الله جل وعلا في هذا الكلام الموجز كشف عن أمرين أساسيين حدد موقف الإنسان المسلم بالإعراب وكشف عن العلة التي تحرك هؤلاء الخصوم فأبان أنها إرادة الدنيا ، موقفنا نحن من حيث أننا لسنا جبارين ولسنا مسيطرين ولسنا أوصياء على الناس طبعاً ، موقفنا محدد بأن نعرض على الناس هذا الذي نحمله من أمر الله ومن علم الشريعة ومن حقائق القرآن ومقررات القرآن ( ومن شـاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) ونحن على هذا ماضون ، ولكن الله جل وعلا وضع في أيدينا السلاح ،  السلاح الأكثر فاعلية الذي يجعلنا نلمس مكمن العلة في موقف العاندين عن أمر الله على اختلاف صنوفهم وألوانهم ، إنه إرادة الحياة الدنيا ، من يا إخوة لا يعرف أن الإسلام حق وعدل وصدق ؟ من يا إخوة لا يعرف أن قضايا الإسلام هي الحق المطلق ؟ من يا إخوة لا يعرف أن هذا الإنسان هو المنقذ الوحيد للبشرية عموماً من المأساة الرهيبة التي تتخبط فيها ؟ إن جهلتم ذلك فأعداء الإسلام وخصوم الإسـلام يقرون اليوم بهذا الكلام الذي نقوله إقراراً لا شك فيه ولا شائبة ولا شبهة .  ولكن بين القناعة والعمل دنيا من المشكلات تحتاج إلى الصبر الطويل وتحتاج إلى العناية البالغة ، إن القناعة تكون مستقرة في إذننا ، سلني أليس الله موجوداً حقاً ؟ أقول لك بلى . أليس الله أهلاً لأن يُعبد ويخشى ويتقى ؟ أقول لك بلى . أليس فرض الله عليك أن تصلي ؟ أقول لك بلى . فلماذا لا تصلي ؟ أقول لك متكاسل متهاون وإلى آخر هذا الكلام . سلني لماذا لا تصف قدميك مع العاملين في سبيل الله ؟ لماذا لا تأخذ طريق الله جل وعلا ؟ أعندك في الله شك فاطر السماوات والأرض ؟ تقول لا . أعندك شك في صحة مناهج الإسلام وقدرتها وأهليتها على إسعاد البشرية ؟ أقول لك لا . إذاً لماذا ؟ أقول لك الراتب والمعيشة والخوف من السجن .. الزنزانة .. صوت الجلاد وإلى آخر هذا الكلام . فالمسألة كلها إذاً تدور أين ؟ على الدنيا وعلى إرادة الدنيا وعلى شدة الالتصاق بالدنيا ، قد يحاول الإنسان أن يغش نفسه وأن يبتدع ، والإنسان عجيب وصدقوني حينما أقول لكم إن الإنسان عجيب ، الإنسان قادر تماماً على أن يخدع نفسه بشكل لا أغرب ولا أعجب منه ، قادر على أن يسير في الطريق الخطأ ، ثم يُقنع نفسه أنه على الصواب ، قادر على أن يسير في طريق التخريب وهو يقنع نفسه أنه مصلح ، وهذا من المآسي في حياة الإنسان ، ومع هذا فنحن نتوجه إلى عموم الناس انطلاقاً من هذه الآية ، وأرى أنها يشبه أن تكون عقوبة لي من الله جل وعلا كنت أريد أن أنجز السورة الآن فتشبثت بي آخر آية ، جزء أخير من آية تشبثت بي كل هذا الوقت نحن حينما نصل إلى آخر هذه الآية الكريمة ينبغي أن نحدد أنفسنا بالآتي ،  وينبغي أن لا يغيب عن بالنا أن هذا الكلام الذي عرضناه الآن وعرضه الجزء الأخير من الآية ( فأعرض من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغه عن العلم ) يجب أن نعرف أن هذا الكلام كان يُعبّر بدقة وبأمانة عن الواقع المتحرك في المجتمع المكي حينما خاطبهم محمد صلى الله عليه وسلم . موقف المكيين الذين نفروا من دعوة الإسلام وردوها كموقف الناس اليوم الذي يحاربون الإسلام بحجة التخلف والرجعية أو بحجة عدم إمكان التطبيق بداعي أن ثمة أمماً نصرانية يمكن أن تعتصب علينا وأن تسحقنا ، وموقف الجماهير موقف الغوغاء ، هذا الكلام الذي قلته الآن والموقف الذي عرضته الآن موقف الأبالسة أي قمة المجتمع ، أما موقف الجماهير فهو موقف الغفلة والتردي في رذيلة حب الدنيا والالتصاق بالأرض ، والوفاء للطين أكثر من الوفاء لنفخة الله في هذا الإنسان . الجماهير والغوغاء كانت ترى إذا كان أبو سفيان وكان أبو جهل وكان فلان وكان فلان لا يستطيعون أن يقتنعوا بأحقية الإسلام فأين نحن من هؤلاء ؟ وهذا نحن نرى الجماهير تقوله الآن ، الغوغاء .. القمار .. عامة الناس يقولون لك إذا كان فلان الزعيم وفلان القائد وفلان الرئيس وفلان الملك ، لا يستطيعون أن يأخذوا مناهج الإسلام فأين نحن ؟ ما الذي نستطيع أن نفعل ؟ فالمواقف كما ترون متشابهة والآيات تتحرك على أرض واقعية ليست شيئأً يأتيك من فوق ولا شيء يخاطب تصوراتك وتخيلاتك ، إنما هو شيء يعبر عن واقع متحرك ، إذاً فنحن حينما نقف أمام هذا الواقع المتحرك عموماً كإخوة ، وواجب الوفاء للأخوة يتقضانا أن نقول : من ابتدأ فعليه أن يصبر ومع الصبر أن يعرف ، ومع العرض أن يتمثل بهذا الشيء الذي يقوم به ، إن أقْتل شيء بنسبة للدعوات أن يكون قولك شيئاً وفعلك شيئاً آخر ، إنه حينما يكذب الفعل القول فإن الدعوة تنتهي تماماً . فموقفنا أن نصبر وأن نعرض وأن نتمسك وأن نطمئن ، وموقف الآخرين رجاء وإهابة ودعوة ، إن الذي هم فيه من الغفلة عن الحقائق الإسلام ومقررات القرآن شيء لن يطول ، ولكن نرجو أن يساعدونا على أنفسنا ، نرجو أن يكون عندهم هذا التطلع النبيل ، هذا الحافظ الشريف الذي يكون في الإنسان حينما تُعرض عليه دعوة من الدعوات ، والله إني لقادر لو جاءني يهودي يعرض عليّ ديانته أن أنظر إليها بحرية وبأمانة ومن غير حساسيات ، فليكن موقفنا عموماً كذلك ، إننا أمام قرآن وأمام دين وأمام قضية هـي نداء الله إلى الناس قاطبة ، لماذا لا ننظر إليها بجدية ؟ لماذا لا ننظر إليها بوفاء عقلي لازم متمم لكرامة الإنسان ؟ نحن نقرأ فلسفة الفلاسفة ومقررات الاقتصاديين ومناهج الساسة نقرأها بإمعان وبدراسة وبمقارنات ونتعب عليها الأيام والليالي الطويلة ، لماذا لا ننفق بعض هذا المجهود أو شيئاً شبيهاً من هذا الاهتمام ونحن ننظر إلـى قضايا الإسلام ؟ إن الإسلام دينك ، اعرف هذا جيداً ، كل مسلم يساق إليه هذا الكلام ، الإسلام دينك ، ربما أنت الآن في غمرة وأنت ساهٍ ، تتصور ألا خوف على الإسلام ، ولكن المسألة بالنسبة إليك لم تصل بعد إلى اللحم الحي ،  للأسف ، ربما يكون جلدك سميكاً ، ولكن ثق يا محترم أن مجرى الأيام ومجرى الحوادث يسوق إليك الأذى شئت أم أبيت ، إنه سيأتي اليوم الذي تكتشف فيه بكل الصدق ولكن بفاجعة لا مثيل لها أنك فرقت في أيامك الماضية وأنه كان خيراً لك لو صففت مع إخوانك الذين يسيرون على طريق الله وأنه كان خيراً لك وأجدى لو سددت إذنيك عن دعوات إبليس هذه التي تتعاوى بها الكلاب في الشرق والغرب وأصخت السمع إلى نداء الله جل وعلا ، إنه سيأتي اليوم الذي تجد أمم الأرض فيه جميعاً تقف ضدك ، وهـذا يوم ليس ببعيد ، هذا يوم قد لا يطول شهوراً وإن طال أكثر من شـهور فسنة أو سنتان .  سوف تكتشف من أقصى الأرض إلى أقصاها أن شعوب الأرض جميعاً تعاديك لا لأنك تعيش على بحر من البترول ، ولا لأنك تعيش في قمة كنز من الذهب ، لا ، إنها تعاديك فقط لأنك تقول لا إله إلى الله ، إنها تعاديك من أجل الإسلام فقط لأنك مسلم ، ولهذا ترى الزرادشت واليهودي والنصراني والوثني جميعاً يتعاونون عليك ، إن النور عدو الظلمة وإن الحق عـدو الباطل ، والله جل وعلا ندبك منذ القديـم قال ( وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة ) كيف ترون الناس غير المؤمنين يجتمعون جميعاً ليقاتلوكم جميعاً ، كذلك أنتم فكونوا عصبة واحدة مجتمعين تقاتلون أعداء الله جل وعلا ، ومع هذا ومع هذا ومع هذا فأن أريد أن أزيد التنبيه والتكرار إننا وننحن نتجه إليكم بهذا الخطاب وإلى أمتنا المسلمة ، ليكن واضحاً أننا ندعو إلى الله على بصيرة وبينة ، وأن لنا مهمة واضحة ووظيفة محددة هي أن نجهر بهذا النداء الذي امتحننا الله جلا وعلا بأن نكون مؤتمنين عليه ، وأن ندعو الناس جميعاً مسلمهم وكافرهم إلى طريق الله تبارك وتعالى ، وليس إلينا أن يهتدي الناس ، وليس إلينا أن يشقى الناس ، فذلك إلى الله جل وعلا ، ولا نشجع ولا نرضى ولا نرغب أن يقيم أحد من خلق الله جل وعلا من نفسه وصياً على عباد الله جل وعلا ، فالله جل وعلا هو الولي فقط وأن على الدعاة إلى الله أن يطيلوا الصبر وهم يسيرون في طريقهم إلى الله مع رجاءٍ لا بدّ أن نرجوه من الناس جميعاً أن يزيدوا من مشاعرهم الإنسانية وأن يعلموا أن الجهل يتنافى مع الخصائص الأولى للإنسانية ودعك ، ليكن هذا الإسلام فلسفة الثورة الفرنسية ، ليكن هذا الإسلام شيئاً من تاريخ الثورة الروسية ن ليكن هذا الإسلام بعض من مآثر الثورة الأمريكية ، ليكن أي شيء من هذا ، أنت تقرأ كل هذه الأشياء ، تقرأ تاريخها وتفاصيلها وحياة رجالاتها وتقرأ مبادئها وتحفظها وتستوعبها وتفرع عليها وتحاول أن تقيم علـى أساسها دولاً ونظماً ، لماذا لا تجرب الإسلام ؟ تراثك .. دينك وديعة الله عندك ، جربها مرة واحدة ، ويحك ما الذي يمسك بك ما الذي يمنعك ؟ جرب أذلك أيضاً ممنوع ؟ أممنوع عليك أن تنظر وتستعمل هذا الصندوق ؟ لا ، ولكن أنت بالتصاقك بالدنيا تنفر من هذا ، فتخفف يا أخي تخفف من هذه الأوهام ، تخفف من هذه الأثقال وشد نفسك إلى الله وأدِمْ قراءة كتاب الله وأسأل الله لنا ولكم وللمسلمين جميعاً إن شاء الله تعالى أن يغرس في قلوبنا هذا الوفاء لدينه الذي يسهل لنا صعوبات الطريق ، وإلى الأسبوع القادم نأمل لم نعد نجرؤ على القول إننا ننتهي أو لا ننتهي من السورة إنما نأمل أن ننتهي من السورة إن شاء الله وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وآله أجمعين والحمد لله رب العالمين.